فلاش: صراعٌ طَبقيٌّ بعينَي كلب

  «Flush: A Biography» روايةٌ أقلُّ ما يمكن وصفها أنّها خارج الصندوق، لروائيّة إنجليزيّة استحقّت بجدارة أن تكون إحدى أيقونات الأدب الحديث في القرن العشرين، إنّها الكاتبة فرجينيا وولف، مُلهمة الحركات النسويّة، مَن وُصفَت بأنّها إحدى أرفع الشخصيّات النسويّة، التي استندت إليهنّ حركة النقد الأدبي النسوي في سبعينيّات القرن الماضي، التي لطالما أثارت آراؤها الجدل كونها عادت الساميّة والنخبويّة.

  تُعتبر روايتها هذه تتويجًا لتجاربها في تحطيم التقاليد الأدبيّة، من خلال دمج السيرة الذاتيّة مع النقد الاجتماعي، وتوظيف منظور الحيوان لتعرية الإنسان. حيث تستخدم وولف حياةَ كلب كمرآة تعكس الطبقيّة والقيود الجندريّة والعلاقة بين البشر والحيوانات، لتقدّم من خلال ذلك نقدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا للعصر الفيكتوري. وبذلك تغدو الرواية بمجملها، ورغم ظاهرها البسيط، عملًا عميقًا يجمع بين السيرة والنقد والأدب.

  اختار المُترجم العراقي «حربي محسن عبد الله» ترجمتَها، في نسخة صدرت حديثًا عن دار التكوين (2025)، بلغة سلسلة تخلو من الملل، تحت عنوان «تدفّق: سيرة حياة فلاش». ترجمة للعنوان لا أتفق معها، نظرًا لاعتماده الدمجَ في تقنيّات الترجمة، ما بين ترجمة حرفيّة «تدفق: Flush»، وترجمة بالإضافة «سيرة حياة فلاش: A Biography». من وجهة نظري كمترجمة، كان من الأدق ترجمة العنوان إلى «فلاش: سيرة ذاتيّة». تُشير كلمة فلاش هُنا إلى اسم كلب، هو بطل الرواية، الذي حكت وولف بعبقرية من خلال سيرته الذاتيّة غير المألوفة عن حياة سادت لندن آواخر القرن التاسع عشر، بكلّ ما فيها من صراعات طبقيّة تمثّلت في الرواية بين شارع ويمبول (Wimpole Street)، الشارع الذي يسوده الأمان والرفاهية والبيوت ذوات الطوابق بنوافذها الزجاجيّة، وحيّ «الكنيسة الصغيرة البيضاء» الكائن في نهاية شارع توتنهام كورت، حيث يتكاثر البؤس والفقر، وتنتشر الرذيلة والنَّصب والسرقة، دون تدخّل أحد.

  استعرضت وولف في الفصل الأوّل تاريخ العائلة التي ينحدر منها «فلاش»، وهي عائلة عريقة ظهرت منذ آلاف السنين في إسبانيا، وسردت عدّة وجهات نظر حول حكاية تسمية النوع الذي تنتمي إليه هذه العائلة، والمُسمّى «الإسبانيولي»، لتُتيح لنفسها الإشارة إلى الطبقيّة التي لم تقتصر على الفوارق بين البشر، بل تعدّتها بفعل البشر إلى مجتمع الكلاب: «ولكن إذا تمّ توجيهنا على أساس افتراض أنّ الكلاب الإسبانيولية إنّما اتبعت السوية الإنسانية فنظرت إلى السلوقي باعتباره الأرقى، واعتبرت كلاب الصيد هي الأدنى، فإنّ علينا الإقرار بأنّ أرستقراطية الكلاب قامت على مبررات أفضل مما لدى أرستقراطية بني الإنسان».

  ثُمّ انطلقت وولف في طرح مسائل عن الجندر، والسلطة، والهويّة، والنسَب، والصراعات التي تدور بين البشر: المدينة مقابل الريف، الأحياء الثريّة مقابل الفقيرة، الرجل ضد المرأة، النساء ضد بعضهن البعض، الإنسان ضد الحيوان، والبرجوازيين ضد مُهمّشي الأحياء الفقيرة في أعماق لندن. وكلّ ذلك من وجهة نظر كلب، وُلد في منزل ريفيّ متواضع، وعاش فيه الأشهر الأولى من حياته، حيث رعته الآنسة ماري راسل ميتفورد، ورأت بسبب جماله وصفاته النادرة، أنّه من منظومة الأشياء الروحانيّة غير المرتبطة بالنقود: «جروٌ مُفعمٌ بالحيويّة، مُحبٌّ للاستطلاع، عريق الأصل، من النوع الإسباني الذهبي اللون، من فصيلة الكوكر». لذلك، وبالرغم من ظروفها الماديّة الضيّقة، وأنّها تلّقت عرضًا ارستقراطيًّا لبيعه، قرّرت منحه إلى مَن تُشبهُه، في جماله الروحي وندرته وسلوكه: «نعم إنّ فلاش جدير بالآنسة باريت؛ والآنسة باريت جديرة به. إنّها لتضحية كبرى؛ لكنّها يجب أن تُضحّي».

 وهكذا انتقل فلاش إلى العيش في شارع ويمبول، في بيت آل باريت الغارق في الرفاهية، لتُصبح الشاعرة إليزابيث باريت مالكةً له، حيث قضى معها صيف 1842 في غرفة نومها، مُختبرًا معها حياةً مُنضبطةً، هادئةً، وسعيدةً. وهُنا تبدأ مقارنته بين بيوت لندن وبيته الريفي سابقًا، وبين حدائق لندن وحقول الريف حيث الجمال والحريّة في التعامل مع الطبيعة، وبين بساطة أهل الريف ورجال لندن الذين يعتمرون القبّعات اللامعة ونسائها المُتكلّفات، والفوارق الطبقيّة بين الكلاب في لندن التي لم يعرفها في الريف، فبعضها مربوط بسلاسل تقوم بنزهاتها في مركبات وتشرب من آنية أرجوانيّة، وبعضها سائب غير مُمشّط وبلا طوق ويشرب من مياه المجاري. وهُنا تنجح وولف في تصوير معاني الحريّة والعبوديّة بعين كلب، والتي ما هي سوى انعكاس للبشريّة: «كان فلاش يختلط في “تقاطع الأميال الثلاثة” اختلاطًا لا تحيّز فيه بكلاب الحانات، والكلاب السلوقيّة لأصحاب الأراضي؛ لم يكن يعرف الفرق بينه وبين كلب السمكري… لكنّه سرعان ما اكتشف أنّ الكلاب في لندن تُقسّم إلى طبقات مختلفة، وعلى نحو صارم. فبعضها كلابٌ مربوطةٌ بسلاسل؛ وبعضها كلاب سائبة. بعضُها تقوم بنزهاتها في مركبات وتشرب من آنية أرجوانية؛ وبعضها الآخر غير ممشّط، بلا طوق، وتكسب رزقها في مجاري المياه القذرة…».

  لاحظ فلاش أنّه رغم الرفاهية، ثمّة ظلامٌ تعيش فيه الآنسة باريت منعزلةً عن عالم الرجال، وسط إهمال أهلها لها ولمعاناتها؛ إذ كانت تُعاني من مرض غامض وعزلة بسبب سيطرة والدها المستبد. يصبح فلاش صديقها الوحيد، وعلى الرغم من انعدام المقدرة على التفاهم بالكلمات، ينشأ بينهما ارتباطٌ عاطفيٌّ عميقٌ يتجاوز حدود اللغة، فيشعر بالأمان في ظلّ وجودها، كما تشعر هي بالأُنس في ظلّ وجوده. تؤنسن وولف فلاش، وتمنحه مشاعر إنسانيّة، فتصوّر غيرته من سيّدته (صوتها، قدرتها على الكلام، قدرتها على الكتابة والتعبير، حركات يدها… إلخ)؛ وعليها، وذلك بعد ظهور الشاعر روبرت براونينغ في حياتها، في الفصل الثالث الذي حمل عنوان «الرجل المقنّع». حينها تتحسّن صحتها بفضل علاقتها العاطفية ببراونينغ، ويلاحظ فلاش التغيّرات التي طرأت على حياتها، وتفاصيلها، وبهجتها، وانشغالها ببروانينغ إلى درجة تُهمله، لذا يشعر بالتهميش والغيرة، ويستشيط غيظًا، ويغدو سلوكه عدوانيًّا، فيحاول التمرّد عبر محاولة عض براونينغ. لكن، لا تفهم الآنسة باريت سبب تغيّره! وعلى العكس توبّخه، وتُعاقبه، وتتجاهل تودّده إليها باستهزاء. في النهاية، يستسلم ويستكين ويُقرّر التودّد إلى براونينغ. هُنا يكسب مجدّدًا قلب سيّدته، خاصة بعد حادثة اختطافه المفصليّة في الرواية، التي تُضيء وولف من خلالها، على عمليات خطف الكلاب التي شاعت في عهد الملكة فيكتوريا (1837-1901)، حيث كانت تُطلب فدية بالجنيه الإسترليني مُقابل تحرير الكلب، تُحدّد قيمتها بناءً على نوع الكلب وندرته.

 يُختَطَف فلاش أثناء مرافقته الآنسة باريت في إحدى جولات التسوّق، ويَسُوقه خاطفوه إلى حيّ «الكنيسة الصغيرة البيضاء» الفقير، في شارع توتنهام كورت. تتعقّد مع هذه الحادثة مجريات الأحداث، وتنطلق الصراعات ما بين الشارعَين، وما بين الأرستقراطيين والمحتالين المحترفين؛ في إشارة ذكيّة إلى انتهاك الملكية البورجوازية والأمن الداخلي للبلاد، وتصوير التسلسل الهرمي للحيوانات، المُشابه لتقسيم البشر إلى طبقات اجتماعيّة، في عالم مزدوج هَزلي قائم على لعبة الحظ لحظة الولادة، التي تقرّر مصير الكائن طوال حياته سواء كان إنسانًا أم كلبًا، أم كلبًا إنسانيًّا!

 ترفض عائلة باريت دفع الفدية لتحريره، التي قُدّرت في البداية بعشرة جنيهات، أي ما يعادل مُرتّب ليلي ويلسون «وصيفة الآنسة باريت» لسنة كاملة، وهُنا تنبّهت الآنسة باريت إلى فظاعة البشر، فزادت الهوّة بينها وبين أهلها من جهة، وبينها وبين لندن من جهة ثانية. وتطرح وولف من خلال ذلك فكرتين جوهريتين: الهوّة بين الطبقات في لندن الفيكتورية، وازدراء الأثرياء لحياة الفقراء مقابل تقديسهم لملكية الحيوانات الأليفة.

  بمساعدة وصيفتها نجحت الآنسة باريت في دفع فدية باهظة لاستعادة كلبها، بلغت ستة جنيهات إسترلينية، ثمّ هربتا معًا بصحبة فلاش، بعدما قرّرت وبراوننغ الزواج، والرحيل إلى إيطاليا، هربًا من سيطرة والدها. قرار مثّل اللحظات الأخيرة من عالم قديم، والانتقال إلى مجتمع حَداثي جديد.

 عَبَر فلاش مع السيّد والسيّدة براونينغ أوروبا بالقطار، في إشارة إلى بدايات عصر الحداثة الصناعيّة في أوروبا، وصولًا إلى إيطاليا، حيث التحرّر من بروتوكولات المجتمع الملكي وقيوده، ما انعكس إيجابًا على مظهر وسلوك السيّدة براونينغ، إذ تتعافى من مرضها تمامًا وتجد حريتها. على عكس الوصيفة ويلسون، التي بقيت لمدّة محافظة على توازنها الأنجلوسكسوني، في إشارة إلى صعوبة تحرّر الفرد من أغلال العبوديّة. يتحوّل فلاش بدوره إلى كلب أكثر انفتاحًا بعد اختلاطه بكلاب الشوارع الهجينة، وخوضه لتجارب جديدة في بيئة مختلفة.

  تتوالى الأحداث التاريخيّة الهامّة التي شهد عليها فلاش، وسردتها وولف بذكاء عالٍ من وجهة نظر وفهم كلب، وأهمّها تظاهرات حركة توحيد إيطاليا (Risorgimento) في فلورنسا، حيث تصوّر انشغال البشر، مقابل عدم اكتراث فلاش، وانصرافه للانشغال بحياته البسيطة ككلب، مستهزئًا بكلّ ما يحدث. وبذلك نجحت وولف من خلال هذا المشهد في نقد اهتمام البشر الزائد بالصراعات، مقابل بساطة الحياة الحيوانيّة؛ مع رسالة مُبطّنة لما يجب أن تكون عليه حياة البشر من بساطة: «لم يمضِ على وجودهم في فلورنسا وقت طويل، حتّى سمعوا ذات ليلة صياحًا، ووقع أقدام تدّك الشارع، وضجيجًا مُتعاليًا فهرعوا إلى الشرفة، ليروا ما حدث. كان هناك جمهورٌ كبيرٌ، أناسٌ يحملون رايات ويصرخون ويغنّون… حاول فلاش أن يبتهج ما بوسعه… ثمّ أحسّ بالملل يستولي عليه، فسأل نفسه: فيمَ كلّ هذا؟ من هو هذا الدوق الأعظم، وما الذي وَعَد به؟ ولماذا يهتاج هؤلاء جميعًا على هذا النحو الأخرق؟ …وحين مرّ الدوق الأعظم من أمامهم، انتبه فلاش إلى كلبة صغيرة تقف عند الباب… انسلّ نازلًا من الشرفة، وخرج، مُتعقبًا الكلبة بين الرايات والجماهير…»

 تُتابع وولف في رصد الأحداث، وصولًا إلى حَمل السيّدة براونينغ وولادتها، ومن ثُمّ مرض فلاش، وموته في النهاية، وفق مشهد تتصاعد لغته الشعريّة، بما يعكس الحالة الوجدانية العالية للسيّدة براونينغ، وامتنانها لوجود فلاش خلال حياتها، إذ لم يكن يومًا بالنسبة لها مجرّد كلب، بل انعكاسًا لذاتها، وسبيلًا لخروجها من تعاستها: «…كانت قد نَظَمت هذه القصيدة ذات يوم قبل سنين في شارع ويمبول، وهي في حالٍ تعيسةٍ جدًّا. إنّها سعيدة الآن. يسير بها العمر نحو الشيخوخة، وكذلك فلاش… إنّهما شقّان مختلفان مُتقابلان… لعلّ أحدهما يُكمّل الآخر، لكنّها امرأة، وهو كلب. استمرّت السيّدة براوننغ تقرأ، ثمّ نظرت إلى فلاش مرّة أخرى، لكنّه لم ينظر لها! إنّ تغيّرًا فائقًا قد اعتراه، فصاحت: فلاش!»

 «تدفّق: سيرة حياة فلاش» سيرة ذاتيّة غير مألوفة، تتبّعت من خلالها وولف بلمسات خياليّة حياة كلب، لتصوّر من خلالها بطريقة ساخرة وغير مباشرة، وبعبقرية متفرّدة، برجوازية العصر الفيكتوري، وتناقضاته اللاإنسانيّة، والمجتمع الهزلي الذي حكمه.