تستيقظ الأقليّات عبر الدول والقيادات والأحزاب والإعلام والجمعيات والمنشورات والخرائط وتجارب الحروب حيث الأرباح والخسائر المدروسة والمستوردة وتراها مظاهر ودوافع لافتة وجاذبة لأحلام الرأي العام المحدّد والمستهدف في التركيز الإستراتيجي على اللغة والثقافة والعادات والتقاليد…ونبش تواريخ الحروب والاختلافات القديمة المجهولة من الأجيال.
سؤال:
ألا نتذكّر كيف ومن كان يفتح الأبواب في عصر العولمة منذ ما سُمّي ب«ثورات الربيع العربي” وتداعياتها الكارثية، فكان أن سقطنا بإسقاط بغداد عاصمة العرب العظيمة إلى كردستانيين، فضلاً عن كردستان أخرى كانت موجودة بالفعل، واحدة شمالي العراق، لا يربطها بالحكومات المتقلّبة سوى شهوات اقتسام النفط، وثانية تقلّبت وتتقلّب بين النيران وغموض المستقبل ولو رُفعت لها يافطة سميت ب كردستان الغربية، وثالثة تتلوّى بين المصالح والأحلام ووقائع الجغرافية تبعاً للقوى المتجمّعة هناك ومنها وفيها أوجلان وأردوغان لنتابع وقع حرف النون أصداء مخيفة في سورية ولبنان والسودان الذي سبق تلقّفه الكوارث عبر بقعتين وحروب تتجاوز ال…..(املأ الفراغ). هكذا إذن، ولينقطع الحبل ب “نون” فلسطين الطافحة بالشقاء والخرائب تحلم بالعرب يتجددون في جرن نونها، وغزّة تجترّ دماء الكوارث نيابة عن الدنيا.
متعددة أصوات الأقليات المرتفعة تجدّد شهواتها للنضال بهدف الانفصال ونسيان الحقوق المشروعة، مع أنّ شبه انقراض مقيم حتّى لغوياً بين كان وما زال وأصبح بما يجمع الشقاء بين الماضي والحاضر والمستقبل. يتجدّد الزمان العجيب في لبنان والعراق وخصوصاً وتحديداً في سوريا نبض التبدّلات الديمغرافية الجديدة المتدرّجة وتتجاوز بمفاجآتها وتعقيداتها معظم الخرائط والمشاريع. تلك معضلة ديمغرافية قديمة تتجدّد وستورث الأقليات والأوطان انحطاطا وأحقادا ودماء تتجمّع في اختلاط النازحين يتدفقون بين عرب وعرب أو يفرون نحو العواصم الغربية يمضغون الذل والقهر “عسلاً” في غير أوطانهم وتواريخهم الجديدة وواوات وحتى تتعب الواو ممّا سيأتي عندما تتجمّع الأحقاد التاريخية وتبيض ما لا ندركه من كوارث.
تتعثّر هذه المعضلة الهائلة بمشقّتين متناقضين:
توحيد مكونات بنى الأقليات المحكومة بانقسامات داخلية حادّة من ناحية، ومشقّة قدراتها الذاتية على الانفصال أو الانقسام عن الأكثريات ولو افتقرت الأكثريات إلى إستراتيجيات صيغ الجمع والتوحّد كما يشهد التاريخ، فتبقى خارج دوائر السلطة الموّحدة القائدة. بالمناسبة أصاب صديقي الكاتب سمير عطالله وقد تزاملنا في مجلة “المستقبل” في باريس عندما كتب رافعاً عنواناً لمقالته مختصرها:” ليس لطيفاً أن تكون في الأقليّات”. أردد وراءه ومع جدّنا فارس الخوري رحمه الله ب: نعم، وأكثر من ذلك: لا قيمة لي عندما أنحشر في الأقليّة محتقراً التنوّع في عجينة فلسفة الوجود الإنساني الأوّل منذ خلقه. واستطرادا أيضاً: لربّما من صفات التخلف أن أرذل نجاح حضارة اختلاط اللغات والثقافات المتضافرة في عصرنا التواصلي إذ تجعل البشرية صديقاً لك فتحاورها وتجاورها لكنّك لن توحدها بالمعاني السياسية والقوة الدولية ومطامع الكبار وغيرها مما لسنا ندري.
خارج هاتين المشقّتين، يمكننا معاً تعداد الكيانات الصغيرة التي حرمتها الحروب والصراعات المزمنة من العيش في الاستقرار. هناك قناعة أو فكرة أو إمكانيّة تتردّد بحكم الدول المتسطّحة جنوبي المتوسط، على تنوع ساكنيها، في صيغةٍ أو سلطةٍ واحدة لكنها مستحيلة لكأنها تذكّرني مجدّداً بالباب أو الأبواب “العالية” المنقوشة بقرونٍ من الصراعات والحروب القذرة.
هناك أفكار حماسية موروثة تجعل معظم الأقليات متشابهة غالبا مثل التمايز والاختلاف اللغوي والاجتماعي والثقافي. هكذا يرتفع الهمس نحو الصراخ بالافتراق عن الأكثريات كما يحصل لما يتجاوز الأسف في لبنان اليوم إذ نجد أقليات معززة وأخرى مقموعة، للأولى تاريخها ولغتها ومدارسها وصحفها ووسائل إعلامها وأناشيدها، وللأخرى سريّتها وقهرها وصراعها الدائم بين جهة وأخرى أو بين الحقوق والواجبات في المجتمعات الصغيرة التي تضمّها. علينا التمييز الحذر جدّاً بين الأقليات من ناحية وبؤس المهجّرين والمهاجرين أو النازحين أو المجموعات الدينية أو الإثنية المتكتّلة وغير الثابتة، من ناحية أخرى، تتحرك وفقاً لوطأة الحروب المستوردة وردود الفعل أو التطورات الاقتصادية كما يحصل مع فلسطينيي الشتات أو الفيتناميين والكمبوديين أو الإيرلنديين أو الإسكندنافيتين والإلمان والسلاف والإيطاليين واللبنانيين والعراقيين والسوريين في بلدان العالم. صحيح أنّ تأسيس الجمعيات والحملات والاحتجاجات وحتى اقتناء السلاح هي ردود أفعالٍ تفاقم التجذّر في الخصوصيات اللغوية والدينية والثقافية والفولكلورية فتبقى واحدة، لكنها قطعا هي محاولات تورث أصحابها الأثمان الدموية والإنسانية المكلفة، وربّما تترك نزاعات تاريخية خطيرة تستدعى تدخل الأمم الخارجية المباشر فتتشابك لتسقط المقولة التاريخية الراسخة التي ترجّح الغلبة للأقوى فيبطل شعار “القوة مساوية للحق”.
يمكنني، أن أضع خطّاً أحمر تحت المسألة الكردية في العراق وسوريا وتركيا وإيران كفرضيّة متجدّدة تعيد جمعهم على تنافرهم في المنطقة الأكثر التهاباً فوق خريطة العالم، وفيها تتورط وستتورط أيضا الكثير من الدول الإقليمية والعالمية أو تقلق، لتستيقظ أحلام الأقليات مجدداً بقوة في أحضانها كما يحصل لتروّج للأفكار التقسيمية والخرائط والخطوط المتجددة التي تجعل الأقليات وقوداً، بينما العالم لا يبحث سوى عن نظامه وحصصه الجديدة.
لماذا؟
لأنّه ملف يعني مجموعات من الدول العظمى الواقعة كلها في دوائر الضغوط والصراعات التي لم تعد مخفيّة بين الغرب والشرق. يدور البحث في أمريكا على توسيع المحاور الانفصالية عبر القول بضم كندا ليطاول الأمر بلاداً قد لا تخطر في بال، ويمكن دائما وضع الإصبع فوق أراضي النفط والغاز ، كي لا ننسى أنّ حيث هناك أقليات سيقوى الحضور الإستراتيجي وصناعات الأسلحة والحروب والغزوات الصغيرة والكبيرة مهما إدّعى العالم عزوفه عنها.
من الطبيعي، أخيرا التنبيه كيف يغلب راهناً أحوال بعض المسيحيين والدروز والأقليات في الشرق حيث السياسات الجاذبة بل والحاضنة والحامية لبعض السياسيين والأحزاب ووسائل الإعلام والإعلاميات خصوصاً والإعلاميين ليتكشّف الحلم الأسود دولاً صغيرة أو أقاليم متعددة منفصلة ممكنة التحقيق ، لكنها، ستورث تجدد الدماء وهي لا ولن تدوم فوق تلك الجغرافيا الشاسعة المشتتة والمشتعلة لمصلحة الآخرين.