هل يشوّه الفلاسفة الأوهام لتحويلها إلى حقائق؟
إن الفلسفة التي تهدف إلى فضح الأوهام والقضاء على التشويهات التي تلحق بالإنسان في المجتمع، تجد أنها هي أيضًا قد تصبح نوعًا من التشويه الذي يحوّل الأوهام إلى حقائق. كما تكتشف أنه إذا ظلت مجرد وجهة نظر، فإنها ستبقى عاجزة، ليس عن فضح تلك الأوهام وانتقادها، وإنما عن القضاء الفعلي على ذلك التشويه.
إذا أردنا أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا، فهذا يعني أننا يجب أن نتخلى عن وضع يحتاج أساسًا إلى تلك الأوهام. وهكذا، تصبح الفلسفة تأويلًا للعالم ولغته، وليست مجرد تأويل لتأويل، فلا تسهم الفلسفة في تغيير العالم، وإنما تسعى لتغيير تفسير العالم.
الشعر هو فن يعتمد على الكلام المنظوم وفق وزن دقيق، مما يضفي عليه طابعًا جماليًا. أما فلسفة العلم، فهي مصطلح حديث يهتم بالبحث في الأصول والمبادئ والفروض التي يقوم عليها العلم.
ورغم الاختلاف بينهما، إلا أن هناك علاقة تجمع بين الفلسفة والشعر؛ فالفلسفة هي أم العلوم وكل التخصصات، سواء العلمية أو الفنية. وهذا الاختلاف بين فلسفة العلم والشعر يجعل من الصعب إيجاد باحث متخصص في كلا المجالين، لأن لكل منهما أدواته الخاصة. ويبقى الجسر الذي يربط بينهما هو القدرة على توصيف الحالة الإنسانية.
غاستون باشلار من أبرز فلاسفة العلم في العصر الحديث، إلى جانب كونه عالمًا فيزيائيًا وإبستمولوجيًا، فقد كان أيضًا شاعرًا مهتمًا بالأدب، حيث يظهر حسّه الشعري العالي في كتاباته، التي تتسم بنزعته الجمالية. فهو من الفلاسفة الذين انبهروا بالشعر وجعلوا منه مادة لبحثهم وتأملهم، حتى أصبح الخيال عنصرًا جوهريًا في مشروعه الفلسفي والعلمي والجمالي.
باشلار رجل عبقري، تتسم حياته بتميز واضح، وعقله باليقظة الدائمة. كان متواضعًا لدرجة أن قلائل من معارفه يتذكرونه في شبابه. بدأ مسيرته ببطء من وظائف حكومية صغيرة، حتى وصل إلى أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون.
سيبقى باشلار ذكرى خالدة لكل من عرفه وعاصره. كان ذلك الشيخ الحكيم ذو اللهجة الريفية الواضحة، محبوبًا بين طلابه، وقد كرّس حياته لهم بتفانٍ منقطع النظير. لم يكن يختلط كثيرًا بأقرانه، أما في حياته الخاصة، فكان جيرانه يتذكرونه باعتباره العجوز الذي كان يحب شراء اللحم والسمك بنفسه.
حياته العلمية:
تلقى باشلار تعليمه الجامعي وحصل على كل الدرجات الجامعية ليصبح في النهاية أستاذًا في الجامعة. كان خلاّقًا ومبدعًا في فرنسا، ولم يترك لنفسه أي فرصة للخضوع للثقافة التقليدية التي تخضع لها الجامعة، أو أن يحصر نفسه في أساليب أكاديمية جامعية مؤطّرة بمنظومة الجامعة. بل كان متجاوزًا لكل هذه الأساليب التدريبية. فقد جعل تفوّقه العقلي منه مشروعًا تنويريًّا في كل مشاريعه الأكاديمية. وفي الوقت نفسه، كان مبدعًا في انتقاء موضوعاته وطرق معالجتها.
من عالم العقل إلى عالم الخيال
انطلق باشلار في أبحاثه حول العلم والفلسفة والإبستمولوجيا ليدخل مجالًا آخر، هو الفن، سواء في الشعر أو الأدب. حاول أن يجد فلسفة للفن بعد أن صاغ فلسفة للعلم، وهذا ما أدى إلى طرح إشكالية الانتقال من العلم إلى الشعر في فكر باشلار، وكيف ربط بين فلسفة العلم وفلسفة الشعر، وما جوهر تلك العلاقة بينهما.
كان باشلار مهتمًا في إبستمولوجيته بالعلاقة بين الفلسفة والعلم، في ظل التطورات الحاصلة في القرن العشرين. وكان مستقبل باشلار في تلك المرحلة يبدو واضحًا، خاصة أن تخصصه كان في فلسفة العلوم. لكن الأمور لم تسر كما أراد، خاصة بعد صدور كتابه النار في التحليل النفسي. وقتها، كان يخشى ردود الفعل على ما كتب، خصوصًا بعد تعيينه مدرسًا لفلسفة العلوم. ومع إصراره على التوجه إلى التحليل النفسي غير التقليدي، استطاع تجاوز تحديات التجريب وتفوّق في المجال الذي اختاره.
وفي السنوات التي تلت صدور النار في التحليل النفسي، نشر باشلار أعمالًا أخرى لها الطابع نفسه، مثل: الماء والأحلام، الهواء وأحلام الرؤى، والأرض وأحلام يقظة الإرادة. خلال هذه الفترة، تحوّل باشلار من عوالم العقل والعلم إلى عوالم الخيال والشعر.
يتضح أن باشلار كان فيلسوفًا موهوبًا، لكنه كان يميل بشدة نحو عالم الخيال والشعر. فعلى الرغم من براعته في الفلسفة، كانت كتاباته تشير إلى توجهه نحو عوالم الشعر والخيال. وتعكس عناوين كتبه هذا الميل، فهي تدل على أنه قد وجد ضالته في الشعر، وأن نصوصه تمزج بين الشكوك الفلسفية ورحابة المفردات اللغوية التي كانت مدخلًا لعالمه الإنساني.
أكد باشلار على ضرورة التوفيق بين الفكر الشعري الواضح والفكر العلمي الهادئ، معتبرًا ذلك دعوة صريحة للجمع بين البحث العلمي والبحث الشعري عن طريق الفلسفة. كما أكد على أن الصورة الشعرية ليست مجرد وهم أو خيال، بل يمكن أن تتحول إلى مادة ذات مضمون من خلال التحليل ومنحها بُعدًا ماديًا ملموسًا.
الخيال الشكلي والخيال المادي
لقد ميّز باشلار، الشاعر، بين نوعين من الخيال: الخيال الشكلي والخيال المادي. وقد رأى أن كليهما فاعل في الطبيعة وفي العقل الإنساني. في الطبيعة، يُنتج الخيال الشكلي كل الجماليات غير الضرورية، مثل الأزهار. أما الخيال المادي فيهدف إلى عكس ذلك؛ حيث يسعى إلى إنتاج ما هو بدائي وخالد في الوجود.
أما داخل العقل الإنساني، فالخيال الشكلي مُغرَم بالطرافة والخيال الخلّاق المملوء بالتنوع والدهشة للأحداث، بينما يرتكز الخيال المادي على عناصر الاستمرارية في نظرته إلى الأشياء. فالخيال المادي، سواء في الإنسان أو في الطبيعة، يفرز بذورًا، وفي تلك البذور يكمن الشكل بعمق في المادة.
وقد نالت صور الخيال الشكلي – صور الأشكال الحرة – اهتمامًا كبيرًا من الفلاسفة دائمًا. ولهذا، كان باشلار يشعر بأنه يقوم بعمل متقدم حين يدرس “صور المادة”. هذه الصور تتضمن بطبيعة الحال عنصرًا شكليًا، إلا أنها، بحسب باشلار، هي الأشكال المباشرة للمادة، والتي تأتي مترابطة معها وليست منفصلة عنها.
كان باشلار واعيًا بضرورة جذب انتباه الفلاسفة إلى الخيال المادي، حيث رأى فيه مفهومًا جديدًا يتطلب القيام بدراسة فلسفية شاملة للإبداع الشعري. بعبارة أخرى، انصرف باشلار عن فلسفة العلم إلى فلسفة الفن وعلم الجمال.
الفيلسوف غاستون باشلار، الذي تطور فكره عبر الموضوعات الأساسية لفلسفة العلم، وتابع مسار العقلانية الحديثة النشطة، كان يؤمن أن النسيان فطرة إنسانية، وقد اعتبره بعض الفلاسفة نعمة. بينما تبقى الصورة الشعرية لديه حلقة الوصل بين العلم والنسيان، أي علاقة جدلية.
كان باشلار يتخلى عن عاداته في البحث الفلسفي لرغبته في دراسة المسائل التي يطرحها الخيال الشعري. ففي هذا المجال، لا أهمية للماضي الثقافي. وقد وجد باشلار أن الجهد الطويل في تجميع وبناء أفكاره لا فائدة له هنا.
كان عليه أن يتقن فن التلقي، تلقي الصورة بمجرد ظهورها. فإذا كان لا بد من وجود فلسفة للشعر، فعليها أن تظهر وتعاود الظهور من خلال شعر ذي دلالة، عبر ما يمكن تسميته “الصورة المنعزلة”، حتى تكون أكثر دقة.
علاقة الصورة الشعرية والفلسفة:
عند الحديث عن العلاقة بين الصورة الشعرية والفلسفة عند باشلار، علينا التفكير مليًا في الأعماق الكامنة للاوعي، التي لم تكن هناك أسباب واضحة أو ظاهرة للعيان. فالصورة الشعرية لا تخضع لاندفاعات داخلية كما هو متصور عند الكثير من النقاد، وهذا ليس دقيقًا على الأقل في علاقة باشلار مع الصورة الشعرية. كما أن الصورة الشعرية ليست صدى للماضي. بل على العكس، فمن خلال توهج الصورة يتردد الماضي البعيد بالأصداء، ويصعب علينا معرفة، إلى أي عمق سيتم إرجاع هذه الأصداء وكيفية تلاشيها.
وأعتقد أن هذا التلاشي عند باشلار مدعوم بالحذر والحصافة العلميتين كمنطلق لتأسيس ميتافيزيقا الخيال. إن هذا الموقف الحذر هو موقف عقلاني، ومجرد أزمة يومية، كنوع من الانفصال في التفكير. ورغم أن هذا الانفصال مجرد وقفة تأملية قائمة على بناء الصورة الشعرية، التي تحتوي على المفارقة الكلية لظاهرتيه الخيال، فإن هذه الملاحظة تؤكد الفارق الأساسي بين الصورة المطلقة المكتفية بذاتها، وبين الصورة التالية للتفكير والمكتفية بتلخيص أفكار قائمة: “هذه الزهور، التي تنمو في مهد قطني، ذات لونين: قرنفلي وأبيض، وهي صغيرة ورقيقة. أنني أنزع كأس الزهرة الداخلي الصغير بواسطة شبكة الخيوط الحريرية التي تغطي الكأس“. (2)
إلى هذا يمكن اعتبار هذا النص موضوعيًا، ولكنه يتحول بعد ذلك إلى نص سيكولوجي، ثم بالتدريج يرافقه حلم يقظة: “تقف الأعضاء الذكرية الزهرة الأربعة منتصبة، في علاقة ممتازة مع بعضها، خلال شبه المشكاة التي تكونها الشفة السلفي، حيث تظل الأربعة مستكنة ودافئة في حجراتها.” (3)
هنا يقطن الشاعر باشلار الصورة الجمالية الرائعة في التعبير الذي يخلق إيقاعًا شعريًا موسيقيًا مبهرًا في مجمله. وهذه الصورة لا تغير وضع الواقع الفكري والفلسفي، على غرار ما فعل غاستون باشلار.
باشلار سحره الشعر
وحين يكتب باشلار شعرًا، يتجاوز الفلسفة لقناعته أن الصورة الشعرية هي الأكثر تعبيرًا لرؤيته الإنسانية. أما أجمل ما عبَّر عنه باشلار عن الصورة الشعرية، حين قال: “للصور العظمى، إذ هي دائمًا مزيج من الذاكرة والأسطورة، وهذا يعني أننا لا نعيش الصورة بشكل مباشر” (4). والواقع أن لكل صورة عمق حلمي يعيدنا لسبر أغوار النفس البشرية، ويُضاف إلى هذا العمق الفلسفي لدى باشلار في فهمه للصورة الشعرية أن لكل صورة تاريخًا شخصيًا، تمتلك لونًا خاصًا بها.
بعد أن وضع فلسفة للعلم، أراد البحث عن فلسفة للشعر تقوم على المنهج الظاهراتي، ويحاول ربط الشعر بالكتابة التي يراها ضرورية، ويرى أن تحليل الصور الشعرية يؤدي إلى غنى الكتابة والإبداع الفكري، مما يؤدي إلى حركة اللغة وغزارتها. فباشلار يحاول الانتقال من لحظة التعبير الشعري إلى الوعي الإبداعي، من العلم إلى الشعر إلى الكتابة. حاول باشلار تركيب العلاقة بين العلم والشعر عن طريق الفلسفة، فهو يريد أن يفلسف الشعر بعد نجاح فلسفة العلم التي جاء بها.
وبما أن الواقع الفعلي يمثل هنا في وحدة الرؤى الشعرية لباشلار، فإن الإنسان ذاته يحشر في هذه الوحدة والانسجام. وبما أن الفلسفة توجد في التناقض، فإذا كانت مهمتها أن تفضح التشويهات التي يتعرض لها الإنسان، فإن باشلار يفضح هذا السلوك الإنساني المتجسد في التشويه الفكري، ويسعى ما وراء الحقيقة؛ أي أن تكون صورته الشعرية إقامة حقيقة لرؤيته للعالم.
فلاسفة مهتمون بالعلاقة بين العلم والشعر
هناك فلاسفة بارزون تأثروا بالشعر وأدخلوه ضمن مشاريعهم الفلسفية، مثل: مارتن هايدغر، الذي اهتم بالشعر وأرى أن الشاعر وحده هو القادر على اكتشاف الحقيقة الكامنة في الوجود. كان للشعر دور مركزي في فلسفته حول مسألة الوجود. وموريس بلانشو، الذي ربط بين الكتابة الأدبية والفلسفة، واعتبر أن للأدب قدرة على الكشف عما لا يمكن للفلسفة التعبير عنه. وإيمانويل لوفاس، الذي اعتبر أن الشعر هو الوسيلة الأساسية للكشف عن الحقيقة الوجودية للإنسان. وجان بول سارتر، الذي وصف الأدب بأنه “فلسفة بالأفعال”، معتبرًا أن الكتابة الأدبية هي طريقة للتعبير الفلسفي. وبناءً على ذلك، نجد أن عددًا من الفلاسفة المعاصرين قد أولوا اهتمامًا كبيرًا بالشعر وأدخلوه ضمن مشاريعهم.
صفوة القول، إن باشلار ذهب إلى الشعر ليثبت أن الفلسفة شكل من أشكال الأيديولوجيا، وأنه ككل الأيديولوجيا لا يتجسد في أجهزة اجتماعية معينة، ولا يتمتع بأي استقلالية ذاتية، ولا يقوم بأي دور. كما أن باشلار لعب على فكرة الزمن في صورته الشعرية، وهنا من المفيد التذكير بما قاله فوكو: “وحينئذٍ ستلقى على عاتق الفكر مهمة التخلي عن القول بأصل للأشياء، ولكن تجلى هدفه في تأسيس الأصل، وذلك باستعادة الكيفية التي تتشكل وفق إمكانية الزمان“.
فالزمن عند الفلاسفة فكرة غير متناهية، وإن كانت هذه الفكرة لا تتعارض عند الشعراء، إلا أن باشلار دمج بين الممكن الفلسفي والروح الشعرية التي لا تحدد إطارًا للممكن. فالشعر روح تحلق في فضاءات لا يحددها إلا روح الشاعر، لذا لجأ باشلار إلى الشعر، للذهاب بعيدًا بروحه القلقة للشعر، فكان شعره فلسفة مركبة على أجنحة الشعر