فرنسا والسعودية تدفعان بحلّ الدولتين وقرار تاريخي لبريطانيا بعد “وعد بلفور”
رغم تأجيل سابق، اعتُقد إنه إلغاء، تمسّكت باريس والرياض بعقد مؤتمر في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في تموز (يوليو) الماضي لإعطاء دفعة نوعية أممية لمسألة إقامة دولة فلسطينية. قام المؤتمر على أكتاف فرنسا، إحدى أهم

الدول الغربية والأوروبية والصناعية والنووية والعضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، والسعودية، أكبر دولة إسلامية وعربية نفوذا في تقرير مسار هذا الملف وهي الدولة المتحالفة مع الولايات المتحدة والصديقة للرئيس دونالد ترامب. واللافت أن المؤتمر عقد في أعقاب قرار مثير الجدل أعلنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكروت، بشأن عزم فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول (سبتمبر) الجاري.
فرنسا السعودية: المؤتمر العاجل
عوّلت باريس والرياض على تحقيق خطوة مهمة من خلال أعمال “المؤتمر الدولي رفيع المستوى لتسوية القضية الفلسطينية بالطرق السلمية وتنفيذ حل الدولتين” الذي عقد في 28تموز (يوليو) 2025 لمدة يومين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك. ترأس المؤتمر فرنسا والسعودية بشكل مشترك، وهدف إلى إعطاء دفعة جديدة لحل الدولتين. وعلى الرغم من عداء إسرائيل للمؤتمر وتحفّظ الولايات المتحدة وعدم مشاركتها به، فإن الحدث، إضافة إلى الإعلان عن عزم فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حرّك مياه راكدة في خيار لطالما نادت به الأمم المتحدة بتأييد واسع من دول العالم.
كان وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، قال إن حل الدولتين. “يعتبر الوحيد القادر على ضمان السلام والأمن في المنطقة”. ويكشف أن السعودية وفرنسا تهدفان إلى تحقيق ثلاثة مداخل:
1-تقديم رؤية مشتركة لـ ‘ما بعد الحرب’.
2-ضمان إعادة إعمار غزة وأمنها وحوكمتها.
3-فتح الطريق لحل الدولتين”.
ويعتبر بارو أن خيار حلّ الدولتين بات مُهددا، فيما اعتبرته سيغريد كاغ، منسقة الأمم المتحدة الخاصة لعملية السلام في الشرق الأوسط، في مايو 2025 أمام مجلس الأمن أنه “في حالة حرجة”.
استند المؤتمر أيضا إلى قرار مجلس الأمن رقم 2720 الصادر في كانون الأول (ديسمبر) 2023، بعد شهرين من عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) من نفس العام. فقد أكد مجلس الأمن “تمسكه الثابت برؤية حل الدولتين، حيث تعيش دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنبًا إلى جنب في سلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، بما

يتماشى مع القانون الدولي والقرارات ذات الصلة للأمم المتحدة”. كما يؤكد القرار على “أهمية توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت سلطة السلطة الفلسطينية”.
ضمّ المؤتمر 8 لجان كانت بدأت أعمالها منذ حزيران (يونيو) 2025 لبلورة رؤى اقتصادية وسياسية وأمنية للإطار الخاص بدولة فلسطين. وتتكون اللجان من: إسبانيا، والأردن، وإندونيسيا، وإيطاليا، واليابان، والنرويج، ومصر، وبريطانيا، وتركيا، والمكسيك، والبرازيل، والسنغال، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي. تتنوع مهام اللجان في قضايا مختلفة، منها:
1-محور الدولة الفلسطينية الموحدة ذات السيادة.
2-تعزيز الأمن، ولغة السلام.
3- بحث إمكانية نجاح فلسطين اقتصادياً.
4-إعادة الإعمار.
5-الحفاظ على حل الدولتين، ونشر الاحترام للقانون الدولي، وجهود السلام.
واستند المؤتمر إلى موقف سعودي داعم لإقامة دولة فلسطينية كشرط لإقامة أي علاقات مقترحة مع إسرائيل. وقد تمسّكت الرياض بهذا الموقف في عهد الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن كما في عهد خلفه الجمهوري دونالد ترامب.
وقد أوضح وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، بأن “المملكة تبذل كافة الجهود لإرساء السلام العادل في منطقة الشرق الأوسط، وتسعى دائمًا من منطلق مبادئها الراسخة إلى نشر السلم والأمن الدوليين بهدف إنهاء معاناة الإنسان الفلسطيني، وإيقاف دائرة العنف المستمرة والصراع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي طال أمده، وراح ضحيته عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الأبرياء، وأَجَّج الكراهية بين شعوب المنطقة والعالم”.

كان من المقرر أن يعقد المؤتمر في حزيران (يونيو) 2025 على أعلى مستوى، أي بحضور رؤساء دول أو حكومات. لكنه تأجل بسبب الحرب التي شنتها إسرائيل ضد إيران في ذلك الشهر. وعقدت المرحلة الأولى على المستوى الوزاري في تموز (يوليو) قبل قمة مرحلة ثانية في أيلول (سبتمبر) الجاري في الأمم المتحدة بحضور شخصيات أرفع مستوى. في هذه المرحلة الأولى تحدث ممثلو أكثر من 100 دولة في منصة الأمم المتحدة.
“انتشال” حلّ الدولتين
لم تقبل إسرائيل طوال العقود الماضية “حلّ الدولتين” وعزّزت موقفها بعد عملية “طوفان الأقصى”. فظهرت موجات من الرفض الشامل من قبل حكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو كما من قبل السواد الأعظم من التيارات السياسية في إسرائيل. وقد صوت البرلمان الإسرائيلي في شباط (فبراير) 2024 بأغلبية ساحقة ضد أي “تسوية أحادية للاعتراف بدولة فلسطينية”. كما اعتمد الكنيست الإسرائيلي في 23 تموز (يوليو) 2025 اقتراحا يدعو الحكومة إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية من خلال ضمّ الأراضي، ما اعتبر انتصارا لليمين المتطرف الإسرائيلي الذي يدعو إلى هذا الطلب منذ فترة طويلة.
ويرى خبراء في مسألة “حل الدولتين أن إعلان الرئيس الفرنسي أن فرنسا ستعترف رسميًا بدولة فلسطين، أعاد الحيوية لحل الدولتين، وأضفى أهمية على المؤتمر. ولاحظ باحثون في شؤون المسألة الفلسطينية أن مسار حلّ الدوليتين تراجع تأييده في العقود الأخيرة. فقد كان محل إجماع في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. غير أن الوضع تغيّر وزادت الضغوط منذ ذلك الحين. يضيف هؤلاء أن حجم الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية قد ارتفع بين عامي 2000 و2021 بنسبة 220 بالمئة. وخلص الباحثون إلى أن الحراك السعودي الفرنسي في مقر الأمم المتحدة هو إحدى أهم الخطوات الدولية لإعادة تعويم حل الدولتين وإعادة إنعاش مسألة قيام دولة فلسطينية.
ويعتبر مراقبون غربيون أن إعلان فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية قدم تعويضا نسبيا للفلسطينيين، ولو جاء متأخرا، لكن مسألة قيام دولة فلسطينية يحتاج إلى عوامل متحوّلة أبرزها:
1-انتقال العواصم الغربية المؤيدة لإسرائيل والمؤيدة لحلّ الدولتين من مرحلة النصح والتمني إلى مرحلة الضغط والعقوبات على إسرائيل.
2-ظهور تحوّل في مقاربة الولايات المتحدة لمسألة الصراع في الشرق من زاوية أن حلّ الدولتين بات ضرورة انسانية وسياسية ليس للفلسطينيين فقط بل للشرق الأوسط برمته.
3-توسّع دولي لمسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية على نحو واضح وقوي ومن دون شروط يجعل من الأمر مسلّمة تضع إسرائيل والولايات المتحدة في عزلة حتى من قبل أكثر الدول تأييدا لإسرائيل.
4-ظهور تحوّلات داخل المجتمع السياسي الإسرائيلي تعيد الاعتبار لأفكار خلاقة تتجاوز الجمود العقائدي الذي فرضه

اليمين على النخب الحاكمة خلال العقود الأخيرة، وإعادة إنعاش مقاربات جديدة من التحالفات الانتخابية بتشجيع من المجتمع الدولي.
فرنسا: الاعتراف بدولة فلسطين
رغم أن المسار كان متوقعا، أثار إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عزم فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية جدلا داخل فرنسا وغضبا في إسرائيل وتنديدا في واشنطن، وسط توقعات بأن تحذو دول غربية حذو باريس. فما هي الوقائع وما يمكن استشرافه من التطوّر الذي أعلنته باريس؟
في 24 تموز (يوليو) 2025، قالت مصادر إعلامية فرنسية إن قنصل فرنسا في القدس، نيكولا كاسيانيد، سلّم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، رسالة من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يتعهد فيها بأن فرنسا ستعترف بالدولة الفلسطينية في أيلول (سبتمبر) الجاري. كتب ماكرون على منصة (X) أن فرنسا قررت أن تعترف بفلسطين وفاء بالتزامها التاريخي بتحقيق السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط. وأكد على أنه من الضروري العمل بشكل متزامن على بناء دولة فلسطين وضمان قدرتها على البقاء، وأن يتم تمكينها من المساهمة في أمن جميع الأطراف في الشرق الأوسط، وذلك من خلال قبولها بنزع السلاح والاعتراف الكامل بدولة إسرائيل. وشدد على أنه “لا بديل عن هذه الخطوة”، لافتًا إلى أن الشعب الفرنسي يريد السلام في الشرق الأوسط، وأن تحقيق ذلك هو مسؤولية مشتركة بين فرنسا والإسرائيليين والفلسطينيين، بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين والدوليين.
أثار الأمر زوبعة في فرنسا. أقر جان لوك ميلونشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية”، اليساري الراديكالي، بـ”النصر المعنوي” الذي تحقق بهذا الاعلان، ودعا مع ذلك إلى “وقف فوري للإبادة الجماعية”. وتساءل مانويل بومبار، منسق حزب فرنسا الأبية، عن سبب انتظار ماكرون “حتى أيلول (سبتمبر)” للإعلان عن هذا الاعتراف “في حين أن الوقت المناسب للتحرك في مواجهة الرعب اليومي في غزة هو الآن”، داعيا أيضا إلى فرض عقوبات على حكومة نتنياهو.
ندد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقرار فرنسا معتبرا أنه “يكافئ الإرهاب” ويشكل تهديدا وجوديا لإسرائيل.ووصف وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائل كاتس قرار ماكرون بأنه “استسلام للإرهاب ومكافأة لحماس”، وأضاف “لن نسمح بقيام كيان فلسطيني يهدد أمننا ووجودنا”. وقال إن الفلسطينيين “لا يسعون إلى دولة بجانب إسرائيل بل يريدون دولة بدلا من إسرائيل”. وانتقد نائبه ياريف ليفين القرار ووصفه بأنه “نقطة سوداء في التاريخ الفرنسي ودعم مباشر للإرهاب”، معتبرا أن “الوقت قد حان الآن لتطبيق السيادة الإسرائيلية” على الصفى الغربية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967.
ولم تبتعد الولايات المحدة عن الموقف الإسرائيلي فقد رفضت “بشدة” المشروع الفرنسي للاعتراف بدولة فلسطين، معتبرة أنه قرار “غير حكيم” يعيق السلام. وقال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو: “إنه إهانة لضحايا 7 أكتوبر”. وسخر السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، من ماكرون. وقال هاكابي في منشور على منصة (X): “لم يحدد (إعلان) ماكرون الأحادي الجانب مكان الدولة الفلسطينية”. وأضاف: “أستطيع الآن أن أكشف حصريا أن فرنسا ستقدم الريفييرا الفرنسية، وأن الدولة الجديدة ستسمى فرانس أون ستين (Franc-en-stine جمع كلمتي فرنسا وفلسطين).
مفاجأة لندن: الاعتراف بعد “بلفور”
حرّك الموقف الفرنسي الانفعالات الغربية. في 25 تموز (يوليو) جرى “اتصال طارئ” بشأن غزة بين باريس ولندن وبرلين، وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: “سنناقش ما يمكننا فعله بشكل عاجل لوقف عمليات القتل وتوفير الغذاء الذي يحتاجه السكان بشدة”. قبل ذلك بيوم واحد قال وزير الدولة البريطاني، بيتر كايل، إن الحكومة ملتزمة بالاعتراف بدولة فلسطينية. وقال: “إنه التزام واضح من هذه الحكومة بأننا نريد الاعتراف بدولة لفلسطين”.كانت تلك التحوّلات تمهّد لانعطافة تّعدّها لندن.
استدعى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أهم وزراء حكومته على عجل خلال عطلة الصيف. تحدثت الأنباء قبل الاجتماع عن أن هدف الاجتماع مناقشة الوضع في قطاع غزّة والتدابير التي ستتخذها لندن لضخّ مساعدات بريطانيا. غير أن ما أعلنه ستارمر لاحقا شكّل مفاجأة للمراقبين ومفصلا تاريخيا في علاقة المملكة المتحدة صاحبة “وعد بلفور” مع المسألة الفلسطينية.
ذهبت بريطانيا مذهب فرنسا في الإعلان عن العزم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم في أيلول (سبتمبر). وفيما كان إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جازما بشأن حتمية الاعتراف في تلك المناسبة، ربط ستارمر عدم الإقدام على خطوته بإجراءات تتخذها الحكومة الإسرائيلية بشأن غزّة والسلام بدت في مضمونها تعجيزية، لم تجد في إسرائيل إلا ردّا مفلساً: “لندن تقدم هدية لحماس”.
كانت بريطانيا قد لوّحت بخيار الاعتراف بالدولة الفلسطينية في مطلع عام 2024 وفق ما كان أعلن وزير الخارجية في حكومة المحافظين آنذاك، ديفيد كاميرون. وكان حزب العمال الذي فاز في الانتخابات التشريعية في تموز (يوليو) 2024 قد استنتج خسارته لمقاعد عدّة بسبب إعراض الكتلة الناخبة المؤيدة للفلسطينيين عن التصويت للحزب، لا سيما بعد ورشة “تطهير” أبعدت زعيم الحزب السابق جيريمي كوربن بتهمة معاداة السامية وتأييد “حماس”. عاد الأخير هذه الأيام بحزب جديد واعد قد يشكّل تهديدا حقيقيا منافسا لحزب العمال الحاكم.
استجاب ستارمر لضغوط داخلية تعبّر عن رأي عام مؤيد لإقامة دولة فلسطينية. شهدت شوارع لندن والمدن البريطانية بعد “طوفان الأقصى” مظاهرات منهجية لم تتوقف تأييدا لغزّة واستنكارا للحرب التي تخاض هناك. كان ستارمر يواجه ضغوطا متزايدة للاعتراف الفوري بدولة فلسطينية .
في 25 يوليو، وقّع 221 نائبا في البرلمان البريطاني رسالة مشتركة تطالب رئيس الوزراء بالاعتراف بدولة فلسطين. ويتوزع النواب الموقعين على 9 أحزاب، بينها حزب العمال الحاكم، وحزب المحافظين المعارض، وحزب الديمقراطيين الليبراليين، وأحزاب أخرى من اسكتلندا وويلز. كتب النواب في الرسالة أن “الاعتراف البريطاني بدولة فلسطينية سيكون له أثر بالغ نظرا لدور بريطانيا في إعلان وعد بلفور وكونها السلطة المنتدبة السابقة على فلسطين (…) وأن بريطانيا دعمت حل الدولتين منذ عام 1980، وأن الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة سيعطي لهذا الموقف مضمونه الحقيقي ويجسد مسؤولية بريطانيا التاريخية.
أتى قرار ستارمرأيضا بعد زيارة الدولة التي قام بها ماكرون لبريطانيا في 10 تموز (يوليو) اقترح خلالها توحيد الأصوات في باريس ولندن للاعتراف بدولة فلسطين باعتباره المسار الوحيد المتوافق مع منظور السلام.
هل وافق ترامب على خطة ستارمر؟
مسار بريطانيا كان مفاجئا وملتبسا ، خصوصا أن قرار ستارمر أتى بعد ساعات من لقاء جمع مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فتساءل مراقبون عما إذا كان ستارمر استنتج من هذا اللقاء مرونة مشجعة من قبل ترامب.
في المعطيات أنه في 28 تموز (يوليو) أفادت صحيفة “تليغراف” البريطانية بأن ستارمر، سيكشف عن خطة للاعتراف بدولة فلسطينية لتهدئة الضغوط داخل حزب العمال الذي يقوده. ذكرت أن ستارمر سيقدم “أكثر خططه تفصيلاً حتى الآن لما يجب أن يحدث لفلسطين للحصول على الاعتراف، بالإضافة إلى مناقشة الجهود البريطانية لتحسين إيصال المساعدات إلى غزة لمواجهة المجاعة”. وتوقعت الصحيفة أن يظل اعتراف لندن بدولة فلسطينية مشروطا بالتوصل لوقف لإطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن.
حينها كمنت أهمية هذا “التسريب” للصحيفة البريطانية أنه جاء بعد ساعات من لقاء جمع ستارمر مع ترامب في اسكتلندا قال بعده ستارمر إنه ناقش مع الرئيس الأميركي تصورا لخطة بشأن السلام في غزة.
كانت بعض التحليلات قد رجّحت تجنّب ستارمر الإعلان عن أي موقف بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل لقاء ترامب خشية استفزازه، فيما يعمل ستارمر على تطوير علاقة بلاده مع واشنطن، وتحديث الاتفاق التجاري بينهما، وإقناعه بتخفيف بعض التعرفات الجمركية، ونيل استثناءات بالنظر إلى علاقات البلدين التاريخية.
وقالت أنباء إن ستارمر قدّم خلال اللقاء خطة سلام تقودها بلاده للشرق الأوسط، وأنه كان بدأ العمل على هذه الخطة بالتعاون مع فرنسا وألمانيا خلال عطلة نهاية الأسبوع، بعد مكالمة طارئة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس.
أتت المواقف البريطانية التي تمت مناقشتها مع ترامب على خلفية إعلان الرئيس الفرنسي بأن فرنسا ستعترف بدولة فلسطينية وعلى خلفية المؤتمر الدولي لدعم حلّ الدولتين الذي عقد في نيويوك برعاية فرنسا والسعودية، والذي تشارك فيه بريطانيا ورفضت الولايات المتحدة المشاركة به.
يُعتقد مراقبون أن إعلان ستارمر عن خطة للسلام في الشرق الأوسط بعد لقائه بترامب قد تكون نتيجة لهذا الاجتماع، بمعنى أن أجواء اللقاء، رغم تحفّظ ترامب العلني على الخوض في مسألة الموقف من الاعتراف بالدولة الفلسطينية، توحي بأن ترامب داعم لمساعي تقوم بها لندن الأقرب تاريخيا إلى سياسات واشنطن الخارجية لا سيما في الشرق الأوسط.
حينها لاحظ المراقبون أن ترامب تهرّب من اتّخاذ موقف من موضوع الدولة الفلسطينية في أعقاب لقاء ستارمر ليس رفضا للفكرة، بل لاعتباره أن الأولوية هي لدخول المساعدات الغذائية إلى غزّة ووقف إطلاق النار هناك.
صحيح إن لندن ربما تجنّبت إثارة الأمر قبل اللقاء لعدم استفزاز ترامب بما يشوّش على ما ترومه لندن من اللقاء بشأن ملفات التجارة والتعرفات الجمركية والموقف من أوكرانيا وغيرها. غير أن المنطق يقول إن لندن التي لطالما اعتُبرت تاريخيا منصاعة إلى حدّ التبعية للسياسة الخارجية الأميركية، لا يمكن أن تتّخذ قرارا تاريخيا بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية من دون استشارة ستارمر للرئيس الأميركي.
ورغم أن الحسم في ذلك ليس أكيدا، لكن الواضح أن ترامب لم يمانع إذا لم نقل إنه ربما شجع على الأمر. وبغضّ النظر عما تصدره واشنطن من مواقف حيال قرار لندن بعد أن قلّل ترامب من شأن قرار باريس، فإن ذلك المسار الجارف الذي تنضم إليه دول غربية أخرى يلاقي ربما بشكل غير معلن رغبة الرئيس الأميركي في إنهاء الحرب في غزّة ورعاية مسار سلمٍ أشمل لطالما كان هدفا له منذ ولايته الأولى. ولا شك أن الرئيس الأميركي يأخذ بعين الاعتبار حدثا جللا ترأسته السعودية وفرنسا بعقد مؤتمر دولي في مقر الأمم المتحدة لدعم “حلّ الدولتين”.
اعتبر ترامب أن قرار فرنسا ليس مهما. لكن إسرائيل تقرأ قرار لندن على نحو متوتّر مقلق. فإذا كان منطق إسرائيل قام على ثابت أن “واشنطن معنا”، فإن إقدام ستارمر على قراره بعد خلوة جمعته بترامب، يطرح أسئلة إسرائيلية بشأن متحوّل في مزاج واشنطن يلاقي غضبا في المزاج الدولي أعاد فتح أبواب غزّة أمام قوافل المساعدات واتفاقات السلم المحتملة.
وتوضح بعض المصادر الدبلوماسية أن موقف ترامب لم يكن رافضا لفكرة الدولة الفلسطينية بل غامضا وضبابيا في تعريف مفهومه لتلك الدولة. تشير هذه المصادر إلى أنه خلال ولايته الأولى (2017-2021)، أعلن ترامب أن حل الدولتين هو خيار مفضل لكنه لم يلتزم به كشرط أساسي. في كانون الثاني (يناير) 2020، كشف عن “خطة السلام” (صفقة القرن) التي تضمنت رؤية لحل الدولتين، لكن بشروط مواتية بشدة لإسرائيل. تضيف المصادر أن ترامب أظهر مرونة في الخطاب، قائلاً إنه منفتح على أي حلّ يتفق عليه الطرفان، سواء كان دولتين أو دولة واحدة، مما يشير إلى أن دعمه لحل الدولتين لم يكن مبدئياً بل مشروطاً بموافقة إسرائيل.
ويعيد بعض خبراء الولايات المتحدة ركاكة موقف ترامب إلى كونه يواجه ضغوطاً من قاعدته السياسية، خاصة الإنجيليين المسيحيين واللوبي المؤيد لإسرائيل (مثل إيباك)، الذين يعارضون تنازلات كبيرة للفلسطينيين، ما يقلل من احتمالية دعمه لحل الدولتين بشكل فعال إذا لم يتماشَ مع أهداف إسرائيل.
واللافت أنه في تعليقه على قرار ماكرون، قال ترامب إنّ “قرار فرنسا بشأن الاعتراف بدولة فلسطين لا أهمية له”. لكن باحثين رأوا أن تقليل ترامب من شأن موقف فرنسا ورفضه من قبل وزير خارجيته ماركو روبيو، يتناقض مع تعايش إدارة ترامب وقبلها إدارة جو بايدن مع رفض السعودية أي تطبيع مع إسرائيل قبل إقامة دولة فلسطينية، فلم تصدر الإدارتان أي موقف مقلّل من شأن الموقف السعودي. ويُذكّر هؤلاء أن الولايات المتحدة قبل ترامب دعمت حلّ الدولتين كجزء من سياستها الخارجية، كما يتضح من تصريحات قادة مثل الرئيس السابق باراك أوباما ووزير الخارجية جون كيري.
رغم تأجيل سابق، اعتُقد إنه إلغاء، تمسّكت باريس والرياض بعقد مؤتمر في مقر الأمم المتحدة في نيويورك لإعطاء دفعة نوعية أممية لمسألة إقامة دولة فلسطينية. قام المؤتمر على أكتاف فرنسا، إحدى أهم الدول الغربية والأوروبية والصناعية والنووية والعضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، والسعودية، أكبر دولة إسلامية وعربية نفوذا في تقرير مسار هذا الملف وهي الدولة المتحالفة مع الولايات المتحدة والصديقة للرئيس دونالد ترامب
تراجع مسار حلّ الدوليتين تراجع تأييده في العقود الأخيرة. فقد كان محل إجماع في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. غير أن الوضع تغيّر وزادت الضغوط منذ ذلك الحين. يضيف هؤلاء أن حجم الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية قد ارتفع بين عامي 2000 و2021 بنسبة 220 بالمئة. وخلص الباحثون إلى أن الحراك السعودي الفرنسي في مقر الأمم المتحدة هو إحدى أهم الخطوات الدولية لإعادة تعويم حل الدولتين وإعادة إنعاش مسألة قيام دولة فلسطينية.
إعلان الرئيس الفرنسي أن فرنسا ستعترف رسميًا بدولة فلسطين، أعاد الحيوية لحل الدولتين، وأضفى أهمية على هذا المؤتمر. وفيما تناول المراقبون مسألة المؤتمر قبل ذلك بالتشكيك، غير أنهم استنتجوا دينامية جديدة بعد إعلان ماكرون لجهة قيام دولة غربية كبرى أخرى بنقاش مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ربما تجنّب ستارمر إثارة مسألة الإعتراف قبل لقاء ترامب، غير أن المنطق يقول إن لندن التي لطالما اعتُبرت تاريخيا منصاعة إلى حدّ التبعية للسياسة الخارجية الأميركية، لا يمكن أن تتّخذ قرارا تاريخيا بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية من دون استشارة ستارمر للرئيس الأميركي.