لبنان: خلل سياسي وخطر عسكري 

كثيرون يسألون هل سيتمكن لبنان في أزمته وعدم قدرته على حصر السلاح بالجيش بتخطي الضغوطات الاميركية والاعتداءات الاسرائيلية اليومية المتصاعدة. هل يمكن الاستمرار بالخلل السياسي والخطر العسكري. سنحاول الإجابة على هذا السؤال. 
 
وعد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووفى بوعده، حيث أدت سنتان من الحروب الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة وأوروبا والعرب ضد “حماس” و”حزب الله” و”الحوثيين” في اليمن وإيران إلى قلب المعادلات الإقليمية. نتج عن هذه الحروب إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، مما حرم إيران من تعزيز وجودها في المتوسط وفقدان أوراق القوة الاستراتيجية. وقد أتاح ذلك للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تقديم “إعلان وقف النار في غزة” كجزء من رؤية أميركية شاملة تهدف لتنظيم العلاقات الإقليمية على أساس اقتصادي وتجاري. 
في هذه الأثناء، يبقى لبنان، المنكوب بعد ما يُعرف بـ”حرب الإسناد”، عالقًا في منطقة رمادية بين ماضيه وحاضره المجهول. تفتقر الدولة التي تسيطر عليها التوازنات الإقليمية الجديدة إلى شعارات حقيقية وقوة اتخاذ القرار. بات لبنان محصورًا من قبل إسرائيل، التي لم تتوقف عن حربها اليومية رغم إعلان وقف النار في 27 تشرين الثاني 2024. من جهة أخرى، أصبحت سوريا، للمرة الأولى في تاريخها، تندمج في المحور الأميركي-الإسرائيلي-الخليجي بعد أن كانت لعقود ضمن المحور السوفياتي ثم الإيراني، وتقدمت الآن في اتجاه التعاون مع روسيا. 
الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، الذي يُعد الأول من نوعه في البيت الأبيض، والرئيس جوزف عون، الذي لم يلتقِ ترامب في نيويورك، يواجهان تحديات في “وادي المفاوضات”، حيث يطالب الشرع بوقف الضربات الإسرائيلية، لكن إسرائيل تتجاهله ولا تتلقى الدعم اللازم من الولايات المتحدة. وفي ذات السياق، يواجه “حزب الله” مقاومة تجاه الضغوط التفاوضية، محذرًا من الانزلاق إلى فخاخ تفاوضية وسعيًا لعدم تسليم أسلحته. 
موقع لبنان في مشروع ترامب للشرق الأوسط الجديد 
لم يشكل لبنان غالبًا أهمية قصوى بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي، إذ جرى التعامل معه من خلال رؤية الشرق الأوسط كمسرح واحد. لكنَّ موقعه الجيوستراتيجي بين إسرائيل وسوريا حوَّله إلى أرض صراع شبه دائم، وساحة لنفوذ إقليمي تناوبت عليه مجموعة دول متناحرة، مما فرض في حالات نادرة تدخلًا أميركيًا، حمايةً لأمن إسرائيل أولاً ومنعًا لتمدُّد الصراعات الإقليمية إلى خارج حدوده. 
ولأن أميركا وإسرائيل تشدّهما روابط لا تتزعزع، ولهما تقييم مشترك للتهديدات، فإن تحوُّل لبنان في السنوات الأخيرة إلى منصة لإيران عبر “حزب الله” أدخله ضمن البرنامج الإسرائيلي-الأميركي لتصفية النفوذ الإيراني والمقاومة المسلحة ضد إسرائيل، بالإضافة إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لذلك، يصر كل من ترامب ونتنياهو على استثمار نتائج حرب “طوفان الأقصى” لحصد مكاسب سياسية وعسكرية وأمنية في لبنان من ضمن مشهد الشرق الأوسط الجديد، الذي رسَمه سقوط بشار الأسد في سوريا، وهزيمة “حزب الله” في لبنان، وكذلك هزيمة “حماس” في غزة، واحتمال خروج العراق من النفوذ الإيراني، فضلاً عن الضربة الموجعة التي تلقتها طهران من إسرائيل وأميركا في حرب الاثني عشر يومًا في حزيران الماضي. 
بعد “اتفاق غزة”، سارع الأميركيون إلى اقتناص الدينامية الإقليمية، لممارسة مزيد من الضغط على لبنان، متجاوزين “اتفاق 27/11/2024” وترتيباته الملحقة بالقرار 1701، بالإضافة إلى ورقة السفير توم براك، التي استند إليها مجلس الوزراء في اتخاذ قرار “حصر السلاح واستعادة الدولة سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية” في 5 آب 2025. وضع المجلس أيضًا جدولًا زمنيًا لنزع سلاح “حزب الله” خلال مهلة 120 يومًا كحد أقصى. منذ ذلك الحين، ارتفع صوت توم براك مُطالبًا الرئيس جوزف عون بالاتصال بنتنياهو للبدء في اتفاق حول الأمور العالقة. كما أكدت مورغان أورتيغوس، خلال زيارتها الأخيرة للبنان، أهمية ذلك خلال حضورها اجتماع لجنة مراقبة وقف إطلاق النار (الميكانيزم) برئاسة الجنرال الأميركي جوزف كليرفيلد. 
يرفض الأميركيون أي مقاربة خارج إطار المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، ويصرون في كل الاتصالات الجارية مع بيروت على أن السبيل الوحيد لتجنيب لبنان الضربات الإسرائيلية هو الشروع في خطوات تنفيذية لنزع سلاح “حزب الله”، والانخراط في مفاوضات سياسية مباشرة مع إسرائيل، بغية التوصل إلى اتفاق ينهي “حالة الحرب” بين الطرفين، مع حرصهم على التشديد أن واشنطن ليست في وارد ممارسة أي ضغط على إسرائيل لوقف عملياتها ضد لبنان و”حزب الله”. 
وكشف مطلعون على فحوى الرسائل الواردة إلى بيروت من أميركا وأوروبا ودول عربية أن آخر ما وصل إلى الرؤساء عون وبري وسلام كان جوابًا أميركيًا سلبياً على الاقتراح اللبناني باعتماد لجنة “الميكانيزم” كإطار للتفاوض. وأكدت الإدارة الأميركية رسميًا أنها غير معنية بتوسيع آلية “الميكانيزم” أو إضافة خبراء وتقنيين، ولا ترى في ذلك جدوى. 
كذلك أفاد سياسي لبناني على تواصل مع الجانب الأميركي بأن واشنطن تستغرب كيف أن اللبنانيين لم يُدركوا بعد أن القرار الدولي 1701 بات في حكم الساقط، وأن الحرب الأخيرة أنهت مفاعيله بالكامل. ورأى أن امتناع لبنان عن تنفيذ بند نزع السلاح من “حزب الله” عزَّز السردية الإسرائيلية بعدم جدوى التمسك بالقرار وموجباته. 
وأشار السياسي ذاته إلى أن إسرائيل واضحة في مطلبها بأن ينتقل لبنان إلى مستوى جديد من المقاربة، يبدأ سياسيًا ثم يأخذ طابعًا أمنيًا وتنفيذيًا، وصولًا إلى تنسيق يشبه ما نص عليه اتفاق 17 أيار 1983. في هذه الأثناء، قالت مورغان أورتيغوس “إنها لا ترى موجباً لأن يراعي الحكم اللبناني “حزب الله” في ملفي السلاح والتفاوض”. وأضافت أنها اطلعت على تفاصيل مثيرة من إسرائيل بشأن إعادة بناء قدرات “حزب الله”، لتخلص إلى أن “إسرائيل لن تنتظر طويلاً، وإنها مستعدة في أي وقتٍ للقيام بمهمة نزع السلاح، في حال رفض لبنان القيام بها”. 
بينما كان الموفد توم براك “يؤنِّب المسؤولين في لبنان على تقاعسهم، وعدم المبادرة إلى خطواتٍ للسير في مشروع تسوية شاملة مع إسرائيل”. وطوّر براك مواقفه ليقول “إن لبنان أمام فرصة وحيدة لمنع عودة الحرب، تتمثّل في إعلان السلطات اللبنانية الموافقة على الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، ومنح الجيش اللبناني صلاحيات إضافية لنزع سلاح “حزب الله” في كل لبنان. لكنه أضاف “ليس منطقيًا أن يتوقع لبنان من الولايات المتحدة أن تمنع إسرائيل من القيام بما تراه مناسبًا لحماية أمنها”. 
يبقى لبنان الرسمي في وضع متأزم، عالقًا في رفضين يشكلان خطرًا حقيقيًا، حيث يُطلب منه استعادة الأراضي وإعادة الإعمار دون تقديم أي دعم أو تنازلات، على الرغم من أن إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية يشترطون نزع سلاح “حزب الله” مسبقًا قبل أي انسحاب. 
تتفق جميع المعطيات على أن إسرائيل ليست مستعدة لتقديم ضمانات لوقف الغارات أو القصف أو الاغتيالات. كما أنها لا تعتقد أن مجرد بدء المفاوضات يلزمها بخطوات معينة، حيث لم تصدر أي إشارات من تل أبيب تدل على استعدادها للتفاوض. وفي ظل تلك الحالة، أكدت إسرائيل للمسؤولين الأوروبيين والعرب أنها لا تبحث في تنفيذ اتفاقية 27/11/2024 أو متابعة تنفيذ القرار 1701، الذي قد يُلغى مع انتهاء مهمة “قوات اليونيفيل” عام 2026. 
هكذا، ووسط تصاعد التوترات العسكرية والإعلامية، تسعى الحكومة اللبنانية للاستفادة من الفرص المتاحة بعد “اتفاق غزة”. وفي هذا السياق، قدّم المصريون، الذين شاركوا في اقتراح ترتيبات الاتفاق، أفكارًا من أجل وقف التصعيد الخارجي، تمهيدًا لمفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول القضايا الأمنية والحدود. 
توازياً بين تحركات واشنطن وإجراءات إسرائيل، تعمل الولايات المتحدة على تقليص الموارد المالية لـ “حزب الله” وتخفيف اعتماده على إيران. ووفقًا لوزارة الخزانة الأميركية، أفادت التقارير بأن الحزب أدخل إلى لبنان نحو مليار دولار في عام 2025، مما يشير إلى حيوية الدعم المالي الذي يقدمه. 
حتى الآن، تسير إسرائيل وفق سياسة “المبادرة والهجوم الاستباقي”، مع التركيز على تنفيذ ضربات متواصلة لإلحاق أضرار هيكلية في القدرات اللوجستية والقيادية للخصوم، دون إمكانية تعويضها بسرعة. يبقى عامل الوقت أساسيًا في هذه الحرب، حيث يخشى القادة الإسرائيليون من الانزلاق إلى استنزاف طويل الأمد، مما قد يمنعهم من تحويل المكاسب التكتيكية إلى إنجازات سياسية استراتيجية مستدامة، الأمر الذي قد يؤدي إلى حالة من الدوران في حلقة مغلقة. 
من هنا، قد تسعى إسرائيل إلى توسيع التصعيد الحالي، بحيث يكون أكبر من توغل وأقل من اجتياح شامل. ومن بين الأسباب التي قد تدعم هذا التوجه، هو أن خيار تصفية القادة الرئيسيين في “حزب الله” بهدف زعزعة قدرتهم وفقدان سيطرتهم قد تمت تجربته في السابق، كما في محاولات اغتيال قادة بارزين مثل حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، لكنها لم تُفضِ إلى نتيجة حاسمة، حيث نجح الحزب في إعادة تشكيل قوته العسكرية بشكل سريع من خلال تكوين جيل جديد من القادة. 
بالتالي، تظل الأوضاع منقسمة بين محاولات إسرائيل لزيادة الضغط العسكري والسعي نحو تحقيق أهداف استراتيجية في الوقت الذي تواجه فيه تعقيدات ميدانية وإقليمية تجعل من الصعب تحقيق نهايات قاطعة في أي صراع تعود به. 
إن الاجتياح البري الواسع النطاق لتفجير الصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى في الأنفاق في البقاع وإقليم التفاح يتطلب حشد عدد كبير من ألوية النخبة وعشرات الآلاف من الجنود النظاميين والاحتياطيين، وهو أمر يبدو مستبعدًا في الظروف الراهنة. 
من جهة أخرى، فإن الخيار المتاح هو تطوير التصعيد الحالي عبر توغلات مؤقتة ومحدودة، مع توسيع الغارات إلى عمق الضاحية الجنوبية وبيروت، بالإضافة إلى البقاع والجنوب. 
أما لبنان، فيواجه تحديات هائلة على الصعيدين الإسرائيلي والدولي، حيث يندلع انقسام حول الخيارات المتاحة للتصعيد وعدم توافق حول حلول أي تسويات. يرفض “حزب الله” التخلي عن سلاحه تحت عنوان “مقاومة مع وقف التنفيذ”، ويطالب بشروط المنتصر بالرغم من وضعه كطرف مهزوم. في ذات الوقت، ترفض إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب “الـ 66 يومًا” عام 2024، مهددة بمواصلة الحرب حتى النهاية. 
يبقى لبنان الرسمي في وضع متأزم، عالقًا في رفضين يشكلان خطرًا حقيقيًا، حيث يُطلب منه استعادة الأراضي وإعادة الإعمار بدون تقديم أي دعم أو تنازلات، على الرغم من أن إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية يشترطون نزع سلاح “حزب الله” مسبقًا قبل أي انسحاب. 
المعادلة المعقدة تتكرر يوميًا: لا تراجع عن قرار الحكومة بحصر السلاح، مع عدم القدرة على التنفيذ لتجنب أي مشاكل داخلية. وبينما ينتظر اللبنانيون حلولًا غير واضحة في الأفق، يعيشون في حالة من الخوف بين خطر توسيع الحرب الإسرائيلية وانفجار الصراع الداخلي بطرق متعددة. يتسبب العجز في الوصول بالوضع اللبناني إلى معادلة شبه مستحيلة: لا قتال لخلل ميزان القوى، ولا تفاوض بسبب الضعف وفقدان الأوراق.