إيران ترفض تفكيك “القنبلة” وترامب يريد “إنجازا” عاجلا
لم يستطع الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تحقيق إنجاز نوعي بإبرام اتفاق مع إيران قبل نهاية المئة يوم الأولى من ولايته الثانية. غير أن ملف علاقة واشنطن مع طهران، على تعقّده، بدا أكثر سلاسة من ملف حربي غزة وأوكرانيا، وأكثر وضوحا من ملف “ورطة” الرسوم الجمركية التي فرضها على العالم ليتراجع عنها بعد حين. تمكنت الولايات المتحدة وإيران من اجتياز “تجربة” الجلسة الأولى من المفاوضات بينهما والإعلان عن بدء مسار محدود زمنيا، وتدافعت الأسئلة بشأن ملفات التفاوض وآلياته والسقوف التي يمكن الوصول إليها. طرح الحدث أسئلة بشأن فلسفتي طهران وواشنطن في اجتراح اتفاق جديد داخل مرحلة جيوستراتيجية دفيقة تختلف عن الظروف الدولية التي واكبت إنتاج اتفاق فيينا بين

البلدين عام 2015. ولئن يفرض الحدث جدلا بشأن قدرة الدولة الكبرى في العالم على فرض شروطها، فإن الجدل يسلّط أيضا مجهرا على دور ووظيفة ومكانة إيران المقبلة في المنطقة تحت سقف أي اتفاق محتمل.
مباشرة أو غير مباشرة؟
بعد تواصل عبر قنوات متعددة المستويات بين واشنطن وطهران تمّ في 12 نيسان (أبريل) 2025 عقد جلسة مفاوضات بين وفد أميركي يقوده مبعوث الرئيس الأميركي، ستيف ويتكوف، ووفد إيراني يقوده وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي. جرت المفاوضات في العاصمة الُعمانية، مسقط، برعاية وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، الذي تولى على مدار ساعتين ونصف، نقل أوراق عمل بين الوفدين. وقد انتهت هذه المفاوضات غير المباشرة بلقاء تعارف مباشر، ما أوحى أن الجلسات المقبلة ستكون مباشرة، وهذا لم يحصل.
ركّزت طهران، منذ تأكيد ما كان أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 7 نيسان (أبريل)، عن أن المفاوضات ستكون مباشرة، على أن هذه المفاوضات ستكون غير مباشرة، على الأقل في المرحلة الأولى، ولن تكون مباشرة “إلا بعد اختبار النوايا والتأكد من جدية الطرف الأميركي”. وكررت طهران التأكيد أن المفاوضات تتعلق فقط بالبرنامج النووي ولا تتطرق إلى ملفات أخرى.
بالمقابل، أكدت المنابر الرسمية الأميركيةعلى ما أعلنه ترامب من أن المفاوضات ستكون مباشرة، وإن لم تستبعد أن يكون هناك مدخل غير مباشر لها. وسرّبت واشنطن أنباء تتحدث عن عدم توجه ويتكوف إلى مسقط إذا لم تكن

المفاوضات مباشرة. ورغم عدم وجود نصّ أو تصريح واضح بشأن جدول أعمال المفاوضات والملفات التي ستناقشها، فإن وسائل الإعلام الأميركية استنتجت مما أعلنه ترامب بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي وإبرام اتفاق “أقوى” أي أن المفاوضات ستشمل برنامج إيران للصواريخ الباليستية وعلاقة طهران بأذرعها العسكرية في المنطقة.
خرجت المواقف الرسمية الصادرة عن طهران وواشنطن، لا سيما عن عراقجي وويتكوف، لتتحدث بإيجابية عن الجلسة وعن الاتفاق على عقد جلسة أخرى في 19 نيسان (أبريل) 2025، قد تجري في مكان آخر، وفق تصريح وزير الخارجية الإيراني، فيما اعتبر الرئيس ترامب أن الأمور جيدة من دون مبالغة بالتفاؤل “قبل تنفيذ نتائجها”. ولم تفصح المصادر الرسمية للبلدين عن مضمون الأوراق التي تمّ تبادلها بين الوفدين والمواضيع التي ستتم مناقشتها.
طهران: كيف نشتري الوقت؟
اهتمت إيران بالتركيز على إصرارها على الشكل الذي تجري وفقه الجلسة الأولى للمفاوضات وكأنه هدف بحدّ ذاته، وسط استغراب الدوائر الدبلوماسية بشأن رمزية عدم لقاء الخصم مباشرة، وخصوصا أن الأمر أظهر الولايات المتحدة في موقع القوي الذي لا حرج لديه من ملاقاة الخصم وجها لوجه، فيما بدت إيران في موقع أضعف لجهة التحدث من خلال الوسيط العماني وبعيدا عن مواجهة دبلوماسية مباشرة مع الخصم الأميركي.
يُعتقد أن موقف إيران في هذا الصدد موجه إلى الداخل في إيران، لا سيما إلى تيار محافظ عقائدي، رافض مبدئيا لفكرة التفاوض مع الولايات المتحدة، متمسك بما سبق للمرشد الأعلى، علي خامنئي، أن كرره من رفض للتفاوض مع

الولايات المتحدة ومع إدارة ترامب بالذات. ويُعتقد أن التمسك بالطابع غير المباشر لجلسة المفاوضات ليس مطلبا شعبيا في إيران ولا يهم الرأي العام هناك، لكنه آلية نزول تدريجي لتبريد مسار التحوّل من نقطة اللا تفاوض إلى مرحلة التفاوض المباشر.
ما رشح عن جلسة التفاوض الأولى يفيد، وفق مصادر إيرانية، أن واشنطن مستعجلة لإبرام اتفاق مع إيران ضمن مهلة محدودة، بحيث لا تتحول هذه المفاوضات إلى مسار لا نهاية له. وتفيد نفس المصادر أن طهران أيضا مهتمة بإبرام اتفاق جديد، لكنها تعتبر الأمر معقّدا وليس بالسهولة التي تتيح التوصل إلى اتفاق كامل خلال فترة زمنية عاجلة. وقد يكون هذا التقييم هو الأرضية التي تقف عليها طهران للترويج إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق مؤقت يسمح بترسيخ عوامل ثقة وبالعمل بروية ومن دون توتّر من أجل التوصل إلى اتفاق أشمل قد يكون نهائيا.
لمّحت المصادر الإيرانية إلى استعداد إيران في إطار اتفاق مؤقت إلى التوقف عن تخصيب اليورانيوم بالمستوى المرتفع الحالي الذي وصل إلى 60 بالمئة بشكل رسمي وإلى خفض حجم المخزون من اليورانيوم المخصب ومناقشة تدابير أخرى مقابل قيام واشنطن باتخاذ خطوات بناءة من بينها رفع بعض العقوبات وخفض حجم البنى التحتية العسكرية التي تمّ تحريكها في الأسابيع الأخيرة والتهديد بها كخيار بديل في حال فشلت المفاوضات. غير أن المفاوض الأميركي وجد في فكرة “المؤقت” مناورة تقليدية لشراء الوقت وتمييع المفاوضات وإدخالها في دهاليز لا نهاية لها.
ضبط البرنامج أم تفكيكه؟
تقوم فلسفة موقف ترامب من اتفاق فيينا الموقع مع إيران عام 2015 بشأن برنامجها النووي على ما وصفه بأنه “اتفاق سيء”. وكانت “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وهي الاسم الرسمي للاتفاق، قد وضعت شروطا مكبّلة، لكن مؤقتة، تفرض من بين أمور أخرى، أن لا يتجاوز مستوى تخصيب اليوارنيوم نسبة 3.67 بالمئة، كما تفرض سقفا لحجم اليورانيوم المخصب. ولئن رفض ترامب هذا الاتفاق وسحب بلاده منه عام 2018، فإن منطق الأمور يقول إن الرئيس الأميركي لن يكتفي في أي اتفاق جديد، بالعودة، كما تعرض طهران، إلى التقيد فقط ببعض شروط اتفاق فيينا بما في ذلك النسبة القصوى المسموحة للتخصيب.
وفي ظل غياب لوثيقة رسمية أميركية دقيقة بشأن ما تريده الولايات المتحدة التوصل إليه مع إيران سواء عبر التفاوض أو “البدائل الأخرى”، فإن أدوات البحث قامت على هدف كان أعلنه ترامب أثناء حملته الانتخابية وبقي يردده منذ دخوله البيت الأبيض في ولايته الحالية منذ 20 يناير 2025، بعدم السماح لإيران بامتلاك أسلحة نووية. وبناء على هذا الهدف فإن آليات التوصل إلى تحقيقه يفترض أن تفوق تلك التي اعتمدت في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وأن تنقل إيران من موقع جيوستراتيجي إلى وضعية جديدة في الشرق الأوسط.
وقد استخدمت إدارة ترامب خطابا جديدا لم يستخدم إبان ولايته الأولى، بحيث دخل إلى قاموس الموقف من البرنامج النووي الإيراني تعبير “تفكيك” البرنامج، خصوصا في تصريحات لمستشار الأمن القومي السابق، مايكل والتز. وكان ويتكوف قد أشار أيضا، بشكل موارب، إلى مسألة التفكيك هذه من دون أن يستبعد التوصل إلى خيارات وسطية تمنع إيران من إمكانات إنتاج سلاح النووي مع المحافظة، وفق قواعد جديدة، على برنامج نووي سلمي الأهداف منضبط المراقبة الدولية.
تدور فكرة “التفكيك” على حقيقة أن البرنامج النووي الإيراني، لاسيما بعد انسحاب الولايات المتحدة منه واسقاط إيران لما يفرضه من التزامات، بات واسعا معقّدا لا يمكن ضبطه من خلال نصّ جديد لا يلحظ تخلّص ذلك البرنامج من البنى التحتية التي تسمح له بتحقيق مستويات تنقله إلى مستوى الأغراض العسكرية. ويعني ذلك أن عملية إنهاء احتمال إنتاج قنبلة نووية تتراوح ما بين القضاء التام على البرنامج النووي برمته أو تفكيك أجزاء باتت أساسية في ذلك البرنامح، ما قد يفرض وصاية ومراقبة دولية صارمة عليه.
الوظيفة الإيرانية المقبلة
تقوم فكرة منع إيران من حيازة قنبلة نووية، وفق المداولات الأميركية، على منع إيران أيضا من حيازة وسائل حمل رؤوس نووية مهدّدة للمنطقة والعالم من خلال ضبط برنامج الصواريخ الباليستية القادرة على حمل هذه الرؤوس. وعلى الرغم من أن إيران تؤكد أنها لن تسمح بالتفاوض بشأن حقّها في الحصول على دفاعات استراتيجية، فإن واشنطن أوحت أنها تتعامل مع هذا الملف بصفته جزءا من النقاش المتعلق أصلا بالسلاح النووي الإيراني المحتمل وليس خارجه. وكان من المتوقع أن يخضع مبدأ تناول هذا الملف إلى جدل قانوني وسياسي شديد الحساسية بالنسبة للنواة الصلبة للنظام في إيران، التي تعتبر أن الأمر يمثل مسّا بأيديولوجية النظام القائمة على وظيفة السلاح من أجل “المقاومة”، كما قد يمثّل تهديدا وجوديا لنظام الجمهورية الإسلامية.
تعتبر إيران أن لها الحقّ في نصرة أي مقاومة طالما أن هناك احتلال. وأن علاقتها بـ “محور المقاومة” في المنطقة من ثوابت السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية. وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد أشار إلى أن الولايات المتحدة تريد مناقشة مسألة علاقة إيران بأذرعها ونفوذها في المنطقة. واعتبرت تصريحات لافروف أول إقرار رسمي من جهة دولية بخطة واشنطن بعد أن كانت إثارة هذا الملف قبل ذلك تأخذ شكل التحليلات والتسريبات غير الرسمية. ولم يُفهم القصد الحقيقي من كشف لافروف هذا الأمر، على الرغم من تعبيره عن قلق من “حرمان” إيران من نفوذ تملكه دول عديدة في ساحات متعددة في الشرق الأوسط.
وكان محللون توقعوا أن تقوم واشنطن بمفاوضات سياسية وليس فقط تقنية مع إيران. تأخذ هذه المفاوضات تبدّل موازين القوى في المنطقة منذ انفجار الحرب في قطاع غزّة في تشرين الأول (اكتوبر) 2023، وتغير قواعد اللعبة داخل المشهد الدولي عما كانت عليه في عام 2013، وهو العام الذي بدأت فيه الولايات المتحدة مفاوضات قادت إلى إبرام اتفاق عام 2015 الشهير.
بمعنى آخر، فإن سلمية البرنامج النووي، وفق الرؤى الأميركية، تتطلب سلمية إيران نفسها ووقف مشروعها العابر للحدود. بما يعني أيضا أن إدراج ملف سلوك إيران في المنطقة هو، وفق ما يتسرّب من توجهات أميركية، هو جزء أصيل من المفاوضات التي تحمل تقليديا عنوان البرنامج النووي. ومن المتوقع أن تتعرض تلك المفاوضات المركبة إلى عثرات وعقد وأزمات يصعب توقّعها واستشراف ما يمكن أن تتوصل إليه المفاوضات وما يمكن أن يحدثه الفشل بها.
خيار روما
على نحو مخالف لأجواء التوتّر والتصعيد التي تبادلتها واشنطن وطهران عشيّة انعقاد الجلسة الثانية من المفاوضات، خرجت الجلسة التي عقدت في روما بأجواء إيجابية متفائلة اعتبرها الطرفان بناءة يمكن اعتمادها، عبر اجتماع يضم

الخبراء التقنيين، للعبور نحو الجلسة الثالثة. بددت هذه الأجواء ما سرّبته تقارير عن استعدادات إسرائيلية وأميركية للجوء إلى الخيار العسكري، ورجّحت ما كان أعلنه الرئيس الأميركي عن إعطاء الفرصة للدبلوماسية. وتتضارب التوقعات بشأن المسار التقني لهدف التفاوض وتناقضه مع هدف جيوسياسي ما زال ضبابيا في أجندة واشنطن حيال مستقبل موقع إيران على الخرائط الجيوسياسية.
وقد عقدت إيران والولايات المتحدة في 19 نيسان (أبريل) 2025 جلسة ثانية من المفاوضات بشأن البرنامج النووي في العاصمة الإيطالية روما. وتأتي هذه الجلسة بعد تضارب أنباء منذ انتهاء الجلسة الأولى في العاصمة العمانية مسقط، في 12 من نفس الشهر، بشأن مكان الجلسة الثانية. وفيما أشاعت بعض منابر طهران احتمال أن تعقد الجلسة في فيينا، لكونها مقرا للمنظمة الدولية للطاقة الذرية ما قد يستدعي انخراط هذه المنظمة في المفاوضات، فإن تردّدا حصل بشأن انعقاد الجلسة في روما إلى أن تمّ تأكيد ذلك. ولم يصدر أي تبرير رسمي بشأن أسباب اختيار روما وحسابات ذلك. غير أن بعض التحليلات أثارت الاحتمالات التالية:
1-إجراء بعض جلسات التفاوض في أوروبا يمنح المفاوضات بعداً أوسع من ثنائيتها الإيرانية الأميركية، ويخفف من وقع إقصاء الأوروبيين، لا سيما الدول الموقعة على “اتفاق فيينا” لعام 2015 (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا). وقد تواكب قرار نقل الجلسة إلى أوروبا مع زيارة قام بها وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، إلى باريس لحضور جلسة أوروبية أوكرانية أميركية بشأن الحرب في أوكرانيا، حثّ فيها، على هامش الحدث، الأوروبيين على فرض العقوبات على إيران وإطلاق “آلية الزناد” التي تعيد فرض العقوبات على إيران من قبل مجلس الأمن الدولي.
2-إجراء الجلسة الثانية في إيطاليا يهدف وفق حسابات الولايات المتحدة إلى أن يكون هناك عناوين أخرى في أوروبا تهتم لها واشنطن غير الدول الأساسية الكبرى المهيمنة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
3-تهتم واشنطن بإرضاء إيطاليا التي لطالما أبدت امتعاضا من تهميشها ومن استبعادها عن المحادثات النووية السابقة مع إيران واختيار ألمانيا عضوا سادسا دوليا يضاف إلى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمر.
4-يعبّر الأمر عن رغبة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في ترجيح كفّة رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، التي يعتبرها صديقة وحليفة له داخل الاتحاد الأوروبي على منوال رئيس الحكومة الهنغاري، فيكتور أوربان. وتنتمي الشخصيتان إلى اليمن الأوروبي المحافظ المتوائم مع الوعاء السياسي والأيديولوجي لترامب. وكانت ميلوني الزعيمة الأوروبية الوحيدة التي حضرت حفل تنصيب ترامب رئيسا. وقد جرى اتخاذ قرار عقد الجلسة في روما فيما كانت ميلوني تزور واشنطن ويقوم نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس، بزيارة إلى العاصمة الإيطالية.
خطوط إيران الحمر
سبق عقد الجلسة الثانية من المفاوضات تصعيد في مواقف الطرفين، لا سيما الولايات المتحدة، بحيث خرج الموفد الرئاسي، ستيف بانون بتصريحات تنقلب على تصريحاته السابقة التي كانت تدعو إلى انضباط البرنامج النووي تحت

سقف معايير محددة لتخصيب اليورانيوم سبق أن حددها “اتفاق فيينا”. فقد أكد ويتكوف، في 14 نيسان (أبريل)، أن الاتفاق النووي الجديد بشروط الولايات المتحدة “يعني تفكيك برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني”، بما يقترب من مواقف أميركية أخرى دعت إلى اعتماد ” نموذج ليبيا” التي تمّ تفكيك برنامجها النووي عام 2003.
وقد سبق هذا الموقف أنباء نشرها الإعلام الأميركي تحدثت عن “اجتماع أزمة” عقد في البيت الأبيض حضره كافة أركان الإدارة المعنيين بملف إيران مثل وزيري الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ورؤساء أجهزة المخابرات والمبعوث الرئاسي إلى المفاوضات. وقد رفعت واشنطن بناء على هذا الاجتماع من لهجتها ومستوى مطالبها من إيران، وسط تسريبات تحدثت عن انقسام بين أركان الإدارة بين الذهاب إلى خيار عسكري أو التعويل على الخيار الدبلوماسي.
وبينما أعلن وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، أثناء زيارة له إلى موسكو، في 18 نيسان (أبريل)، أن إيران تعتقد أن التوصل إلى اتفاق “أمر ممكن إذا تحلّت واشنطن بالواقعية”، أعادت طهران في مواقف وتصريحات التذكير بالخطوط الحمر التي حددها المرشد الأعلى، علي خامنئي، لجهة حصرية التفاوض بالبرنامج النووي والتقيّد بالخطوط الحمر التالية:
1-عدم تناول ملف إيران للصواريخ الباليستية واعتباره حقّا من حقوق الدفاع الشرعي عن البلاد.
2-عدم فتح ملف السياسة الخارجية لإيران في الشرق الأوسط، أي ما يتعلق بنفوذ إيران في المنطقة وعلاقاتها مع الفصائل المنضوية داخل “محور المقاومة” في بلدان المنطقة.
3-التمسك بالسيادة على تخصيب اليورانيوم في إيران.
4-عدم تسليم المخزون من اليورانيوم المخصب بنسب 20 و 60 بالمئة والذي يقدر بـ 275 كلغراما إلى أية جهة خارجية.
تواكب التأكيد على الخطوط الحمر مع مواقف صدرت عن منابر عسكرية، لا سيما تلك التابعة للحرس الثوري، تؤكد على الجهوزية لصدّ أي هجوم عسكري أميركي أو إسرائيلي، والتهديد بالقدرة على إنزال خسائر بالمقرات والبنى التحتية المهاجمة، وتهديد استقرار المنطقة والممرات المائية، ما من شأنه إشعال أزمة دولية.
ولم يغب العامل الإسرائيلي عن مقدمات تحضير الأجواء لجلسة روما، لجهة الإعلان عن خطط إسرائيلية لتوجيه ضربات إلى البرنامج النووي، تمّ النفيّ لاحقا أنها ستجري من دون التنسيق مع الولايات المتحدة. كما أن وفدا إسرائيليا ضم وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية “الموساد” ديفيد بارنيع التقى سراً في باريس بالمبعوث الأميركي، ستيف ويتكوف، عشية انعقاد جلسة روما، بهدف “إبلاغ واشنطن محاذير وهواجس إسرائيل” من أي انفاق مع إيران. وقد دخل العامل الإسرائيلي أيضا في تقارير نشرتها الصحافة الأميركية عن تخلي ترامب عن هجوم عسكري بمشاركة إسرائيلية كان سيشنّ في مايو 2025، مفضلا إعطاء فرصة للمفاوضات الدبلوماسية.
التحوّل البناء المفاجئ
على الرغم من الأجواء التحضيرية المشحونة التي ظهرت خلال الأسبوع الفاصل بين جلستي مسقط وروما، إلا أن أجواء المفاوضات، التي استمرت رسميا غير مباشرة، والتي عقدت في مقر سفارة سلطنة عمان في روما بوساطة تولاها وزير الخارجية العماني، بدر البوسعيدي،، خرجت بخلاصات معاكسة. وقد تعمّد الطرف الإيراني أن يسارع بالتعبير عن إيجابية سادت الإجتماع وعن مفاوضات بناءة، وفق وصف عراقجي. ولم تخرج البيانات الصادرة عن واشنطن عن سردية الإيجابية والتفاؤل والمحادثات البناءة.
وفيما لم تتوفّر للرأي العام معلومات مفصّلة عما دار في هذا اللقاء والحيثيات التي بنيت عليها تلك الإيجابية، فإنه تقررعقد محادثات تضم الخبراء من الطرفين في 23 أبريل قبل جلسة مفاوضات جديدة جرت في مسقط في 26 أبريل.
وأمكن وفق المتوفّر من معطيّات وخلفيات التوقف عند الملاحظات التالية:
1-تعني أجواء التفاؤل بالنسبة للوفد الإيراني أن المفاوضات لم تتطرق إلى ملفات لا تتعلق بالبرنامج النووي بما يلبي شروط طهران في هذا الصدد.
2-تعني الإيجابية التي وصف فيها الطرف الأميركي اللقاء بأن إيران وافقت مبدئيا على الاستجابة للمطالب المتعلقة بالبرنامج النووي لجهة الاستعداد لمناقشة القيود التقنية التي من شأنها التحقق من سلمية البرنامج النووي.
3-أشارت التقديرات إلى خلو أجواء اللقاء من سيناريوهات “تفكيك” البرنامج النووي التي تطالب بها إسرائيل ولوحت بتبنيها مواقف صادرة عن أركان الإدارة في واشنطن.
4-رجّحت تحليلات قبول الوفد الأميركي مناقشة مبدأ رفع العقوبات عن إيران وهو هدف إيراني أساسي للانخراط بهذه المفاوضات.
5-تساءلت مراجع سياسية أميركية مراقبة عن الكيفية التي سيسوّق بها ترامب أي اتفاق جديد مع إيران يفرض عليها العودة إلى نسبة تخصيب لليورانيوم لا تتجاوز 3.67 بالمئة التي ينصّ عليها انفاق فيينا الذي انسحب منه ترامب نفسه عام 2018 واعتبره سيئا.
6-ترى هذه المراجع أن إعلان طهران عن أن المرشد وافق على دخول استثمارات أميركية إلى إيران تتراوح قيمتها ما بين 1 و 4 تريليون دولار قد يكون المفتاح الذي تسلمه إيران لترامب لتبرير الانخراط في اتفاق جديد.
غير أن الأجواء البناءة ليست عاملا مستقرا. يختلف التقييم وفق أهواء البيت الأبيض وأمزجة الحاكم في طهران. بدا أن الرئيس الأميركي لا يريد دخول الحرب التي يريدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. بدا أيضا راغبا في تحقيق إنجاز كبير بأكلاف بسيطة. ومع ذلك فإن رغبات ترامب تتناقض مع كل الفلسفة التي بنى عليها موقفه العدائي من اتفاق فيينا. فلم تتطرق المواقف الرسمية إلى أي ملف لا تريد طهران مناقشته، فيما بقيت التحليلات تؤكد أن واشنطن تريد إنهاء “الحالة الإيرنية” بما هي نموذج بات نافرا في المنطقة ولا يتّسق مع عالم تغيّر منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، وهذا ما يفسّر عراقيل التفاوض وتأجيل الجلسات بعد ذلك وعودة واشنطن إلى المطالبة بـ “تفكيك” البرنامج ومنع التخصيب في إيران.
وعلى الرغم من أن ترامب أخذ مسافة من مقاربة نتنياهو الاجتثاثية للبرنامج النووي، غير أن واشنطن نظرت، وربما بعين الرضى، إلى الإنفجارات الضخمة التي ضربت ميناء رجائي ببندر عباس جنوب إيران، والتي بدا أنها من صنيعة الأجهزة الإسرائيلية. والأرجح أن ترامب وجد في رسائل إسرائيل ما من شأنه إقناع المترددين في طهران إلى الإقبال على اتفاق مع ترامب قد يوفّر لإيران أمانا ولو مؤقتا من طموحات نتنياهو بإرتكاب الكبائر والمسّ بأمن البلد ودفاعاته.
اهتمت إيران بالتركيز على إصرارها على الشكل الذي تجري وفقه الجلسة الأولى للمفاوضات وكأنه هدف بحدّ ذاته، وسط استغراب الدوائر الدبلوماسية بشأن رمزية عدم لقاء الخصم مباشرة، وخصوصا أن الأمر أظهر الولايات المتحدة في موقع القوي الذي لا حرج لديه من ملاقاة الخصم وجها لوجه، فيما بدت إيران في موقع أضعف لجهة التحدث من خلال الوسيط العماني وبعيدا عن مواجهة دبلوماسية مباشرة مع الخصم الأميركي.
تدور فكرة “التفكيك” على حقيقة أن البرنامج النووي الإيراني بات واسعا معقّدا لا يمكن ضبطه من خلال نصّ جديد لا يلحظ تخلّص ذلك البرنامج من البنى التحتية التي تسمح له بتحقيق مستويات تنقله إلى مستوى الأغراض العسكرية. ويعني ذلك أن عملية إنهاء احتمال إنتاج قنبلة نووية تتراوح ما بين القضاء التام على البرنامج النووي برمته أو تفكيك أجزاء باتت أساسية في ذلك البرنامح، ما قد يفرض وصاية ومراقبة دولية صارمة عليه.
سلمية البرنامج النووي، وفق الرؤى الأميركية، تتطلب سلمية إيران نفسها ووقف مشروعها العابر للحدود. بما يعني أيضا أن إدراج ملف سلوك إيران في المنطقة هو، وفق ما يتسرّب من توجهات أميركية، هو جزء أصيل من المفاوضات التي تحمل تقليديا عنوان البرنامج النووي.