وطن الورق – والأرق والقلق 

“كان وأصبح” فعلان شقيقان ناقصان يحضنان التراث الماضي وحيرة المستقبل وقد يضيع الحاضر في البراري الدولية السياسية الحافلة بعلامات الإستفهام ولا حيلة إن غدا لبنان ورقة طائرة في الفضاء محكومة بالتشطيب والتنقيح والتصحيح ملفوفة بأصناف القلق والأرق مطويةً مُسافرة عبر جيوب الموفدين أو “مفلوشةً” أمام مقرّات الرؤساء وقادة الأحزاب والطوائف في لبنان للوشوشة في آذان مسؤولي عواصم العالم.

يا للبنانيين المُتعِبين والمُتعَبين المتحيرين المُتقلّبين فوق  10452 كلم2 بانتظار الهندسات المستوردة بعدما أهلكتهم الحروب وبدا وطنهم ورقة تترنّح التدويل والتقسيم وأراه لكأنّه البقعة الفريدة الغريبة العجيبة الراقصة المستعصية على اجتراح أبسط الحلول الوطنية ولو بهدأة من حكم التواريخ المرّة ولو سخيفة على سبيل التنبيه والتذكير.

نعم. يسهر اللبنانيون أمام وطنهم وقد صار ورقةً أو الورقة كتسمية حاملة ملامح مستقبل متحير مستوردٍ يقفز فوق أدراج الأمم صغُرت أو كبُرت أو لا أحجام لها في القرار. تجاوزت الملاحظات الدولية مساحة الورقة والوطن والسفارات قراءة وتصحيحاً وإضافات وتمزيقاً وتبييضاً فتعكّرت هوامشها واسودّت نصوصها بملاحظات الرؤوساء اللبنانيين والأحزاب وقادة الطوائف والمبعوثين الأميركيين والفرنسيين والمنظمات الدولية.

يا لهذه الورقة التي لا تورق سوى اهتراءات “ثمارها الدموية” ومواعيدها المُقيمة لتذكّر اللبنانيين بالحروب الأهلية المتناسلة تاريخيّاً فجعلت الأجيال خارج لبنان وكأنها تتقسّم بين الداخل والخارج فوق الألسن القشيبة التي تصورناها واهمين قد يبست جذورها نهائياً في الذاكرات الوطنية والشهداء.

منذ 1975ال ولنتزحلق نحو التاريخ،يتخبّط اللبنانيّون في حروب محلية مستوردة أورثت الكوارث والخسائر العاجزة عن تحمّلها كبريات الدول. القسم الأكبر منها، للتذكير، كان يُطل برأسه بمجموعات تتشكّل من الطوائف والأحزاب المتعدّدة في لبنان، إلى الفصائل الفلسطينية المتلونة بأعمال العنف والتدمير ناهيك  عن العدو التاريخي «إسرائيل» وعملياتها العسكرية الدائمة بالقصف الجوي للمدن والقرى إذ كان قد سبقها قبل كتابة هذا النص، ثلاثة اجتياحات واحتلالات واسعة لجنوبي البلاد. وعلى مرّ هذا الزمن الطويل من تاريخ لبنان، كانت فرنسا وأميركا وبريطانيا وإيطاليا واليمن والسعودية وسوريا والإمارات العربية المتحدة والسودان وليبيا وغيرها من الدول، كي لا نذكرها كلّها، تعمد إلى نشر قوّات في بلادنا بناءً على طلبات من الحكومات اللبنانية المتعاقبة وقرارات من مجلس الأمن بهدف وضع حدٍّ للاقتتال وإرساء الاستقرار في البلاد.

بين رتق الجروح عند زاوية كنيسة مار مخايل في الشياح وفتق الجروح بقصف الطيران في الجنوب والبقاع، يتمطّى تاريخ مرعب من الدماء لم ييبس بسهولة في أذهان اللبنانيين وألسنتهم أعني طريق الشام ولو تغيّر نظام الحكم هناك، فقد أدمن اللبنانيون على تسميته يوماً ضمن خطّوط العبور والمعابر والتقسيم التي تتجدّد المجاهرة فيه في لبنان. كاد أن يُرسم هذا الخطّ مجدداً تحت تبادل أرغفة الخبز بين الأحياء في الظلمات المتنقّلة المبرمجة في جمهورية العتمة وجوع الفقراء الذين امتهنوا انتظار الموت. إنّك لو شددت طرفي الحبل فقد يلتمع غداً سيف التدويل المخبّأ مع فضّة السرايا والأوراق الكثيرة في الأسروالصدر اللبناني الجميل، وكأنه أسّ أو قاشوش لحسمٍ مخبوءٍ يُضاف إلى الألعاب السياسية بعدما التوت عصا موسى بالتنازع بين عروبة النفط وعروبة الماء.

ماذا يعني التدويل المنتظرغداً؟ عفواً وأيّ غدٍ، وخمسة في المئة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن منذ تأسيسه حتى اليوم موضوعها لبنان الذي لا يساوي بمنظومة الدول حيّاً من أحياء نيويورك؟

لقد أصدر هذا المجلس،منذ عام 1978 حتّى اليوم، 82 قراراً في الكوارث اللبنانية ركّزت على مسائل معلوكة تتكرّر حرفياً مع كلّ قرار، مختصرها «وقف العنف وحماية المدنيّين واحترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أبنائه، وبسط السلطة اللبنانية على كل الأراضي اللبنانية». يضعون أحياناً عبارة “السلطة اللبنانية” محلّ “السيطرة اللبنانية”.

سؤآل: ماذا جنى ويجني اللبنانيون من هذه السطور الباردة غير التهجير والهجرة والقتل والتشويه والتدمير والسهر والصلاة على أبواب السفارات وأرصفة الأمم؟

مهلاً.لا يهدف هذا الحساب التحريض على الخروج من أحضان الأمم ونصوصها الدولية،خصوصاً أننا وطن مشتت صغير إنضمّ إلى الأسرة والمؤسّسات الدولية واحترم مواثيقها وقوانينها، ولقد أثبت في صراعه الأخير مع “إسرائيل” أننا مجتمع مفوّه تذكيراً بممارسة الحرية والديموقراطية، وبما يفوق ما شهدناه ونشهده من تحيّز وتضليلٍ من الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين، وخصوصاً في ميادين التعامل والتقلب مع الأحداث والوقائع والمصالح عبر السياسات المخبوءة المسكونة بثرواتنا الغازية والنفطية. اللبنانية الهائلة.

من حقّنا التساؤل:

هل فقدنا ذاكرتنا السياسية والدموية أم أننا لم ننتبه لبنانيين وعرباً بعد إلى أنّ الحبر الدولي لم ولن يخرجنا من مستنقعاتنا الدموية بعد كارثة بغداد في ال2003 الى كوارث لبنان وغيره ؟

ألسنا في تاريخ سمج تبدو فيه الأمم المتّحدة مطبعة للقرارات أكثر منها مرجعاً لمفهومي السلم والأمن الدوليّين؟

ماذا نفعل للخروج من هذا الجحيم المتجدّد في عالمٍ لا مكان فيه سوى للأقوياء، ولماذا يستمرّ اللبنانيون وقوداً لحروب وصراعات لا تنتهي في الشرق الأوسط يتركون وطنهم موقداً مشتعلاً منقسماً أبداً بين الشرق والغرب؟

أختم جواباً بأقصوصة تُحاكي السؤآل:

«قام وزير لبناني برفقة نائب سابق بزيارة سفير إحدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أثناء مناقشة مسودة القرار 1701 بهدف وقف التدمير الإسرائيلي في لبنان، وطلبا منه الضغط أوالمماطلة بإصدار القرار ريثما يتسنّى لإسرائيل اجتثاث نزع سلاح لمقاومة على الأقل. أبدى السفير استغرابه بل انزعاجه واعداً برفعه إلى دولته وفقاً للأصول، لكنه لم يتردّد في التعليق مودّعاً، أن طلباً كهذا عقوبته الإعدام، مستغرباً  أن يستمرّ شعوبكم في لبنان مثل حبّة حنطةٍ مقطّعة لا يخرج من تقطيعها نبتة خضراء بل يخرج وعاء” تبّولة أو كبّة” تفتخرون بها في موائدكم، وكأنّكم أدمنتم الانقسام والإقتسام والإنفصام”.