لكل غيمة وجهٌ منير

سهير آل إبراهيم

مررنا بأحداث تأريخية قد لا يتسنى للكثيرين المرور بمثلها، نحن أبناء القرن الماضي، عشنا لحظة انتهاء قرن وابتداء قرن جديد، وتلك لحظة لا تتكرر الا مرة واحدة كل مائة عام. ثم عشنا لحظة انتهاء ألفية وابتداء ألفية جديدة، وذلك حدث أقل تكرارا وأكثر ندرة. لو أردت اختصار الحديث عن طريق تجاوز ذكر الكثير من الأحداث الكبيرة التي وقعت في العالم، منذ ستينات القرن الماضي (والألفية الماضية) وحتى الآن، فلن أستطيع تجاوز ذكر ما حل مؤخرا بالعالم أجمع جراء اجتياح الكثير من بلاده من قبل كيان لا يرى بالعين المجردة. كيان يستعير ديمومته وبقاءه ومن ثم انتشاره، من حياة الانسان وربما بعض الأحياء الاخرى، الا انه قلبَ الحياة رأسا على عقب في الكثير من أجزاء العالم، وجعلنا نعيش وكأننا في فيلم من أفلام الخيال العلمي.

امر غريب ان استيقظ في الصباح فلا اجدني في سباق مع عقارب الساعة، بل اصبحت اجلس احيانا أتأملها بينما استمتع بشرب الشاي بتمهل، دون عجالة، قدح شاي الصباح الذي كنت دوما اجده الاطيب والأشهى، لاني كنت في الكثير من الاحيان لا اجد الوقت الكافي لارتشافه حتى النهاية. عقارب الساعة تسير كما المعتاد بينما تلتهم بدورانها أعمارنا ثانية بعد ثانية. غريب ان لا أجد جدولا يرسم ساعات يومي ودقائقه. أيام الاجازات والعطلات قبل الجائحة كانت اياما تدخل ضمن جدولنا العام، فكنا نخطط كيف نمضيها وماذا نفعل خلالها لانها كانت فترات محددة نعرف البداية لكل منها كما نعرف النهاية. اما في هذه الفترة المختلفة والغريبة وجدتُ وقت الفراغ يمتد الى حد غير معلوم، وان عليَّ أن ابتدع ما املأ به كل ساعاتي وأيامي بما يجعلها تتميز عن بعضها، كي لا يتحول هذا الجزء من حياتي الى ما يشبه قطعة الكانفاس الخالية التي تمتد الى أبعد أطرافها بلون واحد، قبل ان تلونها وتبث الحياة فيها ريشة فنان. انتفت في هذه الفترة الحاجة للمفكرة، ذلك السجل الصغير الذي يساعدنا على ضبط إيقاع الحياة، فلم يعد في الحياة من تفاصيل اكثر من ان تستوعبها الذاكرة؛ فلا مواعيد عمل أو زيارات أو نشاطات اجتماعية، ولا حتى مواعيد طبيب بدن أو أسنان أو عيون، وبدلا من ان تحمل صفحات المفكرة ملاحظات لتذكيري بمواعيد عمل أو نشاطات اجتماعية، امتلات صفحات الايام التي مرت على نسق واحد بوصفات طبخ جديدة أو بكلمات من اغان قد تكون معروفة أو قديمة بالنسبة الى البعض، ولكنها جديدة بالنسبة لي.

رغم ما حل بالعالم بفعل جائحة كورونا فيروس الا ان الحياة دوما تظهر لنا جوانبا مضيئة بهيجة قد نكون في غفلة عنها، واذكر هنا المقولة الانكليزية الشائعة ان لكل غيمة بطانة مضيئة بلون الفضة، فنحن نرى جانب الغيمة المواجه لنا والذي يكون معتما احيانا، لكن وجهها الاخر يواجه الشمس ويكتسي بضيائها.

في الأسبوع الاول من الإقامة في المنزل بفعل انتشار الوباء، وصلت إلينا عبر صندوق البريد رسالة من سيدة قالت فيها انها جارة لنا، ذكرت اسمها وعنوان دارها، الذي لا يفصله عن داري سوى بضعة أبواب لدور جيران آخرين لا نعرفهم. اقترحت تلك السيدة في رسالتها، والتي وضعت مثيلاتها عبر صناديق بريد الجيران الآخرين في شارعنا، ان نتعارف ونتواصل مع بعضنا خلال ظروف العزلة القسرية التي نمر بها، كي نتمكن من مساعدة بعضنا البعض ان احتجنا الى العون في حالة المرض مثلا ومواجهة صعوبة في الحصول على المواد الغذائية وغيرها من ضرورات الحياة اليومية.

رحب اغلب الجيران بالفكرة وكانت النتيجة إنشاء مجموعة تواصل على الواتس اب، بدت غريبة اول الأمر لانها ببساطة كانت تضم مجموعة غرباء جمعهم ظرف غريب. بدأت الألفة تمد جذورها بيننا بالتدريج، وتزداد بمرور الأيام وتوالي الأخبار المفجعة في بلدنا هذا وفي بلاد اخرى كثيرة. أصبحنا نتبادل الأحاديث ووصفات الطبخ وبذور ونباتات حدائق دورنا، خصوصا واننا الان في موسم مناسب لزراعة الكثير من الزهور والنباتات. أصبحنا نعرف الكثير عن بعضنا، مثلا قد اعرف ماذا طبخت جارتي فلانة في البيت الفلاني لانها أرسلت عبر الواتس اب صورة عشائهم لليلة امس، اللطيف في الامر اني لا أعرف شكلها لان حسابها في الواتس اب يحمل صورة حفيدها، وحتى بالنسبة لمن تحمل حساباتهم صورهم الشخصية، فالاقنعة على الوجوه التي نضطر حاليا الى ارتدائها بسبب الوباء تزيد من صعوبة تمييز اشخاص لا نعرف وجوههم الا من خلال صور فوتوغرافية، رغم ذلك فنحن، وعبر هواتفنا، نتبادل الأحاديث والقفشات ونحاول ايجاد ما يُسلّينا ويضحكنا في هذه الظروف المعتمة.

لا أشك انني التقيت بشكل عابر ببعض هؤلاء الأصدقاء الجدد في الطريق أو في الدكان القريب عند ذهابي لشراء بعض الحاجات الضرورية، لكن الظروف الحالية جعلت الناس يتجنبون المرور بجوار بعضهم، ويشيحون بوجوههم بعيدا عند اضطرارهم الى المرور بجانب اي شخص، حيطة وحذرا من انفاس قد تودي بهم الى التهلكة، وذلك امر مؤسف ففي هذه المدينة الصغيرة

كان من المألوف ان يلقي الغرباء التحية على بعضهم عندما تلتقي بهم المسارات.

كانت لجدتي حكاية سمعتها منها في طفولتي مرارا، لا أدري ان كانت تلك الحكاية من نسج خيال جدتي أو انها من الموروثات القديمة، ولكن في مضمونها حكمة كبيرة ونصيحة نافعة. تقول الحكاية ان كَليم الله دعا قومه الى الاستعداد لسنوات قحط كثيرة قادمة، غير أن الوقت مر ولم تحل المجاعة التي كانوا يخشونها، فعاتب القوم نبيهم إذ ظنوا انه كان يهزأ بهم، فقد استعدوا لذلك الزمن العصيب واحسوا ان جهودهم ذهبت هباء. وعند السؤال أخبر الله نبيه ان يذهب ويشاهد بنفسه كيف استعد اولئك الناس للشدّة. وجد النبي ان الناس قد فتحوا انفاقا ومنافذا بين مخازن المؤونة في بيوتهم تصلها ببعضها البعض، فمن يحتاج شيئا يستطيع ان يحصل عليه من جار له بدون سؤال أو طلب، وهكذا يشارك الغني ما لديه مع جيرانه، ويُعفى الفقير من حرج الطلب والسؤال. الحكاية تعلمنا ان رحمة الناس ببعضهم تدفع عنهم البلاء، وان التواصل الطيب والتراحم بين الناس يخفف من شدة المصائب التي تحل بهم.

قد يكون كل ما يحتاجه الانسان عند مروره بظرف عصيب، كلمة صادقة تشعره انه ليس بمفرده وان هنالك في هذا العالم الفسيح من يهتم لأمره ويشعر بغيابه ان غاب فيمد له يدا تخفف ثقل مشاعر الوحدة على روحه. قد تكون العزلة مريحة احيانا ولكني لا أظن انها تكون كذلك خلال المحن.

 »كم نحتاج الى روح اخرى كي نتعلق بها!«

سيليا پلاث

العدد 105/حزيران 2020