جيل دعدع

عبارة كنت اسمعها من جدتي حيث كانت تقولها للتعبير عن عدم رضاها او ربما استيائها احيانا من الأجيال الأصغر سنا بينما كانت تراقبهم و هي ترتقي درجاتها الاخيرة على سلم الحياة في طريقها نحو الأبدية.

كانت تقول أنها حكايات القدماء و حكم اورثوها إيانا و نبوآتهم حول ما سوف يحصل آخر الزمان، أن جيلا سيظهر، أطلقوا عليه اسم جيل دعدع يتميز ابناؤه بالفوضى و الخروج عن كل ما هو متعارف عليه من قيم و ضوابط اجتماعية. جيل تحكمه المشاكسة و العناد، و يوجه سلوكه الميل الى المخالفة؛ يذهب يسارا ان طلبت منه ان يتوجه يمينا، تناديه فلا يسمع او الاصح يتظاهر بعدم السمع.. ترسله لاداء مهمة ما فيذهب و لا يرجع.. يأكل و لا يشبع و الى آخره من العبارات القصيرة التي تختم غالبها بكلمات تنتهي بحرف العين تماشيا مع اللقب الذي اطلق على ذلك الجيل المستقبلي  الغريب؛ آخر جيل في هذه الحياة قبل افولها.

بدلا من ان يكون ختامه مسك، تنبأ الاقدمون فوضى عارمة تجتاح عالمنا لا ينفع معها سوى الفناء؛ ذلك الفناء الذي سوف تجلبه أفعال جيل دعدع ، هذا ما كانت ترويه لنا جدتي ! و رغم اني كنت اتلهف لسماع حكاياتها الجميلة المسلية لكني كنت استغرب قسوة القدر الذي يقرر محونا من الوجود، بل محو الوجود بأكمله بسبب طفل لم يطع امه او لم ينفذ كلامها بحذافيره !

تتعاقب الاجيال كسلسلة متواصلة ترتبط حلقاتها ببعضها البعض ، لكن تظهر احيانا فجوات تفصل جيلا عن آخر، فجوات تخلقها اسباب مختلفة، كالتطور العلمي مثلا و ما يتبع ذلك من تغيير و تطور في مجالات الحياة اليومية، فربما اوجد اختراع الكهرباء فجوة بين الاجيال التي انارت الشموع عتمة لياليها و بين اجيال لاحقة تضاءل لديهم اختلاف الليل عن النهار بفعل الاضواء الكهربائية الساطعة. كانت جدتي رحمها الله تضبط وضع الوشاح على رأسها كلما ظهر مذيع الاخبار في التلفزيون، لانها كانت تراه رجلا غريبا يظهر فجأة عبر تلك النافذة فيصبح معنا في الغرفة و لا ينبغي لها ان تظهر امامه عارية الرأس، كنّا صغارا نضحك كثيرا لرد فعلها ذاك و كانت رحمها الله تَرد على ضحكاتنا بعبارتها الاثيرة (جيل دعدع). تلك كانت فجوة بين جيلي و جيل جدتي وجدت بفعل التطور العلمي، و يبدو ان ذلك الاختلاف كان كبيرا بالنسبة لجدتي بحيث كانت ترى فينا جيل فناء و نهاية العالم.

أتأمل احيانا الاختلافات بين الاجيال الموجودة في عالمنا اليوم و اتساءل ان كان جيل دعدع موجود بيننا، و هل سيجلب  الجيل الاصغر المختلف جدا عما سبقه من الاجيال الفناء لعالمنا، ان صحت النبوءة القديمة، ام ان ذلك الاختلاف سوف يساهم بتعزيز تطور العالم و ازدهاره؟  احتاج احيانا الى استشارة ابنتي المختصة بعلم الحاسوب و كتابة لغته المدهشة، اسألها في ما يستعصي علي في استخدام هذا الصندوق ضئيل الحجم و الذي يضع العالم بماضيه و حاضره بين ايدينا، فتجيبني غالبا بعبارات بسيطة بالنسبة لها مبهمة بالنسبة لي انا المهندسة الشغوفة بالعلم، فاشعر حينها بحجم الفجوة التي اوجدها التطور العلمي المتسارع، بيني، حيث بدأت في زماني باستخدام الحاسوب و الاعتماد عليه بعد التخرج من الجامعة و بين ابنتي التي كانت تستخدمه منذ مرحلة الدراسة الابتدائية مثلما كانت تستخدم القلم و الممحاة!

الاختلافات بين الاجيال موجودة دائما حتى من حيث الملبس و المظهر،” و كل حزب بما لديهم فرحون ” ! قد يضحك الاصغر سنا على موضة سادت قبل عقود، في نفس الوقت الذي يستهجن فيه من عاصر تلك الموضة و ارتدى ما يتوافق معها مظهر اولئك الاصغر سنا. اضحكني قبل فترة مقطع فيديو يصور جدة تُجلس حفيدها بجوارها عنوة و ترتق بالابرة و الخيط شقوقا في سرواله هي في الواقع شقوق الموضة الحديثة! حتما يصعب على تلك الجدة استيعاب ان البعض يرى ذلك السروال المهترىء جميلا و انيقا و جذابا و ان حفيدها قد انفق على شرائه ربما اكثر من ثمن شراء سروال غير ممزق. تلك فجوة اخرى اوجدها تغير الموضة عبر الازمان.

نلاحظ ان الموضة تخلق تشابها في مظاهر افراد الجيل الواحد او الاجيال المتقاربة من بعضها زمنيا، فنلاحظ ازياء الاشخاص في الصور الفوتوغرافية تتشابه تقريبا لكل فترة زمنية بحيث يمكننا من طراز الملابس و الاحذية و تسريحات الشعر معرفة الزمن الذي التقطت فيه تلك الصور. بنظرة سريعة نستطيع معرفة الصورة ان كانت من زمن الخمسينات او الثمانينات او ما قبلهما او ما بعدهما. و لكن يبدو لي ان الفجوة الموجودة حاليا بين المظهر العام للبعض و بين من سبقهم هي الاكبر على الاطلاق، بالنسبة لي على الاقل.

صادفت قبل فترة مجموعة من النساء العربيات في مكان عام، كنّا جميعا نرتدي الكمامة التي فرضت و لا تزال تفرض علينا ارتداءها  ظروف الجائحة الحالية. لم ار من وجوه اولئك النسوة سوى العيون و ازواجا من الحواجب بدت متشابهة الى حد غريب. ذكرني ذلك المشهد بما اشاهده احيانا من برامج حول صناعة و تعليب بعض الاغذية مثلا و كيف ان العلب تمر في مرحلة ما تحت جهاز يلصق عليها بطاقات تحمل اسم و تفاصيل محتواها، تخيلت وجوه تلك النسوة و قد مرت تحت جهاز ختم على كل منها نفس رسم الحاجبين  ! ليست  الحواجب فقط و انما اصبح تشابه انوف و وجنات و اذقان البعض يدفع الى التساؤل ان كانت وجوه حامليها قد مرت تحت مشرط نفس الجراح! هل هذا ما يطمح اليه الانسان اليوم؛ ان يصبح نسخة مكررة يشبه الكثيرين غيره، لا يميزه عنهم سوى ما لا يستطيع الجراح تغييره؟

اعود الى التساؤل عن وجود جيل دعدع في زماننا هذا، او بمعنى ادق ما تحمله تلك العبارة مما يرمز الى حجم الاختلاف بين رغبات و توجهات الاجيال المختلفة.

تحب المرأة عموما ان تبدو حلوة، و لاشباع تلك الرغبة نجد الاسواق تغرق بمستحضرات التجميل و العناية بالبشرة و الشعر و ربما غير ذلك مما لا علم لي به، و هذا برأيي امر جميل ضمن حدود أقول معقولة بالنسبة لي كي اتجنب التعميم و صيغة فرض الرأي. امر جميل طالما لا يسبب اية اضرار  مثل تلك تحدثها احيانا المبالغة في التماس كمال الشكل، ان كان لذلك الكمال تعريف محدد. سمعت و قرأت و شاهدت برامجا تلفزيونية عن عمليات تجميل فاشلة ادت في اقصى حالاتها الى وفاة من كانت تأمل ان تستفيق بعد العملية الجراحية و هي اجمل،  او ان تختصر تلك العملية سنوات من عمرها فتجعلها تبدو اكثر شبابا و نضارة، فاذا بتلك العملية تختصر عمرها القادم كله ! البعض الاخر تركوا للتعايش مع تشوهات لا سبيل لاصلاحها.

ليس من الانصاف ان نعمم صفات معينة على اجيال بأكملها و لكن يبدو لي ان الفناء الذي تنبأ القدماء انه سيقع بسبب افعال جيل بعينه ما هو الا فناء فردي يجلبه بعض الافراد لانفسهم و يدفعون في سبيله مبالغا قد تكون طائلة احيانا.

رحم الله المتنبي اذ قال ( حسن الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ …)، لا ادري ماذا سيقول ذلك الشاعر لو عاد الى زماننا هذا و قد تجاوزت متطلبات الحسن التطرية بمراحل كبيرة !

العدد 114 / اذار 2021