جان عبيد… رحيله اغتراب

رؤوف قبيسي:

بقلب أسيف أكتب عن الأليف الحبيب جان عبيد.عن السياسي المناضل، المثقف، الوقور، المتواضع، الهادئ الطبع، المحبوب والمحب لكل الناس. ما أصعبها منية تخطف من بيننا أقارب وأصدقاء واحبة، ما أكثر ما نكون في أشد  الحاجة أليهم، وما أقساها حين تخطف سياسيا عاقلا مؤدبا مثل جان عبيد. نسيج وحده كان، عصفوراً في غير سربه بين جماعات السلطة المتسلطة. كنت أحبه، وكم تمنيت أن يكون خارج سرب السياسيين والسياسة، هذه التي كان يقول أمين نخلة انها ما دخلت نفس أديب إلا وأفسدتها! كنت أراه أديباً وكان أديبا عن حق، واقرب إلى مملكة الأدب من متنطعين بيننا، يشترون أقلاما من الدكاكين، ليقال عنهم حملة أقلام، ويعتبرون أنفسهم أدباء وشعراء! لذلك كان الحديث بيني وبين جان عبيد يدور دوماً حول مواضيع لا صلة لها بالسياسة، في التاريخ والشعر والثقافة وفي الموضوع الأثير عنده، الروحانيات. أعرف أن الكثيرين من المواطنين كانوا يتمنون أن يصل إلى المنصب الأول في البلاد، وربما كان من حسن طالعه أنه لم يصل في هذه الجمهورية المتهالكة. يكفيه فخراً أنه كان من أصحاب العقول المسالمة الواعية الراجحة. لم يحمل سلاحاً ويلطخ يديه بدم الأبرياء كما فعل غيره من لوردات الحروب، وممتشقي السيوف، وبقي بعيداً عن العصبيات والوانها المختلفة. لن اسرد سيرة حياته التي صارت معروفة، ونقلتها صحف وإذاعات وقنوات، ولن أكتب عن جان عبيد السياسي.عن جان عبيد الإنسان أكتب، وهذا أهم ما يعنيني في الرجل. رحيله جعلني أسترجع جلسات طويلة كانت لي معه، وأقولها الآن ومن غير تردد، أن جان عبيد كان يودع الحياة قبل أن يأخذه الموت. لست أدري ما إذا كنت أفشي سرا، لكنه سر لا يدرك كنهه إلا صاحبه، ولا يحسه مع مرور الزمن إلا من جالس الرجل واستمع إليه بشغف. وكلمعة الحباحب ينقشع هذا السر أمامي جلياً، وأنا أسترجع من حافظة الذاكرة حديثه معي في الروحانيات ونحن في مكتبه، ذاك المتواضع في تلك البناية العادية بمنطقة حرج تابت.

إذا سألتني أيها القارئ الكريم كيف انني لم أعرف هذا السر في حينه، وكيف انني عرفته الآن، فجوابي لك انه في الموت الذي أخذ جان عبيد، أو قد يكون من أشراط الساعة كما يقول المنجمون. أتساءل الآن، وانا على بعد الآف الأميال من رفاته، ومن مكتبه في حرج تابت، ودارته في بلونة، تلك البلدة الوادعة في جبيل، شمال لبنان، كيف أنني لم أستطلع منه ذلك السر الرهيب وأنا معه في الجلسات الأخيرة، لكن الزمن يكشف لنا دائما اشياء عن بشر لا نعرفها عنهم إلا بعد رحيلهم، وربما يكون هذا بعض افضال الموت على الحياة!

ولد جان عبيد مسيحيا وعاش مسيحيا، وكان اقرب إلى نبي الجليل من بعض رجال الكنائس، ورهبان الأديرة، وأقرب إليه من فريسيين جدد دلفوا إلى مسرح حياتنا وبدأوا يتحدثون عن حقوق المسيحيين! كان إيمانه عقلانيا وصافياً، وكنت أحترم هذا الإيمان لديه، وأبادله الإعجاب بسيرة يسوع، خصوصاً ما جاء فيها عن المجدلية، على رغم شكوكي بأنبياء التاريخ كلهم، وكان هو يعرف ذلك عني ويتقبله بصدر رحب. قلت إنني لن أسرد سيرة حياته، الحافلة بالأحداث والمواقف، لكن يكفي أنني عرفت فيه الإنسان، وهذا في نظري أهم من المناصب التي شغلها في حياته، والتي هي ليست شيئا بالقياس إلى ما كان في شخصيته من بعد إنساني كنت أقدره حق التقدير، ويقدره كلما من عرف الرجل من كثب، وسبر أغوار نفسه وتطلعاته، وتواضعه ومحبته لوطنه، ووطنيته الصادقة، على رغم نظراتنا المتباينة فيه كسياسي لبناني وعربي.

كان جان عبيد يحدثني كمؤمن، يصلي صلاة خاصة تعلمها من والدته الراحلة التي كانت تتضرع إلى “ربها” وتناجيه بالقول إن أولادها أمانة منه بين يديها، “فإن كانوا صالحين أبقهم يا ربي، وإن لم يكونوا صالحين فخذهم، وتلك هي مشيئتك” إيمانه الواسع جعله يجل القرآن وما فيه من إعجاز، ويعتبره “تكريما  للعرب واللغة العربية من الله، وأمانة على العرب أن يقدّروها ويحفظوها”. بعد القرآن، لا كتاب في نظره أعظم من “نهج البلاغة”، أما شاعره الأثير فكان المتنبي، وعنه كان يقول: “شعر أبي الطيب من الجمال بحيث تصعب ترجمته إلى أي لغة في العالم”. في اللحن والطرب كان “كلثومي” الهوى، وكانت في نظره البحر، أما الباقون من مطربين ومطربات فهم في نظره “روافد وجداول، وفي أحسن الأحوال أنهار، لكن كوكب الشرق هي البحر من دون منازع، وتبقى متربعة على عرش الغناء العربي” وفق قوله. لا أذكرأسبوعين مرا من دون أن أتلقى منه مكالمة، وكانت سونيا، مديرة مكتبه، تتصل بي وتقول لي أن الوزير عبيد على الخط، وفي كل مخابرة كان يبادرني بشتيمة، وبتلك اللهجة اللبنانية الشمالية المحببة! كنت أحب منه الشتائم، لما فيها من رفع للكلفة، ومن مودة ومحبة خالصة، وكان ينهي كلامه معي بعنوان أغنية أم كلثوم “أنا بانتظارك”.

أعرف أنني لن التقي جان عبيد لا في القريب العاجل ولا في الأمد البعيد، وأعرف أن سونيا لن تتصل بي بعد الآن لتقول لي “أن الوزير عبيد على الخط”، أعرف ذلك، وأشعر بفراق الرجل، وسوف اشعر به اكثر إذا جئت إلى لبنان من دون ان القاه، أو اتفق وكنت في الشارع حيث مكتبه. لكن في جعبتي حيلة هي أشبه بالدواء المسكّن، ألجأ إليها عند كل فراق حبيب وحبيبة. حيلة تعلمتها من سيرة الأديب اللبناني الراحل سعيد نقي الدين يوم كان في مغتربه في الفيليبين، في ثلاثينات القرن الماضي. وقتها بلغه نبأ رحيل عمه الشاعروالأديب أمين تقي الدين في لبنان. لم يبك سعيد الأديب ولم يتحسر، بل كتب مقالاً عنوانه “أمين تقي الدين موته اغتراب”. أقنع نفسه أنه ما دام هو مغترب في تلك البلاد القصية ولا يرى عمه، فذلك العم لم يمت، وما رحيله إلا اغتراب متواصل، ولن يكون فناء. “حيلة الضعيف” كما كتب في آخر ذلك المقال، لكن ألسنا كلنا ضعفاء حيال الموت على أي حال؟!  لذلك سأقنع نفسي أن جان عبيد الذي جاءني نعيه ما زال حياً، وأنني ما زلت مغتربا عنه. الفارق الوحيد أنني لن اسمع بعد الآن صوت سونيا مرة أو مرتين كل شهر، تقول لي إن الوزير عبيد على الخط. لكن هل اختفى ذلك الخط حقا، أم هو مجرد أسلاك اسطورية محفورة في الوجدان، وموصولة بالذاكرة، يتناهى إلى مسمعي رنينها الأبدي، وتبقى ترن وترن وترن ولا تتوقف إلا في ساعة غياب لا مفر منها، ولا عودة منها، أو في ذلك اليوم الذي “يرث الله فيه الأرض ومن عليها” كما جاء في الكتب، وكما يردد المؤمنون، مذ كانت الأرض وكانت الكلمة؟!

العدد 114 / اذار 2021