خلود

يستقر في دار صديقة لي، في غرفة المعيشة بالتحديد و على جانبي موقد النار، وعاءان فضيان مزخرفان بزخارف فنية جميلة، يتهيأ للناظر انهما قطع  فنية اختيرت لتزيين المكان، و لكن الغرض من وجودهما في الواقع اكثر من مجرد زينة المكان و جماله، اذ يحتوي احد الاوعية على رماد والد رب الدار، زوج صديقتي، و يضم الاخر رماد امه !

كانت وصية الوالد الذي توفي في ثمانينيات القرن الماضي ان يحرق جثمانه و ينثر رماده في فوق مياه البحر الذي تطل عليه المدينة الصغيرة التي ولد فيها اوائل ذلك القرن. شكلت الحرب العالمية الاولى جزءاً من حياة ذلك الرجل، حيث كان قدومه الى هذا العالم خلالها، ثم قاتل مع اقرانه في الحرب العالمية الثانية و عاد منها سالما معافى. كافح بعد ذلك لاجل تربية ابنائه و دعم ابويه و عندما بلغ سن التقاعد صار يتغنى بماضيه و يفخر بما انجز في حياته. لم يكن يرغب لجسده الذي عاش تلك المآثر ان ينتهي الى جثة تحت التراب و طعام لدود الارض. ايده اولاده و وعدوه بتلبية رغبته فقد كان، بالنسبة اليهم، سخيا كالماء، عنيفا كالموج الهائج عندما قاتل في الحرب ببسالة و نال وسام بطولة، فالبحر هو المكان الانسب ليكون مستقره الاخير و موضع راحته الابدية !

كانت هناك مشكلة صغيرة، هي بعد المسافة بين مدينتنا هذه، حين تسكن صديقتي و زوجها، و بين موقع ذر الرماد، فالمكان يقع في اقصى شمال الجزر البريطانية او على حد قول زوج صديقتي ( موطننا هناك و لا شيء بعده سوى البحر). تتطلب تلك المهمة ظروفا خاصة لانجازها؛ ان يكون الطقس جيدا مثلا، فلا جدوى من نثر رماد في يوم ممطر عاصف كما هو الحال هناك في معظم الاوقات، و ان يحل ذلك اليوم المعتدل الطقس خلال عطلة نهاية الاسبوع كي يتمكنوا من السفر و العودة بدون الحاجة الى الانقطاع عن العمل.

ظل الوالد، او بقاياه، مستقرا في وعائه في غرفة المعيشة حتى التحقت به الام قبل عشر سنوات تقريبا ليستقر رمادها في وعاء مشابه على الجانب الاخر من موقد النار، و لا يزال الابن يقوم بنفسه بتنظيف الوعائين و ازالة الغبار عنهما حتى يحين موعد نقلهما الى المستقر الاخير!

أوصى الفيلسوف الاغريقي ديوجَنيس أن يُلقى جسده بعد الممات خارج اسوار المدينة وليمة لوحوش البر، فالجسد الميت برأيه ليس اكثر من قشرة فارغة او وعاء يخلو من الوعي و الاحساس. و رغم انه كان مصيبا في رأيه حول خلو الجسد الميت من الوعي و الاحساس، على حد علمنا حتى الان على الاقل، الا اني اجد الكثير من التطرف في رغبته في ان تلقى جثته في البرية، مثلما اجد بعض التطرف في الاهتمام المبالغ فيه من قبل بعض الاشخاص حول اجراءات التعامل مع اجسادهم بعد الموت، فلا اجد سببا مقنعا في رغبة البعض في ان تدفن اجسادهم في بلاد اخرى مثلا، و ما يتبع ذلك من عناء و مشقة يتحملها الاحياء الذين يقومون بتنفيذ الوصية، عدا عن الكلفة المادية الناتجة عن ذلك و التي تكون مرتفعة على الاغلب.

و ما بين رغبة ديوجنيس في إلقاء جسده الميت في العراء و رغبة البعض في تحويل الجسد الى حفنة رماد فإن دفن الموتى هي الطريقة الاقدم التي عرفها و مارسها الانسان، إذ تم العثور على قبر في كهف قفزة في فلسطين يعود تاريخه الى اكثر من مائة الف عام ،  ضم رفات خمسة عشر شخصا مع بعض الادوات التي كانت تستخدم في ذلك الزمان.

آمن السومريون بالحياة الاخرى، او الحياة بعد الموت. كان المعتقد السائد في بلاد ما بين النهرين، و منذ الالفية الخامسة قبل الميلاد، ان العالم الآخر موجود تحت الارض، لذلك، و وفقا لما كتبه المؤرخ الاميركي ويل ديورانت في مؤلفه الموسوعي الفخم ( قصة الحضارة )، فقد آثر السومريون دفن موتاهم في قبور محفورة في الارض، كي يسهل على روح المتوفى الوصول الى العالم الآخر.

لم يكن حرق جثث الموتى مألوفا في بلاد ما بين النهرين، ربما كان قلة توفر الاخشاب اللازمة للحرق سببا في ذلك، لكن ديورانت بيّن أن السومريين آمنوا بوجوب ذهاب روح الانسان الى العالم السفلي، و الدفن في قبر تحت الارض هو سبيل وصولها الى هناك لتكون مع ارواح اخرى مماثلة لها، بينما حرق جسد الانسان الميت يجعل روحه تصعد نحو السماء؛ الى مملكة الآلهة حيث لا مكان لروح بشرية هناك، فلن تجد لها مكانا و مستقرا.

لم يختلف المصريون القدماء عن السومريين كثيرا من حيث نظرتهم الى الموت، فقد آمنوا بوجود روح داخل كل جسد حي، و لا ينبغي لتلك الروح ان تنتهي مع انقطاع النفس و موت الجسد، فكانت الاهرامات تجسيدا لايمانهم بخلود الروح و ابديتها. كانت الروح، وفقا للاساطير المصرية القديمة، تقف في حضرة الاله الأعظم للحساب، حيث يوزن قلب المتوفى مقابل ريشة نعام محددة تعود الى إلهة الحق و العدل و النظام. اذا كان القلب اخف وزنا من تلك الريشة تعبر الروح الى الفردوس الابدي، اما اذا كان اثقل منها وزنا، يلقى على الارض ليلتهمه إله يربض دوما تحت ذلك الميزان، عندها تتلاشى الروح الى العدم، و تلك كانت أقصى و أشد عقوبة.

كان المعتقد لدى قدماء الاغريق و المصريين ان الروح تبقى طالما بقي ذكر المتوفى بين الاحياء، لذلك بنوا القبور و حفروا عليها اسماء من يدفن فيها، خصوصا الملوك و علية القوم، و دونوا على تلك الصروح محاسن المتوفى و كل ما يحمد من سيرته و أعماله خلال حياته، فكل من يقرأ المكتوب يعيد ذكرى المتوفى و لو بعد الوف السنين.

الحياة ثمينة بلا شك، و لكن تمسك الانسان بها أو ربما خوفه من مفارقتها يصل احيانا الى حدود تدعو الى التفكير و الدهشة، فقد ادرك الانسان منذ الازل ان مهلة وجوده على هذه الارض محددة، لذلك يبدو أنه لجأ الى ابتداع صور و تفاصيل لعوالم اخرى تالية تمنحه الخلود الذي طالما حلم به و تمناه.

بغض النظر على فكرة الخلود، اعتقد اننا نبني قبور احبتنا الراحلين لانفسنا، فتكون لنا مرافئا يسوقنا الشوق نحوها، نلجأ اليها كلما اوجعنا الفقد و الفراق و اعتصر قلوبنا الحنين الى من يستقر بها من الراحلين.

العدد 118 / تموز 2021