العولمة و اللغات

الدكتور إبراهيم الحريري

ولما كانت اللغة أداة تفكير وتعبير وتخاطب وتواصل وتفاهم بين أفراد بني البشر باعتبارها خاصية إنسانية، تعبر عن أي حراك تاريخي ثقافي أو حضاري وتخزن منتجاته في الذاكرة الفردية الجماعية، وهي وسيلة نقل التراث والثقافة والحضارة من جيل إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى وبين الأمم والشعوب، فهي تشكل أحيانا المقوّم الوحيد الجوهري والأساسي وفي أحيان أخرى تمثل أحد المقومات الجوهرية والأساسية  التي قامت عليها العديد من القوميات والأمم مثل اللغات الأوربية واللغة العربية واللغة الهندية وغيرها.

   اللغة الواحدة بنسقها الرمزي والعلمي والمنطقي والدلالي وبأبعادها العقلية والنفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية والدينية وغيرها وفي سياقها التاريخي توحّد الشعور بالانتماء المزدوج إلى اللغة وإلى كل من يحملها ويتكلّم بها بعد تشكّل هذا الشعور وتقويته، الشعور بالانتماء إلى اللغة وإلى الجماعة البشرية التي تتحدث بها، هذه الوحدة وما تنطوي عليه من ترابط وتماسك تقوم في الذهن أولا كفكر ونظر ثم تتحول إلى ممارسة وواقع وعمل، هكذا تشكلت الهويات اللغوية البشرية في عالمنا الحديث في أوربا الغربية وفي غيرها، مثل الهوية الألمانية والهوية الإنجليزية والهوية الإسبانية والهوية الهندية والهوية العربية …إلخ. وكل هوية من هذه الهويات قامت على لغة ما.

ما تعريف اللّغة؟

المعنى اللّغوي: جاء في لسان العرب لابن منظور في تحديد الاشتقاق اللّغوي لكلمة “اللّغة” ما يلي:

“اللّغة من لغا في القول يلغى وبعضهم يقول يلغو ولغي يلغى لغة ولغا يلغو لغوا: تكلّم. وفي الحديث: من قال يوم الجمعة والإمام يخطب لصاحبه صه فقد لغا أي تكلّم …واللغة: اللَّسنُ وحدّها أنّها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم، وهي فُعلة من لغوت أي تكلمت أصلها لُغوَة والجمع لغات ولغون”.

لفظ اللّغة يرادفه لفظ الحديث أو التحدث ويرادفه الكلام أو التكلم.

المعنى الاصطلاحي: لا يوجد تعريف واحد لدى علماء اللّغة للّغة متفق عليه بل تعددت التعريف وتباينت نذكر بعضها:

– تعريف ابن جني للّغة: “أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”.

– عرّفها آخر: “وسيلة صوتية يستخدمها الإنسان للتعبير عمّا لديه من أحاسيس أو أفكار، وهذه الوسيلة تمكنّه من التفاهم مع الآخرين”.

– عرّف القدماء اللّغة بأنّها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، ولم يتجاوز المحدثون هذا التعريف، لكن عند ربط اللّغة ليس بوظيفتها بل بالإنسان ككل “فاللّغة هي الإنسان، وهي الوطن والأهل، واللّغة هي نتيجة التفكير, وهي ما يميّز الإنسان عن الحيوان وهي ثمرة العقل والعقل كالكهرباء يُعرف تأثيره ولا تُرى حقيقته”.

– وتُعرّف اللّغة عند علماء النفس اللّغوي بأنّها «مجموعة إشارات تصلح للتعبير عن حالات الشعور، أي عن حالات الإنسان الفكرية والعاطفية والإرادية”.

اللغة في ربطها بوظائفها أو في ربطها بالإنسان فهي أداة تفكير وتعبير وتواصل وتفاهم على المستوى الفردي أو المستوى الاجتماعي الأممي والإنساني عامة، وعلى الصعيد الثقافي والحضاري، اللغة هي الإنسان والحياة الإنسانية وخارج اللغة لا تتجسد ولا تتحقق الإنسانية بأبعادها المختلفة.

تسببت هيمنة اللغة الإنجليزية على الإنترنت منذ البدايات في إثارة ذعر كبير بشأن تهديد محتمل للغات والثقافات المحلية. على الرغم من ضعف هيمنة اللغة الإنجليزية على الإنترنت منذ ذلك الحين ، لا يزال هناك قلق بشأن كيفية تفاعل اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى عبر الإنترنت .

نتيجة للعولمة، يتكلم المزيد والمزيد من الناس إحدى لغات العالم الرئيسية, في حين أن اللهجات المحلية تفقد أهميتها باستمرار في الوقت ذاته. يريد الناس التواصل مع جميع أنحاء العالم، ولا يمكنهم تحقيق ذلك من خلال التحدث بلغاتهم الإقليمية فقط. مما سهل هيمنة اللغة الإنجليزية على عصر العولمة.

ما هي أكثر اللغات انتشاراً؟

حسب احصائيات موقع (www.statista.com)  لعام 2021 يتضح ان تسلسل اللغات المحكية عالمياً من حيث العدد هو: الإنجليزية بالمركز الأول و بعدد حوالي 1348 مليون, و بالمركز الثاني الصينية الماندرين و بعدد ناطقين حوالي 1120 مليون , ثم بالمركز الثالث الهندية بحوالي 600مليون ,بالمركز الرابع الاسبانية 543 مليون , و تحل اللغة العربية الرسمية بالمركز الخامس بعدد حوالي 274 مليون ثم البنغلادشية بعدد 268 مليون ثم الفرنسية بعدد حوالي 267 مليون ,تتبعها الروسية بحوالي 258 مليون , البرتقالية بحوالي 258 ثم الاوردية بحوالي 230 مليون ,و الإندونيسية بحوالي 199 مليون ثم الألمانية الرسمية بحوالي 135 مليون و اليابانية ثامناً بحوالي 126 مليون .

لا يوجد سوى لغتين أوروبيتين من بين أكثر خمس لغات يتم التحدث بها في العالم: الإنجليزية والإسبانية. اللغة الإنجليزية في المرتبة الاولى والإسبانية في المرتبة الرابعة على قائمة أكثر اللغات المحكية في العالم. أصبحت اللغة الإنجليزية اللغةَ الشائعة في التواصل الدولي، ويتحدث الإسبانية الكثير من الناس في أمريكا اللاتينية. أيضاً في ألمانيا، نحن معتادون نسبياً على هاتين اللغتين. ولكن ماذا عن العربية والماندرين والهندية – اللغات الثلاث الأخرى في قائمة الخمسة الأوائل على مستوى العالم؟

أكبر عدد من الناطقين باللغة الأم وهي الصينية حيث تجاوز عددهم مليار شخص. علاوة على ذلك، هناك 198 مليون شخص يتحدثون الصينية كلغة ثانية. ومن المفترض أن هذا الرقم سينمو بسبب التأثير الاقتصادي الصيني العالمي.

تأتي الهندية في المرتبة الثالثة مع 600 مليون شخص يتحدثون بها. يتم التحدث بها بشكل رئيسي في وسط وشمال الهند وهي لغة رسمية في الهند إلى جانب الإنجليزية. سيُظهرُ الوقت إذا ما هيمنت إحدى اللغات على الأخرى أو ما إذا استمرت اللغتان في التواجد جنباً إلى جنب. اللغة الهندية محلُ تقدير كبير جداً ومُتعَلّمةٌ من قبل العديد من الناس، وخاصة في الهند. إن حوالي نصف الـ 600 مليون شخص ناطق باللغة الهندية قد تعلموها كلغة ثانية.

اللغة العربية هي اللغة الخامسة الأكثر نُطقاً على الرغم من تفوقها من حيث الكلمات بعدد يتجاوز 12 مليون كلمة، مع274 مليون متحدث، ويضاف لهذا الرقم مثله للناطقين باللغة العربية خارج الدول العربية والتي تعد اللغة العربية لغة رسمية لها والتي اعتمدت الدراسة عليها بالعدد كلغة رسمية فقط، و بلا شك أن اللغة العربية تنتشر بسرعة بعصر العولمة، ولا سيما أن اللغة العربية هي لغة القرآن والإسلام – وهو دين ينمو باستمرار. في اللغة العربية، هناك العديد من اللهجات المختلفة التي تجعل التواصل بين الناطقين بالعربية أكثر صعوبة. لذلك، يُنظر الآن إلى المزيد من الجهود التي من شأنها توحيد استخدام اللغة.

اللغة الإنجليزية – أهم لغة للتواصل الدولي (ولا تزال)

وفقا للإحصاءات، فإن اللغة الإنجليزية هي الأكثر انتشاراً في العالم وبعدد كلمات حوالي 600 ألف كلمة. حوالي 1348 مليون متحدث في جميع أنحاء العالم – بالمقارنة مع لغة الصينية الماندرين وبعدد كلمات حوالي 400 ألف كلمة، و 1120 مليون متحدث عالمياً. يتم استخدام اللغة الإنجليزية للتواصل الدولي في الاقتصاد والعلاقات الدولية. لذلك، يتم تَعلّم هذه اللغة في جميع أنحاء العالم. حيث تساعدك الإنجليزية على التواصل على الصعيد العالمي مع المزيد من الناس.

على الرغم من نجاح اللغة الإنجليزية و حتى بالمجتمع الصيني و لغته، إلا أن الصينيين في ازدياد مستمر وببرامج مدعومة من الحكومة الصينية مباشرة مدركةً ان اللغة هي مفتاح الشعوب, على وجه الخصوص في القارة الآسيوية والأفريقية يتعلم عدد متزايد من الناس الصينيين للاستفادة من الوجود الصيني. على سبيل المثال، في كينيا، يتعلم الأطفال اللغة الصينية في المدرسة الابتدائية. تحتل الصين موقعاً مهيمناً في جنوب شرق آسيا وتوسع نفوذها في إفريقيا أيضاً.

التأثيرات على لغات الأقليات

أكثر من 25٪ من لغات العالم لا تمثل سوى 0.2٪ من المتحدثين، نصف لغات اليوم عرضة للتوقف خلال المائة عام القادمة بسبب عدم الاهتمام برعايتها. ,مما يجعل من المعقول أن تنقرض انقراض أكثر من 90 ٪ من اللغات المنطوقة في العالم بحلول عام 2100.

بسبب العولمة ووجود لغات العالم، هناك المزيد والمزيد من لغات الأقليات الإقليمية مهددة بالاختفاء, والتنوع اللغوي آخذ في التناقص. لا سيما أنها ليست واسعة الانتشار جغرافياً ويتحدث بها عدد قليل من الناس في خطر الاختفاء. كما يؤثر النمو الاقتصادي والعولمة على لغات الأقليات بشكل سلبي. يميل الناس إلى التواصل على سبيل المثال باللغة الإسبانية, لأن المزيد من الأشخاص يمكنهم فهم الرسالة. وبالتالي، فإن اللغات الإقليمية أقل تَحَدُثاً في الأجيال الجديدة ومن المتوقع أن تختفي.

تحاول العديد من الدول الأوروبية مواجهة هذا الاتجاه وتطوير أفكار للحفاظ على لغات مثل الفريزية و الأيرلندية و الويلزية على قيد الحياة. لغات الأقليات هذه محمية من قبل الاتحاد الأوروبي. الفريزية على سبيل المثال، لا تزال هي اللغة الرسمية الثانية في مقاطعة في هولندا وعلامات الشارع هي ثنائية اللغة أي بالهولندية والفريزية. يتم استثمار الكثير من المال في الترويج للغة الفريزية ويتم تقديم العديد من الدورات التعليمية للغة الفريزية. ومع ذلك، يتناقص عدد الناطقين النشطين لهذه اللغة. من الواضح أنه حتى مع الاستثمار المالي المرتفع، من الصعب مواجهة ضياع واندثار اللغة.

ما مستقبل اللغات المحلية و اللهجات؟

إن البند الخامس من “الإعلان العالمي للحقوق اللغوية” الذي ينصّ من حيث المبدأ على أن لكلّ الجماعات اللغوية حقوقاً متساوية، بغض النظر عن الوضع القانوني أو السياسي للغتها، أكانت رسمية، إقليمية أو لغة أقلّيات، هو بند ودّي ربما، إلّا أنه غير واقعي تماماً.

بعض اللغات يطالب المتكلّمون بها أن تُعتبر لغات هُويّة، فيما يتخلّى متكلّمون آخرون عن لغاتهم ولا يعملون على نقلها إلى أولادهم ويفضّلون لهم اكتساب لغة أخرى. والعولمة التي تزيد من أعداد شبكات التواصل، تُعمّق التفاوت بين اللغات، وتعزّز وضع اللغة المفرطة في مركزيتها، الانكليزية، على حساب اللغات الطَرَفية. من هذه الناحية.

تتنامى لغات العالم بينما تفقد اللهجات الإقليمية أهميتها. على المدى الطويل، سينخفض التنوع اللغوي بسبب العولمة. ومن المتوقع أن تستمر اللغة الإنجليزية والصينية في النمو على مدى العقود المقبلة، ومع ذلك لا يمكن للصينيين أن يحلوا محل اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة الأولى للتواصل الدولي.

وإذا كانت اللغات غير متساوية في الواقع، هل يتوجّب علينا أن نكافح من أجل مساواتها؟ هل بإمكان السياسات اللغوية “حماية” اللغات المهدّدة بالانقراض، وهل يتوجّب عليها ذلك؟

 الأوضاع اللغوية تتغيّر باستمرار، ومهما كانت عملية المسح دقيقة، فإنها لا تلبث أن تتبدّل بسرعة. والعوامل التي توثّر في هذه التغيّرات متنوّعة، ولا يمكن لعامل لوحده أن يفسّرها. فهناك الديمغرافيا، والنقل، والتحضّر، وسياسات الدول، والتكنولوجيات الجديدة، التي حوّلت العالم إلى “سوق” تحظى فيه اللغات بتراتبية، إذ يكون بعضها في قلب النظام العالمي، لأن عليها الطلب الأكبر، وبعضها الآخر على الطرف أو الهامش، ويتمّ التخلّي عنها شيئاً فشيئاً.

و بالنهاية الكل يجمع اليوم بأن العولمة  و قوتها الناعمة نجحت بما فشل به الغرب الأوربي بأساليب شتى ووسائل مختلفة بتغريب الشعوب المستعمرة فكريا وثقافيا ودينيا ولغويا.

العدد 122 / تشرين الثاني 2021