غطاء الرأس، والشخصيّ من تجارب النساء

نسرين الرجب_لبنان

        إنّ الجدل حول موضوع غطاء الرأس أو الحجاب (بحسب اللفظ الشائع)، قائمٌ بذاته منذ كان الرجال يُحدّدون للنساء قواعد اللبس، إلى حين قامت النساء باسترجاع حقهنّ في مناقشة مسألة ما يرتدينه وما لا يُرِدنَ ارتداءه، إلى حدّ اليوم وما بعده ولا يمكن حسمه بآراء محدّدة، ولا حتى بتجارب أشخاص..

        لا يسعى هذا المقال لحسم الجدل، ولا ليضع النقاط على الحروف، بل يسعى لعرض وجهات نظر للمعنيّات بارتداء غطاء الرأس من عدمه، وهُنّ النساء بشكل عام، والمسلمات منهن بشكل خاص، والمقال لا يدّعي المنهجيّة في طرح القضيّة، ولكن يُيسّر توارد الأفكار بين أقوال الحكواتيّات وتقاطع بعض الأقوال مع أفكار الباحثة “ألفة يوسف” في كتابها “ناقصات عقل ودين”، ورأي شخصيّ انطباعي ومقتضب عن رواية “بوركيني” لمايا الحاج،  ولا يتّسع المقام للإفاضة في عرض وجهات النظر الكثيرة والمتنوعة.

         قامت ورشة المعارف (وهي مؤسسة تُعنى بالقضايا النسويّة) في العام ٢٠١٩ بإجراء مقابلات تاريخ شفوي فرديّة (بحيث تُمثّل هذه المقابلات إحدى مصادر التاريخ الشفهي غير المنقول) مع ثلاث نساء (حكواتيّات) مُخضرمات من منطقة الجنوب اللبناني وتحديدًا منطقة النبطية، نستعين في هذا المقال ببضع مقاطع حَكيْنَ فيها عن تجربتهن مع غطاء الرأس أو ما اصطُلح عليه تسمية “الحجاب”، وكيف بنين تصوراتهن عنه.

الحجاب الحاجِب

        ترى الدكتورة دلال عبّاس وهي أستاذة جامعيّة وباحثة وكاتبة أنّ لفظة الحجاب غير صحيحة، فهي تعني الحاجز بيننا وبين الآخرين، والأصل لباس، ستر، وغطاء الرأس، وهو كلام يتقاطع مع فكرة الباحثة “ألفة يوسف” في كتابها “ناقصات عقل ودين”، مستعينة ببعض المرويات والأحاديث الدينية عن مفهوم الحجاب كجذر لغويّ تعيده للفعل حجب، والمصدر مُحتجب والذي يفترض غيابًا تامًا للمحجوب، والله أبرز المحجوبين بصفته الغائب عن الرؤية. وعن آيات الحجاب التي نزلت على الرسول لأمر نسائه بالتحجُّب، وذلك بحسب ما توصلت إليه المرويّات والتفاسير التاريخيّة يعود إلى: الخشيّة من أن يتعرّضن لأذيّة معنويّة وماديّة في مجتمع جاهلي لا يتصوّر المرأة كائنًا ذا قيمة.

غطاء الوجه.. “الرمية”

        هناك ارتباط ظاهريّ على الأقل بين شكل الحجاب والمكان أو البيئة الثقافيّة والتاريخيّة السائدة، ويختلف من بلدٍ لآخر،  فنُلاحظ أنّه في بلدان مثل مصر أو غيرها ارتداء بعض النساء للنقاب (غطاء الوجه باستثناء العينين)  ولا يهم لونه إضافة إلى الثوب الفضفاض، وفي أفغانسان ولمرحلة مظلمة من التاريخ فُرض لباس موحّد على النساء يغطي كل أجسادهن وحتى وجوههن لونه أزرق،  ويُلحظ أنّ العباءة السوداء هي الزيّ الرسميّ للنساء الإيرانيّات والعراقيّات، يرتدينها فوق ملابسهنّ العادية، وهي لا تشمل تغطية الوجه، وخاصة أثناء زيارة المقامات الدينية،  وفي لبنان لوحظ أنّ العباءة بشكلها الحالي “الشادور” أتت إلى لبنان مع المدّ الثقافي الإسلاميّ للثورة في إيران،  علمًا أنّ زوجات علماء الدين الذين درسوا في النجف كنّ يرتدين العباءة قبل الثورة الإسلاميّة، وكان الحجاب ولا يزال يتّخذ أشكالاً متنوعّة، وهو أمر يثير تساؤلات حول مدى ارتباط شكل الحجاب بالثقافة والأعراف العامة السائدة في مجتمع ما، وكيف يمكن لثقافة بلد أن تؤثّر في ثقافة بلد آخر ويُصبح الأمر وكأنّه واجبٌ أو فرضٌ إيمانيّ؟!

        في السياق تحكي الأستاذة سلمى علي أحمد وهي مُعلمة سابقة ومؤسِسة “جمعية تقدم المرأة” في النبطية عن النقاب أو “الرميّة” (وهي قطعة قماش شفافة يغطى بها الوجه)، في مرحلة ما قبل الخمسينيات كانت النساء يرتدينها في المدن، على غرار النسوة في المسلسل الدرامي السوري “باب الحارة”، فوالدتها حسبما تذكر كانت تضع الرمية عند خروجها وبعد ذلك ارتدت منديلاً أي شالاً أبيضَ. وتصف مرحلة الانتقال من ارتداء الرمية وهي صبية في الثالثة عشرة، إلى ارتداء الإيشارب على الرأس من ثمّ التخلي عن غطاء الرأس بالتطوّر الطبيعي،  مما يُفسر أنّ التعامل مع مسألة الحجاب كانت غير مُعقدة كما حدث بعد ذلك في الثمانينيّات.

حكت عن نساء القرية ونساء المدن وكيف أنّ نساء القرية كنّ أكثر تحرُرًا وفطرة من نساء المدينة المُتزمّتات والأكثر ميلاً للثرثرة، وهذا ما أوضحته الدكتورة والأستاذة الجامعية دلال عباس في سياق مختلف، عن أمّها: التي كانت محجبة وتغطي وجهها كوالدتها التي كانت من المخبآت [أي نساء علماء الدين وبناتهنّ اللواتي لا يقابلن سوى المحارم، يتعلمن ويمارسن الحياكة والأعمال المنزلية ولا يشاركن في الأعمال الزراعيّة وغيرها خارج المنزل كغيرهنّ من القرويّات، وفي الضيعة وجدت أن حماتها وكلّ النساء لا يغطين وجوههن، فقالت إنّها لا يجب أن تتميّز عنهنّ، فاستغنت عن النقاب (أي غطاء الوجه) وأبقت على غطاء الرأس، علّمت الشابات القراءة والكتابة، وكانت تُحاضر في رجال القرية من الأقارب، تصحّح لهم قراءة الصلاة والمفاهيم الدينيّة.

 أمّا الأستاذة زهرة صادق والتي عملت في مجال التعليم والإدارة التربويّة وهي حاليًا مسؤولة في جمعية تقدّم المرأة، فقد حكت عن تزمُت نساء المدينة (النبطية)، وعن الصعوبات التي واجهتها في جوّ عائلتها الدينيّ والذي كان محافظًا لدرجة أنها في طفولتها كانت تُمنع من الخروج من البيت إلّا في مواعيد الذهاب والإياب إلى ومن المدرسة حتى سنّ معينة.. كان والد الأستاذة زهرة شيخًا معمّمًا، فُرض عليها ارتداء العباءة في الثامنة من عمرها، وكان جدها يشجعها، فكانت تذهب إلى المدرسة والعباءة مفتوحة، وتحتها ترتدي ملابسًا عاديّة، حتى انتبه لها أهلها وطلبوا منها عدم ارتدائها، والاكتفاء بارتداء الإيشارب واللباس المتمّم للحجاب.

غطاء الرأس والحريّة الشخصيّة

        حكت الدكتورة دلال عن اللباس المحتشم، فقد تربّت في منزل والديها في كوثريّة السياد تربية دينيّة غير مُتزمتة، كانت تضع غطاء الرأس حتى عمر الخامسة عشرة، حين دخلت دار المعلمين في صيدا في الستينيّات لم يكن أحدًا يرتدي الإيشارب سواها، وكان سائدًا أن “القروية تضع غطاء الرأس والمتمدنة ليست كذلك”. دفعها ذلك للتخلي عن غطاء الرأس فكانت تضعه حول رقبتها كما تقول، تقبّلت العائلة القرار خيارًا شخصيًّا لابنتهم، وخوفًا من أن تهجر الدراسة لأنّ ارتداءه كان محرجًا بالنسبة إليها.

في أثناء وجودها في إيران لمدة سنتين قبل الثورة الإسلاميّة، كان عليها مقابلة علماء دين من أجل أطروحتها عن بهاء الدين العامليّ، فعادت إلى وضع الإيشارب من تلقاء نفسها في الثامنة والعشرين من عمرها، وإرضاء لوالدها كما تقول، الذي كان يحبّ أن ترتديه ولم يكن مرتاحًا حين خلعته، كان دائمًا يقول: ” لا أعتقد أنّ الإيشارب يمنع العقل من التفكير.

وفي معرض الحديث عن الشخصيّ قالت الدكتورة دلال: إنّ غطاء الرأس واللباس المحتشم حرّرها من أمور كثيرة، ومن مفاهيم مغلوطة…

تناولت روايات عدّة موضوع الحجاب، ومنها رواية “بوركيني” لمايا الحاج، والتي تعكس صراع الشخصيّة الرئيسيّة مع الحجاب والجمال، وسعت لإثبات جمالها على الرغم من الحجاب كما حاولت المؤلفة أن تقول!! بأسلوب يفتقد للعمق ويعكس صراعًا أساسه عدم المصالحة مع الذات، وعن الغيرة من النسوة اللواتي لا يرتدين الحجاب واللواتي يتزيّن ويرتدين ملابس أقرب إلى العريّ من اللباس، وأخيرًا تقبلها لحجابها لأنّ زوجها أقنعها بأنها جميلة به.

        في المدرسة كانت الاستاذة زهرة هي الوحيدة التي ترتدي غطاء الرأس، بعد ذلك وحين أصبحت معلّمة تغيّرت المعادلة فارتفعت نسبة المحجبات. في دار المعلمين ارتدت المنديل، والذي قالت أنّه كان له طابعًا خاصًا، حين تزوجت لم يكن زوجها مهتمًا لأمر الغطاء، ولكنه كما تصف كان يفضّل الحشمة، وعندما توفي والدها خلعت غطاء الرأس وهي في الثانية والثلاثين لأنها كانت تشعر طيلة حياتها أنها أُجبرت عليه، وأنه كان بالإكراه. لمدة عشر سنوات وصفت المرحلة “من دون غطاء الرأس” بالصعبة، لكونه كان عادة بالنسبة إليها، بعد ذلك كانت تضعه حول رقبتها، فتقول “كان فكري إذا شلحت الحجاب رح صير حُرّة،” وبعد مرحلة من القراءة والاطّلاع رجعت لارتدائه عن قناعة.

وهو ما يتقاطع مع مفهوم الحرية وخلع الحجاب كما شجّعت له سياسة الشاه في إيران، في كتاب الدكتورة دلال عباس عن “نصرت أمين مجتهدة عالمة في الزمن الصعب”، والتي واجهت في زمانها تحديّا سياسيا وإيمانيّا تجلى في فرض الشاه “رضا خان” شعار: ” اخلعي حجابك فتكوني حُرة”  وعمل على إصدار مراسيم عنصرية ضُد النساء والفتيات المُحجبات بل وإجبارهن على خلع الحجاب، كأسلوب من أساليب التمدن الأوروبي الشكليّ، نظرت  السيّدة الى موضوع الحجاب كواجب شرعي وباعتباره هويّة دينيّة وثقافيّة، وسِمة قوميّة، تحدثت فيه عن وجوب ارتداء الحجاب باختصار وبساطة.

 حكت الأستاذة سلمى عن تراجع الحجاب بشكل عفوي بين الخمسينيات والستينيات، ولكن بقي محتشمًا كما تقول،  فهي ترى الاحتشام أنه اللباس المحترم “ما كان في تزليط  وبنطلون قد الجسم، عشان هيك بتفرق” في مرحلة التعليم “ما عدت حطيت شي ع راسي، بس تزوجت صرت حط منديل مراعاة لزوجي لأنه ابن عالم دين، وتعود لتتحدّث عن سمة اللباس “ما في هالتزمُت ولا في هالخلاعة، كان في حشمة..”

لا يمكن أن تنال المرأة حريّتها إلا بالتعلّم

        تحكي السيدة سلمى كيف أنّ الحجاب لم يقف عائقًا أمام المرأة الفاهمة والمدركة لقوّتها، وعن مشاركة النساء في التظاهرات حتى في زمن كنّ يرتدين فيه النقاب أو “الرمية” تذكر حادثة حصلت في مظاهرة ضد الانتداب الفرنسي: “خرجت البلد بنسوانها برجالها بصغارها بالكل، واجتمعوا في الساحة”. وكانت المفاجأة بروز فتاة في الرابعة عشر من عمرها تقريبًا، في مرحلة كانت تضع النساء فيه “رمية”، تغطي وجهها بقماشة شفافة. “وقفت وهبّت وقالت شعرًا”

كان والد الفتاة يعمل قاضيًا، وجدّها عالم دين في النبطية “الشيخ أحمد رضا”، وكان شائعًا أن صوت المرأة ممنوع أو (مش مشكور كما تعبّر السيدة سلمى) تضيف أن الجمهور انقسم حينها بين متحمّس ومُمتعض، بحيث ذهبوا إلى جدّها يشتكونها: “قوم شوف حفيدتك صوتها طالع بين الرجال!”. جاوبهم، كما تقول السيدة سلمى: “عفى عليها، عفى عليها! من موقف مشرّف”.

 في حديث “ألفة يوسف” عن المجتمع العربي والذي غلبت فيه الأعراف القيَم الدينيّة التي ترسّخ مبدأ المساواة بين الناس على اختلاف أصولهم وطبقاتهم، أخذ الجلباب وظيفة تمييزية بين الحُرّة والأمّة (والإماء هن النساء اللواتي يؤخذن غنائم حرب وسبايا ويبعن في الأسواق وهي عادة كانت موجودة في كل العالم وما قبل مجيء الإسلام)،  فالنساء اللواتي يغطين رؤوسهن ويحتشمن في ملبسهن هن حرائر، لذا قام أحد الصحابة بضرب جارية لأنها كانت تلبس لباس الحرّة، من باب المحافظة على الطبقيّة المجتمعيّة! وهو ما يُكرس مفهوم العنصرية ويتطابق مع مقولة الدكتورة دلال عباس: أن العرب عرّبوا الإسلام ولم يُسلموا؟! فتحكي: “شعرت أن خلع الحجاب لم يُعطِ المرأة إلّا حريّة شكليّة، ولا يمكن أن تنال المرأة حريّتها إلا بالتعلّم”  وهي تركز على مبدأ أن الحجاب فريضة لا علاقة له بالسياسية، والمبالغة بالتحجُب كالمبالغة في العُري وهو أمر أشارت إليه الراحلة نوال السعداوي عن أن الأساس هو الاحتشام: ” من دون علم، سواء كانت المرأة عارية أو محجّبة هي أقرب إلى المرحلة الغريزيّة.”

 تتنوع تجارب النساء حول مسألة “غطاء الرأس”، تشابهت القصص في مكمن ما حيث هناك من ارتدته مسايرة للجوّ العام، وهناك من ارتدته عن قناعة وهناك من ارتدته فرضًا واجبًا، وأنهن في مرحلة من حيواتهن تخلين عنه، تأثرًا بالجوّ العام خارج حدود منطقة النبطية، وعدن إليه بعد مرحلة السبعينيّات أقله، عن قناعة بعد قراءة متعمقة، ومنهن مسايرة للجوّ العام والذي ارتفعت فيه نسبة المحجّبات عن السابق. وكان العلم سفينة النجاة التي تمسكت بها هؤلاء النساء، إذ أن العلم منحهن قدرة على الاختيار والثقة بما يردنه، ولربما يختلف ذلك عن قصص نساء أخريات على اختلاف البيئة الثقافية والدينية.

 كان مميّزا الحديث عن موضوع الحشمة واللباس المحتشم الذي لا يُفسر ولا يشف، وقد فرقن بين موضوع غطاء الرأس والاحتشام، حيث أن الحجاب لا يُساوي دومًا الاحتشام، وأنّ العُري والتحجب المُتطرف هما في نفس الدرجة من المبالغة والتناقض مع قانون الطبيعة، على أمل أن يشكّل المقال فاتحة لبحث أكثر تعمقًا وإحاطة.

العدد 123 / كانون الاول 2021