معرض الفنان التشكيلي السعودي أحمد فلمبان…

 ذاكرة الفنّ تاريخ

 رنا خير الدين

الذاكرة الحيّة للأحداث تتشكّل عبر نسيج من العواطف والإدراكات التي تقود إلى التجربة من ثم تخزينها على شكل “ذكريات”… وأكثر ما يعمد على استنباط الذاكرة وإحيائها من جديد هو الفنّ! الذي يسعى دوماً إلى الحفاظ على التجرية ضمن قوالب إبداعية تحاكي روحيّة الأماكن والأزمنة وأحداثها.

من هنا، جاء معرض الفنان التشكيلي السعودي أحمد فلمبان “هلع وقلق” وتدشين كتابه السابع “ماذا؟ ولماذا؟أسرار اللون وحدس الضوء؟” تحت رعاية الأمين العام لجائزة الملك فيصل الدكتور عبدالعزيز السبيل في صالة “تجريد للفنون” في مدينة الرياض، ضمن سيرة واقعية تراجيدية تحكي أثر جائحة كورونا على العالم العامين الماضيين،

أثناء افتتاح المعرض

بحيث رتب فلمبان الأحداث على شكل سلسلة مترابطة، من أول حالة كورونا إلى فوضى انتشار الفيروس وما سبّبه من حالات قلق وخوف إلى تلك الخسارات والانكسارات التي خلّفتها في النفوس.

في سياق الأعمال، تعبّر اللوحات عن حالات الاضطراب والرعب والتوجّس عن المعاناة الإنسانية بردات الفعل الذهنية للمَشَاهِد المأساوية، وردات الفعل العاطفية ذات الصّفات المضطربة المتوترة لإنسان ما بعد الكورونا وتصويره في شخوص هزيلة متعبة بوجوهٍ شاحبة فازعة وأيادٍ مبتورة وأقدام مرتعشة عارية، ومجموعات مشوشة خائفة هالعة، بملامح مرتعبة محبطة منكسرة راضية بالمحتوم، وأخرى قلقة خانعة مستكينة تنتظر المجهول.

يحاول فلمبان بهذا المعرض إنعاش الذاكرة وحثّها على التعلّم من التجارب المؤلمة وعبّر عن ذلك من خلال استخدام ألبسة بالية للشخوص بألوان متناقضة تمتزج الحارة منها مع الباردة والدافئة في تنافر حادّ يتسلّل من خلالها خطوط سوداء مرتجفة، وفي بعض المفردات تتجه إلى الألوان القاتمة رمزاً للشؤم، وفي أجزاء منها تميل إلى التناقض المضطرب الجازع الخانع، كما يزداد الإحساس بشعور الابتلاء والفتك والدمار، من تقنية الملمس الخشن والمتعرّج والبارز والنتوءات المهترئة المتوترة بفعل السكين والآلات الحادة، كلّ هذا النفور يعود إلى ما تركته الجائحة في باطن النفوس!

الجائحة في لوحة!

في حديث له مع “الحصاد” يشير فلبمان إلى أنّ الفنّ التشكيلي ظاهرة إنسانية معقدة ومتشابكة ومتداخلة في أبعادها وخصائصها، وهناك جملة من العوامل التي تؤثر فيه ويتأثر بها ويخضع لها أو يُخضعها له، وهو جهد ذهني عصيب ونتاج فكري راقٍ نشأ ملازماً للإنسان منذ سعيه لكسب رزقه وانخراطه في الحياة العامة، وهو الأبقى والأرقى على مرّ العصور من أي فكر إنساني آخر؛ فلولا هذا الفن، لما عرفنا التاريخ من أصله، ولما وقفنا على أسرار الحضارة

الفنان التشكيلي احمد فلمبان

ومسيرة التطور في شتى مراحل الإنسان على هذا الكوكب، لذلك فالفنّ ينبع من حياة الناس، الذي يصوغ وجدانهم ويصنع فلسفتهم ويُشكل رؤيتهم ليقدمها للكون والحياة، وهو الذي يخاطب الإحساس والوجدان ويتلمس الأحاسيس والمشاعر والمعاناة ويقف شاهداً على الأحداث والمآسي فيتناولها بالوصف والتعبير والمعالجة، فينقل إلينا شيئاً عن العالم أو عن الإنسان أو عن الفنان نفسه، لأن الفنون التشكيلية لها صلة وثيقة بالمجتمع لا تنفصل عنه، فهو ينطلق من أحاسيس الفنانين في عفوية وسلاسة بشحنة وجدانية ملهمة، لأنه جزء من المجتمع يأخذ منه الانفعال وتألق البصائر وثورة العواطف، ويمزج كل ذلك برغبته الذاتية وقدرته الخاصة على الإبداع، ولا يمكن أن يخلو فنّ له قيمته من هذه الطاقة الخلاقة، في النهاية هو محصلة للظروف الاجتماعية وطاقة الفنان الإبداعية، حيث يربطه بالمجتمع كونه صدى آمال الناس وآلامهم، ويذكرهم دائما بالحياة الإنسانية بتنوعاتها وتناقضاتها،  وليس أبلغ من هذه المقولة: “إذا أردت أن تعرف أمة، فإن عليك أن تُطالع آثارها ومتاحفها وفنونها التشكيلية على وجه الخصوص”.

وعن سؤاله عن طرحه لموضوعات معارضه، قال: أميل في تعاملي مع أدواتي وخاماتي وطرح أفكاري وموضوعات لوحاتي إلى البساطة، من خلال اشتقاق المضامين التعبيرية، بطرح رمزي لجعلها مراجع بصرية مثيرة للحوافز الحسية التي تسيطر على المخيلة وارتقاء المادة إلى مستوى الفكرة الذهنية، للوصول إلى مفاهيم تفسّر غاية الموضوع ومبادئه وحواسه وقدرته على إيجاد التأمل الروحاني واكتشاف حقائقه.

وعن استخدامات اللون، يعتبر فلمبان أن اللون يحقق الشكل ويأخذ حيزاً مهماً ومؤثراً، لا عناصر كثيرة أو خلفية مشغولة إلا ما يتردد للتنغيم به بدرجة لون آخر، بحيث لا تنفصل عن بعضها بل تتداخل وتتمازج، ويقول عن ذلك: اللون هو المحور الأساسي في بناء الشكل والأسلوب اللذين يتآلفان مع بعضهما ليردد صداها للتعبير عن الألم الإنساني للموضوع ومنح الفكرة صورة تأملية ومنحى جوهرياً وبعداً مقنعاً للحركة والحوارات التي تدور على سطح القماش في بساطة شديدة دون تعقيد أو استغراق في التفاصيل المملة، والتأكيد على تأثيرات الضوء وقوته للتعبير عن الانفعالات المنعكسة ليتصدى لها ذاك الفضاء المكتسي بظلال البؤس واصفرار الموت من بين جنبات الإنسانية.

وعن كتابه “ماذا؟ ولماذا؟ أسرار اللون وحدس الضوء” قال فلمبان: هذا الكتاب هو فترينة لأعمالي الفنية من عام 1969 الى عام 2020، التي تم توثيقها رسمياً بموجب اضبارة تسجيلها في دائرة الفنون والآثار في مقاطعة “Lazzio” بإيطاليا، تحت رقم  1062المجلّد 2 وتاريخ   20-11-1976، للحفاظ على قيمتها التاريخية وكيانها

خلال جولة سفير جمهورية الفلبين لدى المملكة عدنان ألونتو

القانوني وحقوقها الفنية والفكرية والصفة الاعتبارية ومرجعيتها وللمقتني حقوقه المادية والمعنوية، يمكن الرجوع اليها بموجب الأرقام المسجلّة لها الملحقة بجميع المعلومات الأساسية والبيانات التقنية لها وتاريخ انتاجها ولمن آلت. الكتاب يضمّ عشرة أبواب لمواضيع لوحاتي، (البؤساء، مسلوبي القرار، بقايا حطام، بلا ملامح، المرأة مشكلة، المودة الضائعة، انهم يبحثون، المجتمع ذكوري، اجترار المواجع، جذوة المعاناة وهلع وقلق) وكل لوحة في الكتاب عليها رقمها التسجيلي الرسمي، كل لوحة تحمل شهادة موثوقية وأصل.

من هو أحمد فلمبان؟

ولد أحمد فلمبان في مكة المكرمة، عام 1951. حاصل على بكالوريوس “قسم الرسم” من أكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1971، وحصل على دبلوم التزيين التلفزيوني والمسرحي منمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيطالية “RAI”، كما حاز على دبلوم التشريح الفني من معهد سان جاكومو بإشراف الدكتور فولفيو ديللّو.

بدأت مسيرته الفنية عام 1968 في المعرض الدولي “V.Apello” لمنظمة اليونسيكو في روما.

كلمة راعي الحفل

 أبدى الأمين العام لجائزة الملك فيصل الدكتور عبد العزيز السبيل خلال كلمته مع “الحصاد” إعجابه الكبير بأعمال الفنان أحمد فلمبان، حيث قال: الحقيقة نحن أمام معرضاً مميزاً لأن أحمد فلمبان مختلف ورائد بشتى الحقول، وفنان

دموع الأفواه الجائعة

لديه ثقافة عالية ليس عبر اللغات وإنّما عبر تواصله العالمي. درس في إيطاليا، وإيطاليا هي إحدى الدول المهمة فيما يتصل بالفنون.

وتابع السبيل قائلاً: نجح أحمد فلمبان في هذا المعرض من التعبير عن الحالة الإنسانية التي عاشها العالم من جراء كورونا. من الشخوص التي رسمها غير واضحة المعالم بحيث لا يمكن تحديد هويتها لكن يمكن معرفة هويتها “الإنسانية” تلقائياً. أحمد فلمبان يتخطّى الحدود الجغرافية والمناطقية، لذلك نجده يبدع فنّاً مختلفاً إنسانياً، أبدع في التعبير عنه. والملاحظ على هذه الأعمال أنها تتسم بالكثير من التشاؤمية من خلال الألوان والشخوص التي تظهر على شكل أقرب منه إلى الأشباح غير واضحة الشكل، تجعل الرائي يتساءل هل هذه الشخوص واقفة، أم في حالة موت متجمدة؟!

وأضاف: زوّار المعرض سيجدون كم أبدع فلمبان في التعبير عن الحالة الإنسانية التي عاشها وعايشها العالم، لكن من يملك القدرة على التعبير عن هذا الواقع الكونيّ الضخم كاحمد فلمبان!؟

وعن سؤاله أين بصيص الأمل في معرض “هلع وقلق” الذي اعتدنا أن نشهده في معظم معارض ورسومات الفنانين، أجاب: هذا ما يميز أحمد فلمبان، فهو مرتبط واقعياً بالمجتمع لكنه ينتمي لعدة توجّهات فنية نظراً لغزارة ثقافته، وهذه اللوحات هي تعبيرات واضحة عن هذا الواقع المعاش خلال السنتين الأخيرتين. بالرغم من كلّ الحزن والتشاؤم الذي يخيم على لوحاته فإننا اذا تمعنا قليلاً باللوحات نجد بصيص أمل بسيط فهو لم يوصد الباب أمام روحيّة الأمل والتفاؤل وجسّد ذلك من خلال نور خافت وباب فرج.

العدد 123 / كانون الاول 2021