واقع العلاج النفسيّ بالموسيقى في لبنان

نسرين الرجب-لبنان

حوار مع الدكتورة حمدة فرحات.

        الموسيقى عالمٌ واسع من الأسرار، تحدّث عنها الكثير من الفلاسفة والكُتّاب على اختلاف مشاربهم، وكثُرت التصنيفات والأوصاف عنها، فهي مرآةٌ تعكسُ ثقافة وحضارة الشعوب، وعنها يقول جبران: “الموسيقى ترافق أرواحنا وتجتاز معنا مراحل الحياة، تشاطرنا الأحزان والأفراح وتساهمنا السّرَّاء والضّرَّاء، وتقوم كالشَّاهد في أيام مسرّتنا وكقريبٍ شفيقٍ في أيام شقائنا”.

لم تقتصر غايات الموسيقى على الإطراب وبث روح الحماسة والمواساة، بل تنبّه العلماء لآثارها العميقة في العلاجات الطبيّة والنفسيّة أيضًا،  وكان للعرب مساهماتهم في وضع الأسس عن أهمية الموسيقى في العلاجات النفسيّة، ومنهم: العالم الفيلسوف والطبيب والعازف المحترف أيضًا، أبو يوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنِدي (185 هـ/805- 256

الدكتورة حمدة فرحات

هـ/873)، والذي يُذكر عنه بأنّه صاحب أوّل مدرسة في العلاج بالموسيقى، ووضع عدّة مؤلّفات تناولت هذا الموضوع.

        حديثًا تنبّه الأطباء والأخصائيين النفسيين، لأهميّة ودور الموسيقى كعلاج متكامل في الحالات العصبية والذهانيّة، وفي لبنان ظهر هذا الاختصاص كنوع من العلاجات المُستخدمة في التقويم النفسي.

عن أهميّة ودور العلاج النفسي بالموسيقى وأثره على الشخصيّة الإنسانيّة، وعن واقع العلاج النفسي بالموسيقى في لبنان، كان للحصاد هذا اللقاء الحواري مع الدكتورة حمدة فرحات.

  والدكتورة فرحات، أستاذة في الجامعة اللبنانية ومشرفة  ومنسقة في علم النفس العيادي وإعداد الاختصاصيين النفسيين، ومعالجة نفسيّة ومعالجة بالموسيقى ورئيسة الجمعيّة اللبنانيّة للعلاج بالموسيقى، أدخلت العلاج بالموسيقى إلى لبنان في العام 2006 وهي عضو منسّق في الاتحاد الدولي للعلاج بالموسيقى.

في العام 2002 شاركت الدكتورة حمدة  في دراسة نفسيّة وصحيّة أقامتها كليّة الطب بجامعة هارفارد ومنظمة الصحة العالميّة، وأظهرت نتائج الدراسة أن اللبنانيين يحتلون مكانة متقدّمة في اضطراب الاكتئاب الارتكاسي من جهة إدمانهم على الأدوية النفسيّة بسبب ضغوط الحرب الأهلية والظروف الاقتصادية التي عاشوها لسنوات طويلة وأثّرت عليهم على المدى الطويل. وقد نالت منها شهادات مشاركة وخبرة، اتّخذت نتائجها بشكل علمي ومنهجي لإطلاق بحثها لنيل درجة الدكتوراه في موضوع: الموسيقى كوسيط في علاج الاكتئاب.

        الجمعيّة اللبنانيّة للعلاج بالموسيقى

بدايةً  تتحدَث الدكتورة فرحات، عن موضوع علم النفس وجمعه بالموسيقى، وعن كيفيّة تطبيقه على أرض الواقع، فتقول: لقد كان موضوع  الجمع  بين اختصاصيْ علم النفس والموسيقى مفاجئًا للوسط العلميّ في مجتمعنا العربيّ بشكل عام  مع  أنّ  تاريخنا يذخر  بالعلاج بالموسيقى وقد  أخذ الغرب منّا هذا العلم وقاموا بتطويره  كسائر العلوم، فكان لابدّ من التمهيد للموضوع بواسطة أطروحة الدكتوراه ونشرها في مكتبات الجامعة اللبنانيّة وإجراء المقابلات  الإذاعية والتلفزيونيّة  والصحفيّة وعلى  وسائل التواصل الاجتماعي كافة،  ويُعدُّ  تخصُصًا  حديثُا  جديدًا  في  الزمن المعاصر  في كافة الدول العربية،  ولكنّه بدأ  معي من لبنان في العام 2006، بشكل احترافي وبإشراف من جامعة ليون ٢ الفرنسيّة وبعدها  حذت حذونا بعض الدول العربيّة  كتونس ومصر  حديثًا  مع اختلاف في تقنيّات التطبيق.  أمّا  تطبيقه في لبنان  فبدأ  في مستشفى فرحات  في بيت شاما البقاع، وبعدها انتقلتُ للعمل  في عيادتي الخاصة وفي مراكز متعدّدة  منها لإعادة التأهيل ومنها تربويّة ومنها استشفائيّة، وقمت بالعديد من الدورات التدريبيّة لمتخصصين في مجالات طبيّة ونفسيّة وتربويّة  محليّة وعالميّة، وأصبح هناك إقبال على التخصص بشكل إعداد للمعالج بالموسيقى، فقمت مع بعض الزملاء (الجنرال الدكتور إيليا فرنسيس الصافي، والدكتور انطوان الشرتوني)، بإنشاء الجمعيّة اللبنانيّة للعلاج بالموسيقى كوسيط.

        العلاج بالموسيقى كوسيط 

        تتعدّد أساليب وتقنيّات العلاج  بالموسيقى بتنوّع الأهداف العلاجيّة، وعن ذلك تُشير الدكتورة فرحات: العلاج بالموسيقى كوسيط هو علاج يعتمد على تقنيّات موسيقيّة بكافة تركيباتها وأشكالها من أنواع  وقوالب وآلات  وتوزيع  أوركسترا  وأصوات  بشريّة وغيرها من المؤثّرات الصوتيّة. وهناك تقنيّات متعدّدة منها: التحفيزيّة، والاسترخاء، والتفريغيّة، والتطويريّة وذلك بحسب أهداف  كلّ نوع علاجيّ،  وما يناسب المُتعالِج،  أمّا  الجلسات فتتنوع  بين إدراكيّة وناشطة  فرديّة أو جماعيّة أو ثنائيّة .

        العلاج ليس واحدًا

        تُفيد الدكتورة فرحات، بأنّ هناك عدّة أساليب معتمدة في العلاج: كلّ حالة تستدعي مقاربة علاجيّة  خاصة بها  بحسب  ملف الشخص وبحسب فحص الحساسيّة الموسيقيّة ودراسة شجرة العائلة الموسيقيّة أيضًا، أي تاريخيّة وخلفيّة وثقافة وذوق الشخص وما يؤثر به  بحسب  هدفنا  العلاجيّ،  فنأخذ من الموسيقى  ماهو مناسب لهذا الهدف العلاجيّ وعلى مراحل وجلسات متعدّدة لنحقّق الهدف المنشود، فليس هناك طريقة لجميع الاشخاص إنّما علينا الابتكار والإبداع المستمر، على قاعدة وخطوط عامة، والعلاج بالوسيط يستدعي الإبداعيّة من المعالج والمتعالج بالموسيقى، فهي عمليّة تبادل وتفسير وتفاعل مستمر . تُضيف الدكتورة فرحات، أنّ الموسيقى تُساهم في تطوير الذات الإنسانيّة، وتعمل على تطوير جميع القدرات البشريّة  بشكل عام: فهي تُعتَمد في تطوير مهارات الذكاء المتعدّدة بحسب جاردنر، كالذكاء الاجتماعيّ، والتواصل، والذكاء الحسابيّ والهندسيّ، والإبداع الفنيّ واللغويّ، والحسّ الإنسانيّ، والتعاطف والكثير من الإنفعالات التي نريد العمل عليها، ونشهد ذلك خصوصًا  في صفوف الروضات حيث يعتبر  العمر  حتى الست سنوات مرحلة تأسيسيّة لحياة الإنسان كاملة. كما تطوّر عند المراهق طريقة في التفريغ  والتعبير وعند الراشدين  التواصل الاجتماعيّ والتخفيف من الضغوطات النفسيّة، وعند المسنين  مهمة جدًا  لتنشيط الذاكرة وتحفيز الهرمونات المنشّطة كالدوبامين  وهرمون السعادة السيروتونين  كما الأوكسيتوسين في حالات التعبير العاطفيّ والأندورفين لتخفيف الألم، وغير ذلك الكثير.

        على المُعالج أن يكون مثقّفًا بالأنواع..

         تتنوّع الأذواق والتفضيلات الموسيقيّة، بتنوّع الآلات الموسيقيّة،  فآلات النفخ تُستخدم  للتفريغ وتحسين التنفس مثلًا، والوتريّات للتعبير عن العواطف الحميمة، والإيقاع عن الحماس والتفريغ الجسدي وتنظيم الإيقاع الداخليّ والخارجيّ، وتطوير التناسُق العضليّ والحركيّ للعضلات الصغيرة والكبيرة. وهنا تؤكّد الدكتورة فرحات على دور المُعالج في أثناء عمليّة العلاج، فتُضيف: أهمية الآلة الموسيقية في العلاج  الناشط  أو في الجلسة الإدراكيّة الإصغائيّة  ترتبط  بالمُتعالج نفسه، وتفضيله لآلة معيّنة دون أخرى، وهنا على المُعالج بالموسيقى أن يُتقن عدّة آلات أو يستعين بعازفٍ أو  بتسجيلاتٍ  بحسب ما يستدعي الأمر،  كما عليه أن يُتقن الآلات الإيقاعيّة، ويكون مُثقفًا  بالأنواع الموسيقيّة التراثيّة والحضاريّة لمختلف الحضارات قدر المستطاع كي يتجاوب مع المُتعالج ويتفاعل معه ليصل الى ذروة العلاج وهي التحول  Transe أي  ينتقل إلى الحالة المرغوب بها.

        واقع العلاج النفسيّ بالموسيقى في لبنان

        ترى الدكتورة فرحات، أنّ ممارسة العلاج بالموسيقى في لبنان يتطلب كما في سائر دول العالم مجموعة متخصّصة معدّة إعدادًا كاملًا ومراكز علاجيّة، ومن الممكن أن تكون في مؤسسات أي الفريق ينتقل إليها، وهذا  مايحدث  بالفعل، تُضيف: يأتي الناس إلى العيادة أو نذهب إلى المؤسّسات والمستشفيات والمراكز التأهيليّة والتربويّة  والسجون  ودور  العجزة ، فنحن  كجمعيّة نخطّط لمؤتمرات وأنشطة سنويّة، فعلى سبيل المثال قمنا بتقديم الدّعم النفسيّ خلال مرحلة جائحة الكورونا -التي لاتزال قائمة-،  كذلك لضحايا  انفجار مرفأ  بيروت  والعديد من الحالات، بمشاركة  فريق من طلاب علم النفس الاختصاصيين في مبادرة “نحن حدك”،  حيث قمتُ بالإشراف على النشاطات الموسيقيّة  الداعمة  بشكل جماعيّ، واستضفنا الكثير من العازفين المحلييّن والعالميّين .

        هنا والآن..

        لكلّ أمّة نوع موسيقى تتلاءم مع جذورها الثقافيّة التاريخيّة، فهل يمكن أن نتساءل عن مساق موحّد في كلّ العالم للعلاج بالموسيقى؟ توضّح الدكتورة فرحات:       تختلف  الحضارات  بموسيقاها  كما بلُغاتها  ورموزها وثقافاتها بشكلٍ عام، ولكن تبقى الموسيقى هي اللغة العالميّة التي تخترق كلّ الحواجز الثقافيّة، فهي عابرة للثقافات وللحضارات، وهي التي تشكّل صلة الوصل بين كل سكان الأرض، فكم  رأينا  من مغنٍ  أو  موسيقيٍّ  اجتمع  حوله الناس من جميع أقطاب الأرض! فالفنان الراحل سامي كلارك اللبنانيّ العالميّ أحبّ الناس صوته المميذز وغناءه بلغاتٍ مختلفة، وفي المرحلة الحاليّة نشهد الحضور الحافل للفنان الكازاخي  ديماش حيث نجد الآلاف من النوادي والمجموعات  يتفاعلون حوله مع بعضهم بشكلٍ رائع  بفضل موسيقاه وصوته الفريد.

 من هنا تستطيع الموسيقى أن تُعالج في مساق عالميّ خصوصًا في عصر الـ Social media والعولمة مع دمج الثقافات الخاصة لكلّ مجتمع وحضارة، وكما ذكرت سابقًا المهم هو تفاعل الفرد مع تاريخه الخاص ومع واقعه الذي يتفاعل به  أي  (هنا  والآن)،  وهذا هو مبدأ العلاج بالموسيقى كوسيط  فالموسيقى هي  ذوق وتفضيل ولكنّها في الأساس  علم رياضيّ هندسيّ، من حيث فزياء الصوت لتفاعله مع الحجم والهواء والفراغ والعزف وهذا موجود في الطبيعة  أيضًا، لذلك  خطّتنا العلاجيّة  ليست مغلقة وهي دائمة التطوّر بحسب  المُتعالِج الموجود معنا أي علينا التكيّف مع خصوصيّته بكل مافيها من غنًى وخبرات.

        العرب، والموسيقى من دون كلمات!

        يميل العرب إلى الطرب والمواويل، وقلما يستسيغون الموسيقى من دون كلمات، فكيف تعامل العرب مع فكرة العلاج  بالموسيقى؟ تُشير الدكتورة فرحات هنا إلى أنّ العرب ارتبطوا منذ القدم بالكلمة والشعر، ولهذا تأثيره على اختيارهم لطريقة العلاج بشكل عام. وفي هذا السياق ترى الدكتورة فرحات، أنّ الأغنية تُشكّل جزءًا من الموسيقى،  والغناء له  قوالب مختلفة كـ(الموال والقصيدة والطقطوقة والموشح  والدور  الخ)، يستفيد الشخص من هذه الأنواع بالطبع  ولكن  من الممكن أن نجعلهم يستفيدون من الموسيقى البحته  من خلال طرق  معينة كحذف الكلمات وجعلهم يكتشفون الخطّ اللحني والخلفيّة الهارمونيّة إن وُجدت، ومن خلال سماعهم لموسيقى بحتة  معاصرة مثل مؤلفات ياني  التي يستسيغها  عدد كبير  من الناس  وذلك لأنّه من المهم أن يتذوق الموسيقى ويكتشفها  ويسترخي أو يتنشط أو يفرّغ من خلالها  ومن المهم جدًا  للقدرات التجريديّة العليا  تجربة  تصوّر الهندسة اللحنيّة والهارمونيّة  للمقطوعة الموسيقية، ممّا يساهم في تطوير التفكير  والإنسان بشكل عظيم جدًا.

لقد بدأ  المجتمع العربي بالتحوّل نحو العالميّة والعولمة، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعيّ  في تطوير الكثير من مدارك الإنسان فيه، كما  أثّرت أحيانًا بشكل سلبيّ، ولكن  بات معلومًا لديه أنّ هناك الكثير من الحضارات والثقافات والتي  يرغب بالاطّلاع عليها وتجربتها  كما  السفر. نحن في مرحلة تحوّل مهمّة جدًا وهذا أثّر على تقبل وانفتاح الناس على العلاج النفسيّ  والعلاج بالموسيقى.

        الموسيقى بين الإدمان والعلاج

        كما كلّ شيء في الحياة يمكن له أن ينحرف عن مسارِه السِلميّ، كذلك الموسيقى! لارتباطها فيما يُسمى بالمُخدّرات الرقميّة، وفي هذا السياق تُعرّف الدكتورة فرحات المخدرات الرقميّة بأنّها عبارة عن مزج أصوات معيّنة مع أصوات موسيقيّة بحسب نوع المخدر، ولتي في الأساس صُنعت من أجل علاج الإكتئاب بشروط خاصّة للعمل على شقيّ الدماغ  بلهجتين مختلفتين، وثيموتي هو من قام بهذا الاختراع،  ولكن  كسائر الأدوية التي يتم  استعمالها بشكل سيّء ولأهداف غير علاجيّة،  وهنا نتحدّث عن موضوع  الإدمان  والذي يمكن تعريفه بأنّه حالة اعتماد جسديّ ونفسيّ يؤدي الى دمار الكائن أمّا العلاج بالموسيقى  فهو يؤدي إلى تحسين حالة الإنسان وشفائه من الأمراض النفسيّة والجسديّة بحسب أنواعها.

وفي الإشارة إلى الحدّ الفاصل بين العلاج والإدمان، تتحدث الدكتورة عن سوء الاستعمال   Abus  هو الفرق بين العلاج والإدمان  لأن العلاج يتم بشروط معيّنة مثل التشخيص والجلسات بأنواعها والمدّة وحساسيّة الشخص والمكان وعقد الاتفاق، أمّا الإدمان فهو عمل متفلّت من جميع هذه الشروط ويشكّل  خطرًا على حياة الإنسان. تُضيف:  بالطبع يتعالج المدمن على  المخدرات الرقميّة بحسب حالته وتاريخيّة إدمانه وتفاعله وذلك  بالتدريج وبتبديل التموّجات وِفق دراسة دقيقة لحالته.

        وعن توصياتها للمهتمين بدراسة هذا النوع العلاجيّ من الاختصاص، تشرح الدكتورة فرحات: على المعالج بالموسيقى امتلاك مهارات خاصة  وهي  أوّلا  حيازة الماستر في علم النفس العيادي والمرضي  بشكل خاص،  ومن الممكن  علم النفس المدرسيّ،  مع إتقانه الموسيقى بشكل جيّد وامتلاكه ثقافة واسعة فيها والتمرّس والانفتاح على الثقافات العالميّة المختلفة، وفي  مرحلة الماستر في علم النفس  في الجامعة اللبنانيّة   يدرس الطالب  مادة  العلاج بالفن وهي مطلوبة أيضًا،  للتدريب  العياديّ والمدرسيّ لحيازة إذن مزاولة المهنة، أي من ضمن التقنيّات المطلوبة، ويستطيع بعد مرحلة الماستر التوجه الى التدريب على العلاج بالموسيقى كوسيط  ليصبح معالجًا بالموسيقى مستوفيًّا جميع شروط المهنة المُتعارف عليها عالميًا.  فنحن أـيضًا (الجمعية اللبنانيّة للعلاج بالموسيقى) ننتمي إلى الاتحاد العالمي للعلاج بالموسيقى   . WFMT

العدد 128 / ايار2022