الفنانة التشكيليّة ميسون الربيعي، لوحاتها: تجليّات الحنين في قالب تُراثيّ

نسرين الرجب- لبنان

فن الموروث الشعبيّ العراقيّ يُمثّل محورًا هامًا وأسلوب حياة له طقوسه وفرادته المُميّزة، وهو على اتصال مع منابع الفن الإسلاميّ والفن البابلي والأشوريّ القديم، وفي هذا ما يجذب إليه شتّى الفنانين من مختلف الجنسيّات والمنابع الثقافيّة. إذ تزخر مفرداته  بمجموعة هائلة من رموز التراث الشعبيّ والدلالات والأشكال والنصوص والكتابات ذات القيَم التشكيليّة والتي تتوافق مع مفاهيم الحداثة الفنيّة، وكونه يُمثل عودة إلى الماضي إلّا أنّها عودة إلى منابع التاريخ بقصد معرفته والتزوّد منه كردّة فعل في مقابل الغزو الثقافيّ الخارجيّ ومحاولة استلاب الثقافة الشعبيّة من مضامينها الغنيّة.

 وفي هذ الصدد كان للحصاد هذا اللقاء الحواري مع الفنانة ميسون الربيعيّ، وهي مهندسة معماريّة ومُدرسة أكاديميّة، وفنانة تشكيليّة من بغداد مُقيمة في المملكة المتّحدة، تُركّز في أعمالها على التفاصيل المعماريّة التُراثيّة، ولا تحصر نتاجها الفنيّ بمدرسة فنيّة بعينها، فهي تنتقل من التجريد إلى الواقعيّة، وتستقر في روحيّة التُراث العراقي الشعبيّ، ألوان لوحاتها تجمع بين الدفء والقوّة، تُرابيّة وثائرة، وفي رسوماتها تحرُّر من مأساويّة الواقع الحزين، وشغف بألوان الحياة وجماليّتها المُجسدة في المرأة بكُل تجليّاتها الأنثويّة.

          الرسم: حكاية شغف

          الفنانة ميسون الربيعي مواليد العام  1965 في بغداد العراق، كانت الأصغر بين خمس إخوة وأخت واحدة، ونتيجة للفارق العمري بينها وإخوتها كان شعور الوحدة مُلازمًا لروحها الفنانة، فاتّخذت من المنزل رُكنًا قصيّا ترسُم فيه سيناريوهات افتراضيّة للعائلة المُتخيّلة، فضّلت لها والدتها أن تدرس الطبّ لتفوقّها الأكاديميّ، ولكنّها اختارت الهندسة المعماريّة لتُغذيّ ميولها الفنيّة، ولم تُلاقِ التشجيع الذي تستحقه في مجتمع يحصر النجاح في اختصاصات مُحدّدة.

          تميّزت في اختصاصها الجامعي خلال مرحلة الدراسة، فكانت تستخدم الألوان بجُرأة وتُدخلها في تصاميمها ومشاريعها الهندسيّة، وشكّلت أعمالها نقطة جذب للطلبة عند تعليقها على جدران الجامعة.

حال الزواج والانتقال إلى بريطانيا هي وعائلتها دون استكمالها شغفها في الرسم، فانقطعت عنه لعقود، وراحت حياتها في بريطانيا تتّخذ مسارًا مُختلفًا، فدرست الرياضيَات في جامعة “Open University” ، ومنها حصلت على لقب  “Advanced Skilled Teacher in Mathematics ” وزاولت مهنة  التدريس لمدة تسعة عشرَ عامًا وتقاعدت مُبكرًا.

          لم تساعدها ظروفها في العراق ولاحقًا قدومها إلى بريطانيا وانشغالها وكفاحها لبناء البيت والأسرة في التفرّغ للرسم، وعلى الرّغم من ذلك ظلّ الحنين في داخلها  قويًّا  يدفعها للعودة إليه، فساعدها العمر ومرحلتها الفكريّة والنفسيّة والتفرّغ بعد التقاعد المُبكِر، على إعادة اكتشاف ذاتها، وإحياء حبّها وشغفها بعالم الألوان، فتقول: ” ويا ليتني فتحتُ هذه الصفحة المطوية مُبكرًا، ولكن وبحسب المثل الإنكليزي: later better than never. “أن تأتي متاخرًا خير من ألّا تأتي أبدًا”.

شاءت ظروف الحجر المنزلي أثناء انتشار وباء الكورونا أن تجد نفسها في مواجهة أوراقها وريشتها، ومنذ ذلك الوقت عادت ولم تغادر شغفها، فالرسم رفيق يوميّ لها تُحاول من خلاله تعويض ما فات، والتمتع بجماليّة اللون وتعاريج الريشة، فتسرحُ روحها في عوالم بعيدة حيثُ تلك الطفلة الصغيرة التي كانتها.

           الحنين والموروث الشعبيّ

          تتميّز أعمال الفنانة ميسون الربيعي، بمشهديّات تنقلك إلى التُراث العراقي القديم، إلى بغداد القديمة عاصمة الحضارة الإسلاميّة، إلى مآذنها ونسائها الجميلات في كلّ تجلياتهنّ، بألوان دافئة وقويّة تضجّ بالفرح والحبور، ويصّعدُ منها الشوق إلى زمنٍ ماض، زمن ليس فيه حروب وصراعات، لوحاتها يُعشعشُ فيها الحنين، وهو أمرٌ

الفنانة التشكيليّة ميسون الربيعي

أساسيّ في أعمالها كما تقول، وتوضّح أنّ منبعه هو الغربة عن الوطن والأهل، تستشهد بذلك بقولٍ للمفكّر الدكتور “علي الوردي”: «نحن لا نحنّ للماضي لجماله، ولكن لقبحِ الحاضر».

وتُضيف:  “إنّ الغربه والبُعد عن الوطن والأهل هما المحرّك الرئيسيّ لأفكاري المبنيّة على الموروث الشعبيّ والعادات والتقاليد، وكان لدراستي اختصاص الهندسه المعماريّة تأثير واضح على أسلوبي وطريقتيّ الفنيّة، فأنا مسكونة بحبّ الفنّ والابتكار وفخورة بما أنجزته”.

          المرأة تجليات الجمال والمسؤوليّة

          تتّخذ المرأة موضوعًا رئيسًا في أعمال الفنان ميسون، ولو أنّ الغالب من صوررتها امرأة ممشوقة القوام مملئة الجسم وافرة الجمال هي ملامح المرأة العراقيّة الجميلة روحًا وجسدًا، العينان البارزتان الكبيرتان، والشعر المجدول المسرَح على طوله، واللباس التقليديّ للعباءة السوداء المطروحة فوق ملابس ملوّنة ترسم مفاتن الجسد في تجليات الروعة والفتنة، وعن اختيارها لموضوع المرأة وصورتها في أعمالها، تلفت: “قد يبدو للوهلة الأولى أنني أُركّز على رمزيات ومواصفات لامرأة ذات شكلٍ وقِوام معيّن، ولكننيّ في الحقيقة تنقلت بين أشكال ورمزيّات متنوّعة وملامح متعدِدة، مابين العيون الواسعة إلى المغلقة، إلى جزئيّة الملامح، إلى الامتلاء والرشاقة والنحافة وبشكل عام حاولت أن أركّز على الشموليّة في شكل وشخصيّة المرأة، بغض النظر عن دقّة الملامح أو اختفائها، وما يجمع كلّ هذه الشخصيّات هو الدور والمسؤوليّة التي تحملها المرأة على كاهلها، فهي تظهر في معظم أعمالي تحمل أشياءًا على رأسها، وفي هذا رمزيّة للمسؤوليات الجِسام التي كانت ولا زالت تتحمّلها بكل صبرٍ وجلد.”

ليس هناك وجود محدّد للمرأة في أعمال الفنانة ميسون، فهي في مُختلف أدوراها لا تحدّها طبقة ولا وظيفة، فتُوضّح: ” المرأة في دور الأمومة، وفي  دور الزوجة، في السوق وفي الكثير من الأماكن والأعمال التي تقوم بها وحيث تظهر في أعماليّ؛ هي المرأة في كلّ زمان وكل مكان وسواء أكانت امرأة تقليديّة أم امرأة معاصرة، أو نسويّة أو امرأة عاملة، أو ما شاءت أن تكون، ليست حصرًا على شريحة معيّنة من النساء”.

          رسالتها الألوان

          تحتلُ الألوان عنصرًا جاذبًا في أعمال الفنانة ميسون، فهي ألوان مستمدّة من البيئة العراقيّة والبغداديّة كما توضح، وترى في الألوان  رسالة، وفي طريقة مزجها واختيارها فنٌ بحدّ ذاته، وتؤكّد على تأثير  البيئة والطبيعة العراقيّة والبغداديّة بالتحديد على ميلها إلى الألوان الدافئة، بكونها تُجسّد مشاعر الحنين إلى العادات والتقاليد والثقافة البغداديّة، وكرم الناس وسعة قلوبهم.

 وتُضيف: ” كما إنني وفي نفس الوقت أستعمل Colour Clashing أو التصادم اللوني، لكي ينقل قساوة البيئة العراقيّة،  وبالتالي الصراع في داخل الإنسان العراقي وقساوة ظروفه وتقلُبات الزمن عليه”.

وعلى الرغم من أنّها لم تدرُس في كليّة الفنون الجميلة اختصاص الرسم، إلّا أنّ الممارسة المستمرة، والتجريب، والاطّلاع المُجِد على المدارس الفنيّة وأعمال الفنانين، ساهما في صقل أسلوبها، خطوط لوحاتها الجريئة وألوانها المُفرحة، ولجوئها أحيانًا للخطّ العربي، والذي هو فنٌ قائم بذاته، فالكلمات برأيها أحيانًا تُكمّل معنى اللوحة. وهي بذلك تُحاول المزج بين الخط المعماريّ والخط الكوفيّ بما يُلائم اللوحة، وتُشير الفنانة ميسون في هذا الأمر إلى أنّها تستلهم أعمالها من أسلوب الفنان والمعماريّ المرحوم عصام السعيد في استخدامه للخطّ العربيّ.

          الواقع والمتخيّل: العمل الفنيّ ينجح عندما يمسّ وترًا..

وعن العلاقة بين الواقع والعالم المُتخيّل التي تتطرق إليه لوحاتها على ألوانها، تذكر الفنانة ميسون كيف أنها في طفولتها كانت تقيم في مخيّلتها حوارت افتراضيّة لما كانت تفتقده وتتوق إليه في واقع حياتها اليوميّة،  وتلفُت إلى أنّ ما تفعله اليوم في نشاطها الفنيّ هو امتدادٌ لتلك المرحلة على اختلاف سياقها، وبشكلٍ آخر: ” يوائم عمري ومرحلتي الفكريّة، وعلى الرغم من انقطاع دام لعقود لا زلتُ في داخلي تلك الطفل التي تحن إلى العائلة في  العراق وأهله، فانأ أرسم شوقي وحنيني تارةً، أرسم رحلتي الشاقة، وتارةً أخرى أرسم أحلامًا افتراضيّة.  وهكذا فما أرسمه يدقّ على أوتار متعددة في قلب الإنسان العراقيّ والعربيّ بشكلٍ عام، لرُبما يمنحه ذلك الطمأنينه، ولربما يدقّ على أوتار الماضي والعادات والتقاليد، وأحيانًا أخرى يمسّ أمورّا شخصيّة عميقة”.

وترى الفنانة ميسون أنّ: ” العمل الفنيّ ينجح عندما يمسّ وترًا من أوتار قلب المشاهد  بغض النظر عمّا إذا كانت عالمًا مزيفًا أو واقعيًا، افتراضيًا أو فنتازيا أو مزيجًا من هذه العوالم. حينما يتولّد الرابط بين المتلقي والعمل الفنيّ يكون العمل قد أدّى رسالته”.

تذكُر الفنانة ميسون أنّ لوحة Swirling domes   أو القباب المدورة، كانت ولا زالت من أحبّ الأعمال إلى قلبها حيث تتجمع فيها كلّ  الرموز الفنيّة والتركيبات اللونيّة التي تُفضلها، إضافة إلى أنّ فيها لمسات معماريّة وتراثيّة ممزوجة بأشعار وأغانٍ عن العراق.

          آنستغرام هو البداية

          وفي سياق الحديث عن بدايتها في نشر أعمالها الفنيّة، تقول: “عندما بدأت الرسم لم يكن في بالي أن أنشر لوحاتي، حيث أنّ علاقتي  بمواقع التواصل الاجتماعيّ محدودة، فليس لديّ حساب على الفايسبوك، ولكن منذ حوالي السنة والنصف، اقترح عليّ ابني أن أُنشئ صفحة خاصّة بي على موقع الآنستغرام لعرض أعمالي، في البداية كنت خائفة ومترددة، ولكن مع التشجيع من العائلة والمتابعين على الصفحة، حيثُ ساهم نشر أعمالي في استقطاب جمهور كبير من المتابعين والمُشجعين، والذين بفضل ثنائهم وتعليقاتهم المُشجعة استعدتُ إصراري وأصبحتُ أستمتعُ بأعمالي أكثر من السابق”،  إضافة إلى استحداث موقع  إلكترونيّ خاص لعرض أعمالها وبيعها www.esty.com، وحققت من خلاله عددًا جيدًا من المبيعات. وعن مشاركتها في المعارض الفنيّة تقول: “شاركت في Online Gallery ولكنني  لم أُشارك بعد في معرض على أرض الواقع، بانتظار الفرصة المناسبة لهذه الخطوة”.

          تطمح الفنانة ميسون، إلى الاستزادة أكثر في عالم الرسم، وإلى تجسيد جوانب أخرى من الحياة في العراق ” والمرأة العراقيّة والعربيّة تحديدًا؛ عن دورها في بناء المجتمع، عن قوّتها، وجلَدِها، وشدّة بأسها، وعن ثقافتها وكفاحِها المُستمِر على كُلّ الأصعدة”.

العدد 129 / حزيران 2022