الحصاد في بيت سيد درويش وضيافة حفيده وزوجته

في الذكرى المئوية لرحيل فنان الشعب

لم يكن إطلاق لقب فنان الشعب على سيد درويش من فراغ وإنما جاء تأسيسا على ما قدمه من أعمال ارتبطت بالفئات البسيطة من الشعب والتي اتسمت بالشعبية الجارفة وغير المبتذلة في نفس الوقت، والمستوحاة من اللغة الشعبية

الحصاد في بيت سيد درويش

الرائجة بين مختلف طوائفه من العمال والفلاحين والطبقات الكادحة، كما دافع بأغنياته عن المرأة ودعاها للنهوض والتقدم. لقد غنى للبنائين والسقايين والعمال والفلاحين حتى أصبحت ألحانه وأغنياته حاملة أختام الهوية المصرية الصميمة وذلك في وقت كان الإستعمار يعمل فيه على طمس الهوية الوطنية ونشر ثقافته الدخيلة لتمهيد العقول للانصياع للاحتلال. لقد كان سيد درويش صاحب موقف سياسي ضد الاستعمار حتى أصبحت ألحانه وأغنياته هي صوت الشعب المصري في مواجهته، وارتبط اسمه بالنضال الوطني وصار أيقونة ثورة المصريين عام 1919 والتي قدم خلاله ما يقرب من 75 لحنا وطنيا حماسيا.

ليس عام 1919 فقط، فعلى امتداد مشواره الفني لعبت أعماله دورا فنيا ثقافيا وتاريخيا في شحذ الروح الوطنية وإشعال قيمة المقاومة والنضال ضد الاحتلال من خلال أغنيات حماسية لازالت تحظى بمكانة خاصة في وجدان الشعب المصري. وعلى سبيل المثال لا يمكن نسيان هذه الكلمات: “قوم يا مصري مصر دايما بتناديك..خد بنصري..نصري دين واجب عليك”، والتي ألهمت المصريين للقيام بثورتهم في مواجهة الاحتلال البريطاني للمطالبة بعودة سعد زغلول ورفاقه من المنفى.

سيد درويش بصوت فيروز وعبد الوهاب

100 سنة بالتمام والكمال مرت على رحيل عملاق الموسيقى الشاب سيد درويش، ومع ذلك لازالت أغنياته تتردد على ألسنة الناس، وقد تغنى بها كبار المطربين العرب من المحيط إلى الخليج، من أشهرهم الموسيقار محمد عبد

الحفيد محمد حسن سيد درويش مع كنوز جده

الوهاب والفنان صباح فخري، والفنانة سعاد محمد الكبيرة وجارة القمر فيروز، والتي لازال صوتها يبعث التفاؤل في النفس وهي تغني لدرويش “الحلوة دي قامت تعجن في البدرية”، ويأخذنا معها للحنين وهي تغني له “زوروني كل سنة مرة”، و”طلعت يا محلا نورها” بجانب أغنيات أخرى شهيرة حفرها سيد درويش في وجدان الشعب المصري والعربي وصارت جزء من تراثه الأثير والخالد منها “سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة” و”أهو دا اللي صار”، و”أنا هويت”. وكلها أغنيات مر عليها أكثر من قرن من الزمان ومع ذلك لازالت حاضرة بالوجدان وخالدة وقريبة من الأجيال الجديدة الذين يقبلون على حضور الحفلات التي تقدم تراث سيد درويش. ويكفي أن سيد درويش خالد الذكر وحاضر دائما كلما عزف النشيد الوطني المصري في اي مناسبة من المناسبات أو محفل من المحافل في مصر والعالم ليسمع الجميع موسيقاه مصاحبة لكلمات “بلادي بلادي .. لك حبي وفؤادي” وياله من حضور عظيم.

بمناسبة ذكرى رحيله المئوية والتي حلت في شهر سبتمبر الماضي، حرصت “الحصاد” على زيارة البيت الذي عاش فيه سيد درويش أزهى سنوات عمره القصير الذي لم يتجاوز 31  سنة. على الرغم من الحالة السيئة التي تهدد بقاء هذا البيت العتيق والذي تبدو عليه آثار الزمن واضحة، إلا أنه يعد شاهدا على عصر من الفنون والثقافة وعلى مرحلة مهمة ليست في حياة “درويش” فقط وإنما بالنسبة لتاريخ ومسيرة أمة بأكملها، حيث كان بيت فنان الشعب ملتقى

بديع والريحاني أعز أصدقائه

مشاهير الثقافة والفن وقتها أمثال صديقيه نجيب الريحاني وبديع خيري.

كنوز نادرة في بيت فنان الشعب

داخل البيت التاريخي القابع في حي روض الفرج الشعبي الذي كان موطنا لأشهر المسارح الفنية آنذاك، استقبلنا حفيده الفنان محمد حسن سيد درويش رئيس جمعية أصدقاء تراث وموسيقى سيد درويش وأيضا قائد فرقة موسيقية معنية بنشر تراث جده والحفاظ عليه وتحمل اسمه. وخلال لقائه مع “الحصاد” قال الفنان الحفيد: جدي عاش هنا في هذا البيت بعد قدومه من الإسكندرية وقد ساعده صديق عمره الفنان بديع خيري على شرائه وتزوج فيه زوجته الرابعة والأخيرة وهي جدتي أم والدي حسن وعمي يحيي الذي توفي صغيرا كما كان لجدي ابن أكبر من أولى زوجاته بالإسكندرية وهو عمي محمد البحر والد الفنان إيمان البحر درويش. وشاء القدر أن يتوفى جدي سيد درويش تاركا والدي في سن عامين، وعندما كبر وأدرك قيمة والده الفنية حرص على تجميع وحماية كل تراثه وأوراقه وقام بتوثيقها في مجموعة كتب أرخت لحياته ومسيرته الفنية، وقمت بدوري بإكمال مسيرته في الحفاظ على هذا التراث وحمايته من الضياع.

توقف “درويش” أمام دولاب جده الحافل بالوثائق المهمة وقال: هنا في هذا المكان توجد أهم ثروات جدي التي لم

سيد درويش ازهريا وافرنجيا

تكتشف بعد، منها أعمال فنية كاملة ونادرة لم تر النور بعد ولا يعرفها أحد رغم كونها كنوزا فنية، وهي تشمل حوالي 26 رواية محققة تتضمن تدوينا موسيقيا وأزجالا وكلمات ونصا دراميا منها رواية “ولو” ورواية “فشر” كاملة بكل نوتها ونصوصها الدرامية وكذلك رواية “البربري في الجيش” بالنص الدرامي والنوتة الكاملة وأيضا “راحت عليك” و”بنت الحاوي” وكلها روايات مشمولة بنصوصها ونوتها الموسيقية، ولا زلت أحتفظ بها منذ كانت في حوزة والدي. ويضيف درويش الحفيد إن كل ما يذكره الناس من أعمال جدي عدد قليل من الروايات التي قدمها على المسرح منها العشرة الطيبة والباروكة وشهر زاد بينما يوجد في حقيقة الأمر عدد كبير من الأعمال التي تنتظر الخروج إلى النور. ويكشف حفيد فنان الشعب أن  هناك ما يزيد عن 470 لحنا غير معروف لسيد درويش يحتضنها هذا البيت العتيق بكل نوتها الموسيقية إلى جانب اسطوانته النادرة التي تحمل نبرات صوته.

صاحب ثورة تجديد في الموسيقى العربي

يعد سيد درويش أحد أهم رواد الموسيقى العربية بفضل ما قدمه من تجديد وثورة في عالم الموسيقى العربية، انحاز فيها للطبقات الشعبية البسيطة مع تغيير الصورة التقليدية للمطرب آنذاك. والمثير في الأمر أن عمله في بعض المهن البسيطة جعله قريبا من العمال الذين كان يأخذ منهم بعض كلماتهم في أغنياتهم اليومية الحياتية ويصيغها موسيقيا ويقدمها لحنا مميزا وكلمات تفيض بساطة وعمقا في نفس الوقت لأنها تعبر بصدق عن مجتمع موجود على أرض

صفاء عزب مراسلة الحصاد داخل بيت سيد درويش وتبدو علامات الزمن على النافذة

الواقع ما جعل أغنياته جذابة  وقريبة من القلوب. ويستمر الحفيد الفنان محمد حسن سيد درويش في حكاياته عن فنان الشعب، لقراء الحصاد قائلا: لقد ترك جدي الدراسة الأزهرية حبا في دراسة الموسيقى التي تعلمها بالمعهد الإيطالي واضطرته ظروفه الحياتية إلى العمل في مهن وحرف كثيرة للإنفاق على نفسه مما جعله قريبا من هذه الطبقات الكادحة وانعكس على ألحانه وأغنياته التي كان يكتبها له الفنان الكبير بديع خيري من وحي البيئة العمالية. وحول ملامح التجديد التي أضافها الموسيقار الراحل يقول درويش الحفيد للحصاد: لقد ساهم سيد درويش في تطوير موسيقانا العربية وأحدث فيها ثورة كبيرة بخروجه من أسلوب التطريب إلى الغناء الوطني والشعبي القومي الذي يتسم بالحماسة والنضال ضد الاستعمار والسخرية أيضا من بعض الأوضاع السياسية والاجتماعية السلبية فكان صوته هو لسان حال شعبه لذلك لقبوه ب”فنان الشعب”. وإلى جانب ذلك نجح جدي في خلق ألحان مبتكرة بصبغة لها خصوصية كانت حصيلة تأثره ببيئته الشعبية ودراسته الموسيقية في نفس الوقت للغناء الغربي والأوبرالي بالمعهد الإيطالي وحرصه على حضور الأوبرات العالمية. ولذلك نجده قدم الأوبريتات الكبيرة

قسية زواج سيد درويش ضمن مقتنياته الموجودة في البيت

التي شكلت محطات مهمة في فن الموسيقى العربية، مثل إبداعه في رواية شهر زاد التي تعد نموذجا لبلوغه قمة الإبداع في التلحين والتوزيع المسرحي، والتي نتحدى بها كعرب الألحان الغربية. ومع ذلك فهناك أعمال تحت سقف هذا البيت القديم تنتظر من يهتم بها ويقدمها للجمهور لإعادة اكتشاف المزيد من كنوز سيد درويش الموسيقية.

الخوف من ضياع آخر ما تبقى من سيد درويش

للأسف الشديد تبدو علامات الوهن والضعف على بيت سيد درويش ما يثير المخاوف من انهياره وضيع محتويات من كنوز ومقتنيات سيد درويش النادرة ومنها أدواته الخاصة وأثاث بيته الذي لازال موجودا بين جنبات الجدران الصامدة في وجه الزمان.

وداخل حجرات المنزل القديم اصطحبتنا الفنانة سوزان مهدي مطربة الأوبرا وزوجة الحفيد، وهي تتحدث ل”الحصاد” عن معاناة أسرة سيد درويش بسبب الحفاظ على البيت وعلى محتوياته القيمة والنادرة، وتقول لقد قمنا بصيانة المنزل وإصلاح السلالم المكسورة لكنه متهالك ويحتاج لجهات كبيرة متخصصة لإعادة ترميمه بشكل علمي والحفاظ على هويته. وتكشف “مهدي” عن وجود العديد من مقتنيات فنان الشعب داخل هذا البيت العتيق منها البيانو والعود اللذان كان يعزف عليهما. كما توجد نوته الموسيقية وجهاز الاسطوانات بكل محتوياته من اسطواناته القديمة التي تحمل صوته، إلى جانب مجموعات من الصور النادرة لسيد درويش في مختلف مراحل حياته وكذلك صور

ما تبقى من مطبخ سيد درويش

لعائلته، ولاشك أنها تحف فنية نادرة، يمكن أن تجعل من هذا البيت متحفا تاريخيا لتعريف الأجيال الشابة بتاريخ الاجداد المبدعين. كما توجد قطع أثاث تخص جدنا سيد درويش منها طقم للجلوس كان يجلس عليه أصدقاؤه من نجوم ذلك العصر البعيد منهم نجيب الريحاني وعلي الكسار وبديع خيري والذين كثيرا ما كانوا يجتمعون هنا في هذا المكان. لذلك أتمنى من كل الجهات المعنية المصرية والعربية أن تسعى لإنقاذ ما تبقى من تراث فنان الشعب حتى لايضيع مثلما ضاع بيته الكائن في حي كوم الدكة بالإسكندرية ومقتنياته بسبب الإهمال.

ثراء وخلود

لم يكن سيد درويش فنانا عاديا، فهو كملحن ومطرب استطاع أن يقدم أعمالا خالدة تعبر عن كافة المشاعر الإنسانية من الحب والعشق والوله إلى الفرح والمناسبات الاجتماعية المختلفة والتي من أشهرها “يا عشاق النبي” التي تعد أحد أيقونات حفلات الزفاف والأفراح. كما رسم صورا موسيقية لفئات المجتمع الشعبية من عمال وفلاحين وصناع وسقايين وغيرهم مما جعل لأغنياته الفضل في تعريف الأجيال التالية ممن لم تشهد هذه الحياة بما كانت تتضمنه من ملامح مجتمعية. وعبر كذلك بشكل كاريكاتيري عن بعض سلبيات المجتمع مثل إدمان المخدرات والخمر وغيرها من العيوب مما أعطى لأعماله بعدا نقديا مهما تأكيدا على رسالة الفن التي تتجاوز المتعة والتسلية.

على الرغم من قصر حياة سيد درويش ووفاته في مقتبل العمر وهو في سن الحادية والثلاثين تقريبا إلا أنه استطاع أن يقدم زخما كبيرا من الأعمال الموسيقية المتنوعة ويترك لنا ثروة هائلة من الألحان سواء كانت في شكل أغنيات

هكذا بدت اثار الزمن على بيت سيد درويش

قصيرة أو أوبريتات، ما يعني حجم الموهبة الكبيرة والثراء الذي كان يتمتع سيد درويش والذي لازال حيا بيننا من خلال هذه الأعمال ونحن نحتفل بمئوية رحيله.. لذلك استحق بجدارة لقب فنان الشعب ..خالد الذكر سيد درويش.