فنانات تملكتهن الغيرة الوطنية.. فشكلن اضاءة في ضمير الفن والانسانية

أمين الغفاري

الفن طاقة متدفقه، والفنان احساس مرهف. وبعض الفنانين المشغولون بقضايا الوطن،والأمه،يشتعل وقودهم ان مست أوتارهم نوبة من الأنفعال العام، وحينها قد تتحول تلك الموجات المؤقته الى موجات متوالية ومتلاطمه تشكل في مجموعها هديرا عاتيا،ان لم يصبح اعصارا كاسحا يتوهج، ببرقه ورعده فيصبح ومضة اشعاع ونور، وربما كانت المرأة بمخزونها العاطفي الغزير المفعم بالحرارة أكثر أنطلاقا وتعبيرا بل واندفاعا مع الأحداث المثيرة التي يواجهها الوطن،أو الأمه ومن ثم تتلاشى معها الحسابات الشخصية العاديه من محصول المكسب أو الخسارة، ومنها في مجال الفن تحديدا التعطل،أو انحسار الجماهيريه،أو التعرض للبطش أن لم يكن بالأغتيال، فالمواقف السياسية مكلفة، وان كانت في نفس الوقت توفر المصالحة مع الضمير. في هذا الأطار يتم الأستطراد ـ بهذا المعنى ـ بعيدا عن المواقف المفتعله، أو المتاجرة أو الأرتزاق بالموقف، أو الدخول في أسواق النخاسة السياسية تحت شعار المبادئ أو الغيرة على الأوطان. في  تاريخنا الحديث، نماذج متعددة لبعض الفنانات، اللاتي انتفضن مع الأحداث الوطنية التي مرت بها بلادنا، واّثرن باختيارهن الحر أتخاذ مواقف صريحه ومباشرة ومعلنه،بالقول وبالفعل،تتجاوز الحدود المتعارف عليها،وهي التعبير من خلال العمل الفني سواء كان ذلك العمل بالاغنية أو بالفيلم أو بالمسرحيه،أو بأي قالب آخر يخترنه،وليس شرطا أن يكون بالموقف السياسي المباشر، ان لم يكن كذلك بالحاد.

نماذج من تلك المواقف

ليست الأسماء التالية وليدة حصر يقتصرعليها، وانما هي فقط نماذج حظيت بالكثير من الأضواء والمتابعة نتيجة مواقف أتخذتها، في ساعة استشعرت فيها الخطر على الأرض احتلالا، أوالوطن وجودا، ومستقبلا، فأقدمن على مافعلن تلفهن القناعة، ويدفعهن الشعور بالأنتماء للأرض وحرمتها .

المطربة أم كلثــــوم

هي أشهر من أن تعرف، فهي سيدة الغناء العربي، بلا منازع. واكبت عدة عصور في مصر من الملكية الى الجمهورية. في العصر الملكي، كان الملك فاروق شابا يحظى بشعبية، حتى وان كانت هناك العديد من الملاحظات على مستوى تعليمه، وحداثة سنه، ومدى تأهيله لمسؤوليات الحكم، وكانت أم كلثوم نجما براقا في عالم الغناء، وحدث أنها كانت تغني في حفل ليلة العيد في النادي الأهلي عام 1944، ودخل فجأة الملك فاروق الى الحفل، واتجه الى طاولة أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي، وجلس معه، وحدث هتاف متصاعد من رواد القاعة يرحب بالملك ويهتف بحياته، وتوقفت أم كلثوم عن الغناء في انتظار عودة الهدوء، لتعود بعدها للغناء من جديد وتقوم – بذكاء ملحوظ – بتغيير بعض كلمات الأغنية لتدخل اسم الملك فاروق ترحيبا بقدومه، فتقول (يا نيلنا ميتك سكر، وزرعك في الغيطان نور،  »يعيش فاروق ويتهنى« بدلا من أن  »تعيش يانيل وتتهنى« ونحيي له ليالي العيد). بعد الحفل استدعى الملك أم كلثوم وصافحها وأعلن منحها (نيشان الكمال) وبموجبه أصبحت تحمل لقب (صاحبة العصمه) مما استدعى غضب الأسرة المالكة وبالذات الأميرات والنبيلات، حيث ان أم كلثوم في عرفهن مجرد

أم كلثوم
تواجدت في كل المناسبات الوطنية والقومية

»فلاحة ومغنية« لا ترقى ولا ينبغي لها أن توضع في اطار (الطبقه) صاحبة الألقاب. لكن أم كلثوم أيضا كانت شديدة المراس، فقدمت بعض القصائد التي كانت من وجهة نظر السلطات تحريضيه منها مثلا قصيدة (سلوى قلبي) من كلمات أحمد شوقي وتقول في أحد أبياتها (وما نيل المطالب بالتمني / ولكن تؤخذ الدنيا غلابا) وترفض حذف ذلك البيت، وفي قصيدة (ولد الهدى) لنفس الشاعر تقول في أحد الأبيات (الأشتراكيون أنت امامهم / لولا دعاوي القوم والغلواء) وترفض كذلك حذف ذلك البيت عام 1946، وكانت كلمة (الأشتراكية) من المحرمات، وهكذا كانت تناطح، ولاترضخ، ولا تستسلم. في العصر الجمهوري انحازت بشدة الى ثورة 23 يوليو وتحديدا الى جمال عبدالناصر فغنت له بعد محاولة الأخوان المسلمون اغتياله 26 أكتوبرعام 1954 (ياجمال يامثال الوطنية / أجمل أعيادنا المصرية / بنجاتك يوم المنشية) ثم عدلتها بعد انتخابه رئيسا للجمهورية ينايرعام 1956 (برياستك للجمهوريه). شاركت أم كلثوم بنصب وافر في استعراض انجازات الثورة، وكذلك في دعم معاركها في مواجهة كل ماتعرضت له من عدوان (والله زمان ياسلاحي، منصورة ياثورة أحرار، ثوار ولآخر مدى ثوار، طوف وشوف، على باب مصر تدق الأكف، ياحبنا الكبير، وحين تنحى عبدالناصرغنت أبق فأنت حبيب الشعب، وحين رحل غنت  »رسالة الى جمال عبدالناصر«). كانت أعظم مواقفها يوم أن جندت نفسها لمساندة المجهود الحربي بعد العدوان الأسرائيلي عام 1967 فطافت بالعديد من المدن المصرية والعواصم العربية والأوروبية لأقامة حفلات تغني بها، ويعود مردودها الى دعم المجهود الحربي، ولها موقف محدد في باريس، وهي تغني على مسرح الأولومبيا الشهير، حدث ان قام المذيع (جلال معوض) بتقديم الحفل في بدايته تقديما سياسيا باعتبارهذا الحفل لدعم الجهد الحربي، وحين عرف مدير المسرح وهو فرنسي يهودي جاء الى ام كلثوم غاضبا، وقال ان ذلك غير مسموح فهذا حفل فني وليس سياسيا، وردت عليه ام كلثوم (ونحن جئنا من اجل هدف سياسي، وان كان لك اعتراض قم بالغاء الحفل، والتفتت الى الموسيقيين وكانوا في البروفة للوصلة الثانية وطلبت منهم حمل آلاتهم الموسيقية قائلة (لموا آلاتكم ويللا) وارتعد مدير المسرح فالقاعة بها أكثر من ألفين من الجمهور، وبعضهم حضر من دول أخرى بالطائرات لحضور هذ الحفل، وأخذ في استرضائها حتى تعدل عن قرارها مبديا اعتذاره عما قاله، واستمر الحفل، وحقق نجاحا كبيرا جعل ديجول يرسل لها مهنئا. لكن في النهاية رحلت أم كلثوم حزينة مقهورة، بعد أن تعرضت لمعاملة سيئة في عهد الرئيس الراحل أنور السادت أقرب الى الأضطهاد، بعد أن ألغى لها مشروعها (دار أم كلثوم للخير) الذي أنفقت عليه الكثير من اموالها، وأرادت ان تختتم به حياتها، في سبيل أن يقام مشروع قرينته السيدة جيهان (الوفاء والأمل). وأيضا لأقترابها الملحوظ من أسرة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.

الفنانة ناديــة لطفـــي

أطلق اسم نادية لطفي عام 1958 كاسم فني للفتاة اليافعة ذات الواحد والعشرين ربيعا (بولا محمد مصطفى شفيق) والوالد مصري والأم بولندية بعد ان قرر المنتج رمسيس نجيب أن يقدمها كبطلة لفيلم (سلطان) الذي كان يقدم على انتاجه من بطولة الفنان فريد شوقي، وان كانت نادية لطفي قد نجحت كفنانة وتصدرت في مواسم متعددة قوائم الفنانات على الشاشة الفضية، الا أن اسهامها الوطني لم يحظ بالأنتشار الجماهيري لأنها كانت حريصة أن تبتعد عن الأعلام في حركاتها الوطنية أو القومية لأنها لم تكن تسعى لعمل دعاية من هذا النوع، وفي تقديرها أن ذلك يعد متاجرة بالموقف، بينما هي تتحرك لقناعاتها بما تفعله. حين قامت حرب أكتوبر عام 1973 انتقلت الى الأقامة في مستشفى القصر العيني بالقاهرة لكي تقوم بدورها في استقبال ورعاية الجرحى، وظلت تؤدي ذلك الدور حتى نهاية الحرب، وحين حدثت بوادر أزمة الفلسطينيين في لبنان وقامت اسرائيل بمحاصرة بيروت عام 1982 بادرت بالذهاب الى هناك، وفي ذلك يقول الشاعر الفلسطيني المعروف (عزالدين المناصرة) أن الفنانة (نادية لطفي) امرأة تتمتع بالشجاعة حتى تقوم بزيارتنا خلال أزمة الفلسطينين أثناء حصار بيروت في عام 1982، وتبقى معنا طيلة فترة الحصار وحتى خرجت معنا على نفس السفينة (شمس المتوسط) اليونانية التي اتجهت بنا إلى ميناء طرطوس السوري. أيضا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومذبحة(قانا) حملت نفسها بالسفر الى بيروت، وقامت بتصوير أكثر من 25 شريط تسجيلي للضحايا، ولكل ما أسفر عن تلك المذبحة من تخريب وتدمير، وقامت بنشرها عبر وسائل الأعلام المختلفة، ورفضت أن يقوم أحد بتصويرها شخصيا في تحركاتها، وقالت أنا لاأقوم بعمل اعلامي لشخصي ولكن للقضية التي تعنيني. قامت بزيارة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أثنا فترة الحصار الاسرايلي لمقر اقامته. كانت تعكف على اصدار ملف وثائقي عن الحروب العربية من عام 1956 حتى عام 2003 تحت عنوان (شاهدة عيان). قام بزيارتها في المستشفى أثر اصابتها بوعكة صحية الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقلدها وسام (نجمة القدس) تقديرا لمواقفها من القضية الفلسطينية.

الفنانة رغــــــــده

يمكن القول أن مواقفها الصلبه في القضايا السياسية، قد صرفتها كثيرا عن موهبتها في فن التمثيل، ودفعت الثمن  برحابة صدر ـ بمصادرة أعمالها في بعض الدول التي تتعارض مواقفها مع سياسات تلك الدول، لكنها تقبلت الأمر ببساطه، ولم يعنها انحسار أعمالها في مقابل التعبير، بل والتصرف بناء على قناعاتها. تتعدد مواقف تلك الفنانه التي لم تتوان قط عن تلبية نداء ضميرها، مهما كان حجم التضحية التي يمكن ان تدفعها نتيجة الأقدام بكل تلك الجسارة عن عمل ما تؤمن به عقلا، ويملأ وجدانها رضى وقناعة. كانت محنة العراق والحصار الذي فرض عليه أكثر من عشر سنوات، والكوارث التي ألمت به تبعا لذلك، دافعا لها لتنظيم العديد من رحلات التضامن التي حملتها وفود متعددة ذهبت للعراق لمؤازرة شعبه، والتنديد بأبشع حصار مارسته قوى عظمى تتفجر على صفحات جرائدها قضايا الانسانية وهموم الانسان، وكان تميزها أيضا مع أطفال العراق في رحلات العلاج وتوفير الدواء.عنيدة وصلبة وقوية، وقد حملتها تلك الصفات نقدا وهجوما بلغ محاولات الاعتداء عليها حقدا وبطشا، ولكنها كانت دائما صلبة صلابة الصخر، عنيدة عناد المؤمن الذي لا يساوره شك فيما يؤمن به. ورغم موهبتها التي تتوزع بين فن التمثيل وقرض الشعر، وجمالها اللافت الذي يفتح لها الأبواب للصدارة في عالم يولي الاهتمام للمظهر قبل الجوهر، إلا أنها توقفت عند قيم المواقف الأصيلة، والقناعات الملهمة. حين تعرضت بلادها للفتن وقفت موقف الجندي الحارس لتراب الأرض، وأضيفت الى أثقالها أثقال، لم تحن ظهرها، ولم تشوش فكرها، وكانت كالعهد بها الأسد الهصور، الذي لا يتراجع ولا يضعف ولا يلين. وقفت مع فلسطين في انتفاضة شعبها، ووقفت مع العراق في محنة أهله، ومع بلدها سوريا قاتلت في الذود عن ترابها، وعلى مستوى الموقف الشخصي ساندت بكل قوتها فنانا زميلا لها في مهنتها في محنة مرضه قبل ان يوارى التراب (أحمد زكي). انها قبل ان تكون وجها جميلا، فهي أنف شامخ، وكبرياء طاغ، وطاقة

رغده
تتواجد دائما سندا في قلب المحن

تتفجر بالبذل والعطاء، في بؤرة.

الفنانة سلاف فواخرجي

تكشف الأزمات والمحن التي تمر بها الأوطان عبر التاريخ، عن قدرات حية في الشعوب، ومعادن بشرية غاية في النبل والصلابة، والقدرة على التماسك، والأعتصام بالقناعات، بحيث لايمكنها أن تستسلم للأحاث الطارئة مهما كانت قوتها بل وجبروتها. انها نماذج تقبل بالتحدي، وتتسلح بالأصرار، وتجابه الأيام الصعبة بميراث من الصبر والايمان يعززه الارتباط بالأرض، والتلاحم مع الأسرة الكبيرة التي يحتضنها الوطن. أن سلاف من تلك النوعية من البشر التي كشفت المحنة التي مرت بها سوريا عن عمق ايمان المواطن بالوطن، والفرد بالعائلة، والأسرة بانتمائها، والأنتماء ليس عواطف عابرة، ولكنه وجدان قد اختمر، وامتلأ بكل الذكريات مرها وحلوها، وأصبحت الحياة لاتطاق بدون اجترارها بالعين التي رأت، والأذن التي أرهفت للتفاصيل، والأحلام التي سكنت الوجدان.

سلاف صمدت باقية على الأرض رغم التهابها، وكانت هناك ساحات ترحب بها لو أرادت، ولذلك يقال أن الذي ضحى، هو من كان يملك بالأختيار أن يأخذ، ومن هنا نقول أنها ضحت بما يمكن أن يكو عائدا ومثمرا لأن هناك ما هو أعز وهو الوطن، وهو قيمة لاتباع مهما كان ارتفاع الثمن.

سلاف بقيت وحاورت وجادلت وأعلنت موقفها بصراحة ووضوح، فهددت، وتعرضت للأغتيال أثناء زيارتها للسودان، وأعلن الأمن السوداني أحباطه لذلك، كما جرت محاولة لاختطاف أطفالها، ويمكن الحديث عن مثل تلك الأعمال ليس حصرا وانما مثالا. ودائما الارادة الحرة يزيدها التحدي اصرارا،والوعيد ايمانا. قدمت سولاف دورا رائعا في مسلسل (اسمهان) وقالت (أنها تماهت مع الدور) وذلك سر نجاحه، ونقول لها (لقد تماهيت يا سيدتي مع دور أعظم وأجل مع الوطن الأرض والشعب.. الدولة والمجتمع) وكنت الأبنه لسوريا قبل أن تكون مجرد مواطنة على أرضها.

 

سولاف فواخرجي
صلابة كشفت عن جمال الروح في عمق المحنة 

 

العدد 97 – تشرين 2019