أزمة مشاركة السنة في العملية السياسية بالعراق

نحاول في هذه السطور إلقاء الضوء التحليلي على ملف شائك من ملفات أزمة الحكم في عراق ما بعد 2003 هو ملف أزمة التحاق ممثلين عن العرب السنة في العملية السياسية , مع ملاحظة إن ما يرد من تقسيمات للمجتمع العراقي على أساس طائفي لا نلتزم به , لكن واقع الحال بعد احتلال العراق ولحد الآن تُقرأ التكوينات السياسية على هذا الأساس .

تحضيرات الأمريكان قبل عام 2003 وفي مؤتمر لندن للمعارضة العراقية  وضعت المحاصصة الطائفية كميزان رئيسي للحكم بعد إزاحة نظام صدام ” شيعي , كردي , سني ” . كان هذا المشروع الطائفي التخريبي مرحباً به من قبل الزعامات الشيعية المعارضة وشجعت الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر على تنفيذه بعد حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية التابعة للدولة العراقية وتشريع قانون الاجتثاث البعثي . بريمر أعلن فيما بعد بأكثر من مقابلة صحفية ” إننا انتزعنا حكم السنة لألف عام في العراق وأعطيناه للشيعة “.

كانت حيثيات دستور عام 2005 قد أحالت هوية العراق الى المكونات , على أساس ما تمت إشاعته من نسب المذهب الإسلامي في سكان العراق , علماً بأن جميع مراحل قياسات السكان في وثائق الدولة العراقية لم تتضمن ” المذهب ” للمواطن العراقي إنما ” الديانة فقط.

كان مطلوباً من الحاكم بريمر ومن بعده القيادات الشيعية البحث عن منتمين للطائفة العربية السنية ليسدوا فراغ الضلع الثالث ” السني ” من المثلث الطائفي على أساس الملء فقط وليس المشاركة السياسية المفترضة مثلما عليه الأكراد والشيعة . وفقوا في العثور على أسماء غالبيتهم لم يكونوا منتمين الى أحزاب سياسية قبل عام 2003 ما عدا حزب الأخوان المسلمين ” الحزب الإسلامي العراقي ” وهم أقلية.كانت غالبيتهم ما بين بعثيين مفصولين أو تجار صغار أو منتمين الى عشائر في محافظة الأنبار خاصة بعد توفر فرص النشاط العشائري المنقسم ما بين مقاومة الاحتلال العسكري الأمريكي ومهادنته .

جاذبية السلطة وما تفرزه من مصالح ومكاسب ذاتية دفعت البعض لدخول مضمار العملية السياسية ليس على أساس المشاركة في بناء الوطن العراقي ومؤسسات الدولة بعد عام 2003 أو التعبير عن مصالح جمهور العرب السنة الذين واجهوا القتل والتغييب خصوصاً ضد النخب العلمية من مهندسين وأطباء كذلك كبار ضباط الجيش العراقي الذين ساهموا في الدفاع عن وطنهم خلال حرب 1980-1988 مع إيران , كانت فرق الموت تضم جنسيات مختلفة بينها إسرائيلية وإيرانية . كما تعرضوا للقمع السياسي من قبل سلطة الأحزاب الشيعية قبيل سن الدستور عام 2005 والانتخابات التي شرّعت حكم الأحزاب المذهبية الشيعية بشراكة القيادة الكردية وفق التحالف الشيعي الكردي.

تشَجّع كثر من الشخصيات السنية لتنفيذ وصية القائمين على الحكم بتشكيل تنظيمات سياسية للابتعاد عن الشخصنة أوائل عام 2005 بعد مرحلة المقاومة المسلحة للاحتلال الأمريكي التي انطلقت منذ مارس 2003 خاصة في مدينة الفلوجة الباسلة ومدن العراق الأخرى. حيث كان للعشائر دوراً مهماً في التصدي لقوات الاحتلال . أصبح هذا الملف فيه ملابسات كثيرة بعد دخول أطراف عدة بينها تنظيم القاعدة الذي دخل العراق عام 2003 , كان مقتل أحد شيوخ الأنبار عبد الستار أبو ريشة واحداً من أمثلتها .

كانت الشروط الشيعية لقيام مثل هذه الكيانات الجديدة خضوعها للعبة الطائفية تحت مسمى العرب السنة . تشكلت جبهة التوافق برئاسة عدنان الدليمي التي ضمت مجموعة تقدمهم حزب الاخوان المسلمين ” الحزب الإسلامي العراقي ” بشخصيات مثل طارق الهاشمي الذي انشق فيما بعد عن الحزب وأياد السامرائي وبعض العناونين مثل ” مؤتمر أهل العراق ” ومجلس الحوار الوطني . الى جانب جبهة التوافق شكلّ صالح المطلك جبهة الحوار الذي كان مفصولاً من حزب البعث عام 1977 لكنه وجد في العملية السياسية خياراً لا بديل عنه.حيث حصلت جبهة التوافق في أول انتخابات عام 2005 على 44 مقعداً . كان لها موقفاً واضحاً في الأعتراض على تمرير وثيقة الدستور الجديد , لكن تم تمريره بمصادقة بعض السنة الذين وجودوا فرصتهم في الحصول على المكاسب وتحقق لهم ذلك .

ظهرت خلال هذه الفترة الكثير من الأسماء التي استغلت الغطاء الطائفي للالتحاق بمشروع المكاسب الشخصية بعضها صور نفسه بطلاً في معارضته لنظام صدام , عُرف بعضهم بالنفاق للقيادات الشيعية الحاكمة ثم الترحيب باللحاق بالولاء لطهران , لا نذكر الأسماء .

من المفيد ذكر واقعة تاريخية منشورة حدثت خلال انتخابات عام 2010 وفوز قائمة الائتلاف العراقية برئاسة أياد علاوي بعد دعم العرب السنة والبعثيين له ,كان هدف نوري المالكي انتزاع الفوز من أياد علاوي . حيث نقل محمود المشهداني رسالة شخصية منه الى صالح المطلك عرض عليه الانشقاق على كتلة علاوي مقابل ما يطلبه من مناصب . يبدو ان تلك المهمة لم تنجح في الوقت ذاته لكن المطلك التحق بالركب وحصل على منصب نائب رئيس الحكومة , وجهت إليه فيما بعد اتهامات مالية في تخصيصات العرب السنة النازحين بسبب داعش .

بعد هيمنة حزب الدعوة برئاسة نوري المالكي على السلطة 2005-2014 تحول العراق الى ميدان للاستبداد الطائفي ضد العرب السنة وملاحقة أبنائهم  تحت سطوة قوانين المساءلة والعدالة والمادة ” أربعة إرهاب ” . أحداث خطيرة حصلت في البلد الى جانب لوثة الفساد وسرقة المال العام أهمها تأجيج الحرب الطائفية في تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006 , الأخطر تسهيل دخول عصابات داعش المتطرفة للموصل عام 2014 وما تخللها في مجزرة سبايكر حيث تم قتل 1700 بريئ عراقي.

بعد احتلال داعش للأراضي العراقية في مدينة الموصل نزولاً الى صلاح الدين وغرب العراق الأنبار تبدلت ظروف اللعبة , كان ظاهرها الحرب على إرهاب الداعشي المحتل وتخليص البلد منهم , لكن الحقيقة السياسية كانت كيفية الهيمنة الكاملة للقوى الشيعية المتطرفة وميليشياتها الموالية لطهران التي تنامت قوتها خلال هذه الفترة .

تم استثمار فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني في الجهاد لتحرير البلد من داعش وهي فتوى مرتبطة بحدث الاحتلال الذي انتهى عام 2017 بعد أن قدم العراقيون جميعاً : الشعب وقواته المسلحة في الجيش ومكافحة الإرهاب وبينهم قوات الحشد الشعبي الشهداء ثمناً لذلك التحرير . لا ينكر دعم قوات التحالف في تلك المعركة .

كان المطلوب في هذه المرحلة السياسية الحساسة بعد التحرير إزاحة الجيل الأول من الوجوه العربية السنية أمثال : أسامة النجيفي, حاجم الحسني ,سليم الجبوري , محمود المشهداني , أياد السامرائي , صالح المطلك , الذين اخذوا حصصهم من المنافع الفردية دون أن يقدوا مكسباً واحداً لرفع الظلم عن أبناء ملتّهم . تطلبت المرحلة استحضار الجيل الثاني من الوجوه السنية الجديدة في مشهد العملية السياسية مثل محمد الحلبوسي الذي أصبح رئيساً للبرلمان واعتبر نفسه القائد السني الوحيد على المسرح السياسي.

القاعدة المهمة التي وضعها قادة الأحزاب الشيعية الحاكمة هي الالتزام بفرضية : منح فرص المكاسب الذاتية ومزاياها في المناصب الحكومية والوجاهة والاكتساب الاقتصادي يجب أن تصبح بديلاً عن الالتزام بمطالب الجمهور العربي السني المشروعة وهي حقوق تفرضها أولويات واجبات الحكومات أمام شعبها . الأكثر خطورة في الجانب السياسي هي الالتزام بالولاء المباشر أوغير المباشر لطهران .

لم يلتزم الحكام الشيعة بوعودهم في القضايا الإنسانية كقضايا المُغيّبين أو المسجونين تحت وشاية المُخبر السّري . هناك قصص مؤلمة في عمليات التعذيب والاعدامات داخل السجون السّرية . واحد من تلك المواقع التي أصبحت مفضوحة ” جرف الصخر ” تلك المدينة وسط العراق التي هُجّر أهلها منذ عمليات التحرير من داعش منعوهم لحد اليوم بعد ست سنوات من طرده من العودة الى مساكنهم وأراضيهم تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني والمليشيات المسلحة وفق الكثير من المصادر الإعلامية .منذ ست سنوات هذه المدينة مُقفلة يمنع زيارتها من قبل أي مسؤول حكومي أو برلماني عراقي وسط صمت جهات ومنظمات حقوق الانسان الغربية كذلك ممثلة الأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت.

في تقدير الطائفيين المتطرفين من المليشيات الشيعية إن بقاء العرب السنة مستمرين في الحياة بأدني درجاتها داخل وطنهم الأصلي هي ” منّة ” تتطلب العرفان مثلما يعلنون دائماً على وسائل الاعلام ويجيّرون مهمة تحرير العراق من داعش والحفاظ على الشرف العراقي بأنه فضل قدمه الإيرانيون بقيادة الجنرال قاسم سليماني.

التحول المهم الذي حصل بعد فوز التيار الصدري في انتخابات عام 2021 ب 73 مقعداً أهلّه للأغلبية داخل البرلمان إعلان مقتدى الصدر عن مشروع عابر للطائفية يحكم البلد ولم يتردد في دعواته عبر خطاباته المباشرة أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مطالباته بحل المليشيات المسلحة. كذلك قيام تحالف سياسي جديد ” إنقاذ وطن ” جمعه مع القيادة الكردية والقيادة السنية المتمثلة بكتلة ” السيادة ” وهي الجزء الأعظم من الكتل السنية في البرلمان الجديد , مقابل الكتلة الشيعية بزعامة نوري المالكي الخصم التاريخي لمقتدى الصدر .

 وجدت القيادات السنية المتحالفة مع الصدر بزعامة خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي متنفساً لها بالمطالبة بالحقوق الشعبية لأبناء العرب السنة , مقابل كتل سنية أخرى فازت ببعض المقاعد البرلمانية ابتعدت عن التجمع السنّي والتحقت بكتلة الإطار الشيعية .

أصبحت لعبة التحالف الشيعي الحاكم أكثر خطورة في احتمال خسارة قيادة الحكم والسلطة لصالح مقتدى الصدر الذي أعلن مشروع محاربة الفاسدين ورفض التبعية الخارجية . لهذا استحضر المالكي إمكانيات الدولة المدنية والعسكرية كذلك المليشيات المسلحة الجاهزة لفتح معارك الحرب الطائفية التي كادت تقع لولا التراجع الدراماتيكي من مقتدى الصدر تحت عنوان ” مقاطعة العملية السياسية ” والابتعاد عنها . فسلّم مقاعد فوزه أل 73 لكتلة الاطار التي وفق ذلك تمكنت من استعادة السيطرة على البرلمان كذلك الحكم المطلق .

أصبح ” المُستضعفون السنة ” تحت رحمة الإطار الشيعي .اضطر تحالف ” السيادة ” بعد انفضاض المشروع التحالفي مع الصدر والأكراد ” إنقاذ وطن ” الى الاستمرار بالعملية السياسية والتوقيع مع القادة الشيعة والأكراد على وثيقة التزامات الحكومة الجديدة بعد تمريرها برئاسة محمد السوداني تجاه العرب السنة وفق النقاط الخمسة ( التوازن السياسي, المهجرين , العفو عن الأبرياء في السجون , الغاء المساءلة والعدالة ) .

ما حصل تهرّب قادة الأحزاب الشيعية وحكومتهم من تلك الالتزامات رغم مرور ستة أشهر على تشكيل حكومة السوداني . دفع ذلك القيادات السنية الى التعبير عن الشكوى والغضب عبر الاعلام , لا يمتلكون غير الكلمة وهي مثلما يقال تصبح سلاح السياسيين المُستضعًفين .

أصبح تصدّر زعيم كتلة السيادة السنية خميس الخنجر لهذه المهمة الإعلامية والحديث عن ” العودة والصلاة في جرف الصخر ” مدعاة للهجوم الشيعي المتطرف المضاد .

الحكام الشيعة يعتقدون إنهم أقوى من أية مرحلة سابقة في ثني الخنجر أو غيره عن المواجهة الإعلامية , لدى إيران 59 قناة فضائية تبث باللغة العربية من داخل العراق , مقابل قناتين يمتلكهما الخنجر شخصياً . دفعت تلك القيادات مجموعة من الكوادر التابعة للإطار الشيعي الى حملة إعلامية مضادة وصف الخنجر خلالها ” بالشريك غير المؤتمن ” الى غير ذلك .

التوقعات تشير الى إن قيادة الحكم في بغداد لديها خيارات في إزاحة من يقف بوجههم حتى لو كانت لديه كتلة برلمانية , مثلاً : بسهولة تعاد وصفة ” الإرهابي ” للمتمرد . والقائمة ليست قليلة في البدائل السنية الجاهزة .

هذه الوقائع ومتابعاتها التحليلية السياسية تشير الى الخطأ الذي وقع فيه العرب السنة في استسلامهم لدوافع المنافع الشخصية وعدم التشبث بتنفيذ المطالب الشعبية المشروعة مقابل دعم العملية السياسية .

الأهم من كل ذلك تشير الوقائع والأحداث ذاتها أن العملية السياسية لأسباب كثيرة مضافة للسياسات الطائفية وهيمنة المليشيات المسلحة على الحكم من أهمها حالة الفساد وسرقة مليارات الدولارات من مال الشعب , وضعت العملية السياسية على حافة الهاوية في ظل تطورات سياسية مهمة مقبلة محيطة بالعراق .