الفنان الفلسطيني “سليمان منصور”، ريشةٌ  تُقاوم المخرز

حمل الفنان التشكيليّ الفلسطينيّ “سليمان منصور” همّ القضيّة، فكان عتّالها الذي لا يكلّ ولا يهدأ،  جسّد رؤيته في لوحات ومنحوتات مثّلت فيه المرأة الفلسطينيّة بثوبها التراثيّ المطرّز وجهًا من وجوه الهويّة الوطنيّة، أعاد للمسيح عروبته المسلوبة، وثّق ذاكرة المكان بالتراث العمراني، بالقدس وقبة الصخرة، وثّق الاعتداءات الإسرائيلية وعنصريته، هو ابن بيئته والمُتحدّث بلسان معاناة شعبه وذلك ما وضعه في مصاف العالميّة.

        حياته ودراسته

 وُلد في بلدة بيرزيت شمال رام الله العام 1947، تربى على حبّ الأرض. عاش طفولة غير مستقرة، إذ توفي والده وهو في الرابعة من عمره وأودع وإخوته في مدرسة داخلية. منذ صغره كان موهوبًا بالرسم، وكان مدير المدرسة ألمانيا وفنانًا، لم يكن في الخمسينيات مدارس لتعليم الفنون فقام المدير بإنشاء نادٍ للفن، وكان منصور من الذين حظوا باهتمامه، وتشجيعه على المشاركة في مسابقة من تنظيم الأمم المتحدة لأطفال العالم كان شعارها “قلوبنا تحنو إلى

الفنان الفلسطيني سليمان منصور

السلام”” شارك في المسابقة وكسبها في العام 1961. لاحقًا اختار دراسة الفن في أكاديمية بتساليل للفنون والتصميم في القدس الغربية. عمل في التصوير الزيتي وعمل رسامًا كاريكاتيريا في عدد من الصحف المحليّة، له عدة منحوتات من النحاس والخشب والجبس والكثير من جداريات الفسيفساء. حصد العديد من الجوائز نذكر منها: جائزة في بنيالي القاهرة  1998 ، جائزة الشارقة للثقافة العربية  2019

        الفن قضيّة ورؤيا

ساهم بقاءه في فلسطين في توجيه خياراته الثقافية والسياسية، تعرّف إلى فنانين كُثُر مثل عصام بدر، انطلقت في السبعينيّات فكرة تأسيس رابطة تجمع فنانين تشكيليين من أنحاء فلسطين، نُظم أوّل معرض للتشكيليين في القدس العام 1975  بدعم من القوى الوطنية. كان يتم توزيع الملصقات الفنية التي كانت عبارة عن طباعة أعمال الفنانين، انتبه الاحتلال لاحقا لخطورتها وتمت مصادرتها.

تضامنًا مع انتفاضة العام 1987 أطلق مع زملائه الفنانين مبادرة لمقاطعة الأدوات ومواد التلوين الإسرائيلية، واعتمدوا على مواد خام من منتجات الأرض الفلسطينية. فاستخدم الطين والخشب والفخار والخيش والحناء الذي شكل العديد من أعماله الفنيّة،  من هنا تأسست مجموعة نحو التجريب والإبداع التي هي حلقة الوصل ما بين الفن القديم والفن المعاصر اليوم. أقام معارض في عدة دول منها القدس، نيويورك، الشارقة، القاهرة.. وشارك في معارض جماعيّة منها في فلسطين، بيروت، أوسلو، باريس. عمل في التدريس، وشارك في تأسيس جمعية الفن المعاصر في رام الله. يرى منصور أنّ الوضع السياسي انعكس على الفن الفلسطيني، وعلى الرغم  من قوّته وعمق رسائله إلا أنّه فنٌ حزين.

        نظرة على أعماله

ركز في لوحاته على التراث والأزياء الشعبية الفلسطيينة وأعمال التطريز، وقام بإنشاء رموز تصويرية للنضال الفلسطيني.  رسم شجرة البرتقال التي تعد رمزًا للنكبة الفلسطينية العام 1948. ورمز بشجرة الزيتون إلى نكسة العام 1967. يقول أن الواقع الموجع فرض ألوانه على لوحاته وهو يميل لاختيار الرماديات والألوان المطفأة ويقول في أحد مقابلاته: “عندما أعالج موضوعا يتعلق بأرض مسروقة من أصحابها أجد نفسي لا شعوريًا، ألجأ إلى اللون البني والرمادي في أعمالي”. حقول زيتون شاسعة، أبنية بحجارة قديمة ملاصقة وأقبيَة، القدس وقبة الصخرة، العائلة المقدسة في أكثر من رسم وصورة، حمام السلام، جنود إسرائيليون وأسلحة، جدار عازل، أطفال يقاومون.. أمهات يرضعن أطفالهن وبيدهن السلاح، لوحات صارخة تُجسد الواقع الفلسطيني بكل مأساويته وبكُلّ مقاومته وعنفوانه.

        لوحة جمل المحامل:

شكلت رمزية الفلسطيني الذي يحمل همومه وهم قضيته أينما ذهب، وفيها يظهر رجل عجوز منهك بثياب تقليدية بالية منحني الظهر ويحمل مدينة القدس مشدودة بحبل إلى رأسه، رُسمت عدة مرات وأُجريت عليها عدّة تعديلات، وتمّ توثيق اللوحة في المرة الثالثة. أنجزت اللوحة في المرة الأولى العام 1973،  وطُبعت في العام 1975، خلفية اللوحة مشاهد من الأماكن المقدسة. في المرة الثانية اشتراها السفير الليبي وأهداها للرئيس الليبي الراحل معمر القذافي. النسخة الثالثة رُسمت في العام 2005 وبيعت في مزاد في دبي.

تحوّلت “جمل المحامل” لتُلهم الفنانين من حول العالم منهم النحات العراقي أحمد البحراني المقيم في قطر والذي عمل على منحوتة من البرونز. يقول منصور أن اللوحات التي تتحول إلى أيقونات يقوم الفنان برسم نسخ متعددة منها.

        المرأة والزي الشعبيّ

الزي الشعبي هو عنصر جذب للفنان لأنه يُشكل موضوع الهوية. لذا شارك مع الفنان نبيل عناني بعد انضمامهما إلى لجنة التراث الشعبي في جمعية “إنعاش الأسرة”.  في تأليف كتاب الملابس الشعبية الفلسطيينة وكتاب دليل التطريز الفلسطيني الذي يحوي على العديد من التصاميم المستخدمة في التطريز والذي هدف لتوثيق التراث الفلسطيني لحمايته من السرقة والتزوير والطمس والإهمال.

تُشكل المرأة موضوعًا أساسيًا في أعمال منصور، حضور قويّ فاعل تأكيدي وواضح بثوبها التراثي المُطرّز. وهي تقاوم خطر التهميش الصهيوني وعلى امتداد خارطة فلسطين في الحقل في البيت وفي ساحات النضال، وهي الحبيبة والزوجة والأم والجدّة الراعية التي تتسع لتضم كلّ الشعب، وهي الأسيرة والمحررة والشهيدة وهي المناضلة والمقاتلة الشرسة ضدّ الأنظمة القمعيّة من أجل حريتها وحرية شعبها.

        المسيح بقالب عربي

يُمثل السيد المسيح والعائلة المقدسة جزءا مهمًا من لوحات الفنان منصور، وهو بزيّ عربي وملامح عربيّة خالصة ويرتدي الكوفيّة، ويأتي رسمه عند منصور كمحاولة لإعادة الصورة إلى مكانها وإطارها الثقافي الأصلي فالمسيح الذي وُلد في أرض فلسطين ليس كما يُظهره الغرب بشعر أشقر وعيون زرقاء وملامح غربيّة تامة. لذا إضفاء الزي الفلسطيني هو جزء من إعادة  قولبة المشهد. وكذلك لوحة العشاء الأخير للفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي التي تمثل مشهد العشاء الأخير للمسيح مع الرسل الاثني عشر، والتي فيها أعلن أن أحد تلامذته سيخونه، يظهر السيد المسيح في لوحة منصور، مع تلامذته  بأزياء فلسطينية وجلسة عربيّة. وعن هذه اللوحة يُصرحّ في أحد مقابلاته؛ أنه من الفنانين الذين تعرفوا إلى فن عصر النهضة وهو بحسب تعبيره فن كنسي يحكي عن حياة المسيح، ويضيف: كنت أشعر بالغربة في كل مرة أنظر إلى اللوحة فأنا المسيحي الذي أتصل بالمسيح بحكم قرابة الانتساب للأرض نفسها. فأشعر بأنه ليس لي. ففكرت لماذا لا أرسم المسيح على طريقتي وهي الأصلية؟!

يؤمن منصور (مأخوذ من مقابلة معه) أن على الفنان أن ينتمي للشعب الذي يرسم من أجله، وإلا فإن فنّه لن يكون مقنعًا لأحد ولن يصل. فالانتماء هو انتماء ثقافي ووجودي. وهو دأبه منذ أوئل السبعينيات لحدّ اليوم التأكيد على الهوية الفلسطينية. والفن بأشكاله محاولة مقاومة لكل أشكال التضليل والتعميَة .

يواجه الفنان اليوم حربًا ثقافيّة ووقودها الشباب الذي غالبًا لم يشهد الأحداث المصيرية، لذا يرى منصور، المهمة صعبة ومصيريّة أمام الفنان إنه أمام عملية ترتيب وتأديب هذا الشباب في توجيهه دوما نحو بوصلة فلسطين. لذا: “على الفنان أن يمتلك رؤيا وثقافة فنيّة، فالمحتل ينكر وجود الشعب الفلسطيني ويعمد إلى طمس هويته ومصادرة الأراضي، مع تواطئ الغرب.. لذا فهدف الفن هو مواجهة الواقع ومقاومة الفناء.”