المبارزة العسكرية وتهديد سوق الطاقة وصراع الغرب والشرق من جديد
محمد قواص
كل بلدان العالم ترى في أزمة أوكرانيا قضية تطالها. وفق إيقاعات الأزمة في كرّها العسكري وفرّها الدبلوماسي سيتشكل نظام دولي ما يعيد توزيع القطع على رقعة الشطرنج العالمية. الأمر يحدد مستقبل الأمن في أوروبا كما خرائط الطاقة في العالم. الأزمة تحدد أيضا دور حلف الناتو ومكانة الولايات المتحدة على رأس المنظومة الدولية.
والأزمة تسلط مجهرا على مكانة روسيا والصين في لعبة الأمم. والأزمة ستتداعي على كافة ملفات العالم العالم الملتهبة بما في ذلك تلك في الشرق الوسط.
ثأر بوتين
يكاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخوض معركته الأخيرة ضد المنظومة الغربية على حدود أوكرانيا. ويكاد الرجل يطيح بمسلّمة فرانسيس فوكوياما البليدة حول تثاؤبه من “نهاية التاريخ”. يعيد سيّد الكرملين (أو يسعى إلى ذلك) عقارب الساعة إلى اللحظة التي كان بها شاهداً معذَّبا على انهيار الاتحاد السوفياتي (1988-1991)، فيدق في أوكرانيا أبواب روسيا القيصرية.
تمددَ ذلك الغرب المنتصر ليضع دول الاتحاد السوفياتي تحت خيمته. بعضها تحت سقف الاتحاد الأوروبي وبعضها الآخر داخل فضاء الحلف الأطلسي وبعضها الثالث يطمح إلى أن يتمتع يوماً بالنعمتين. من تلك الدول أوكرانيا، ثاني أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا.
خاض بوتين معركة قديمة ضد “الغزو” الغربي لـ “الغنائم” السوفياتية في جورجيا عام 2008، وخرج منتصراً. وخاضها مرة أخرى في أوكرانيا فانتزع بالقوة، كما في جورجيا، شبه جزيرة القرم عام 2014، وخرج منتصراً. فلماذا لا تسوّل له نفسه الانتهاء من الاستعصاء الأوكراني إلى الأبد؟
شعب واحد في بلدين
تخرج موسكو من خزائنها العتيقة ملفات التاريخ والثقافة واللغة التي تجمع روسيا بأوكرانيا. يستعير بوتين مقولة حافظ الأسد حين أعتبر أن السوريين واللبنانيين هم شعب واحد في بلدين. ينهل الزعيم الروسي من نفس البضاعة ويلقي عظة في نفس الاتجاه فلا يجد ما بين بلاده وأوكرانيا إلا سمات واحدة في السلام والكلام وحكايات تشكل الكيانين.
ولأوكرانيا قصة مع روسيا مماثلة لتلك التي سطّر النظام السوري نصوصها مع لبنان. وتجاوزا لسرد تاريخي في علاقة موسكو مع كييف بين ما قبل وما بعد اندثار الحرب الباردة، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طوّر خطابه بشأن أوكرانيا من اعتبار أنها “ليست دولة” (فق ما نُقل عنه في لقاء مع نظيره الأميركي جورج بوش الابن عام
2008) إلى فذلكة -تذكّرها اللبنانيون كثيراً- حين أفتى أن الروس والأوكرانيين “شعب واحد في بلدين” ناهلاً من بعض ما نصّه المفكر الروسي الكسندر دوغين في معرض تبشيره بمجد الأمة الروسية
والأمر ليس جديدا في التاريخ الحديث. أطل أدولف هتلر على العالم متطوّعاً بأن يكون راعيا وحاميا للناطقين بالالمانية في العالم. وفي أي غزو قامت به ألمانيا النازية لبولندا أو النمسا أو تشيكوسلوفاكيا أو أي حيّ معتم في أي بلد آخر، كان حافز ذلك، الدفاع عن الشعوب الجرمانية قبل أن ترتقي الفتوى إلى واجب الزود عن الآرية والآريين. يريد بوتين إعادة بلادة إلى أمجاد الحقبة السوفياتية وقبلها القيصرية. فقدت موسكو وصايتها على “الرفاق” في أوكرانيا بعد أن غادرت الحقبة السوفياتية العالم، وانهارت تلك الوصاية على نحو مقلق بعد أن اقتلعت ثورة وانتخابات رجال موسكو من قمرة قيادة الحكم في كييف.
يالطا جديدة
يقدم بوتين مطالعة حاذقة تتقطر منها مظلومية أين منها تلك التي أطلقها وليا الفقيه في إيران. قواته تجتاح جورجيا وتجتاح القرم وتحتشد بخشونة على حدود أوكرانيا ويستكثر عليها تسوّل الدعم الخجول من هذا الغرب المرتبك. يودّ الرئيس الروسي استعادة مقعد جوزيف ستالين في يالطا (فبراير 1945). تقاسم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية آنذاك العالم ورسموا حدود نفوذهم عليه، فلماذا لا يرسم بوتين حدوده وينتزع من الخصم اعترافا نهائيا بنفوذه؟
قد لا يستطيع بوتين فكّ شيفرة الردّ الغربي على حملته الأوكرانية. واشنطن ولندن تؤكدان بشكل واضح جليّ لا لبس فيه وبالنيابة عن الحلف الغربي أن المنظومة الغربية لن تردّ عسكريا على أي اجتياح تقوم به روسيا لأوكرانيا. تروح واشنطن وحلفاؤها، وكما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، يتوعدون بـ “عقوبات مدمرة” ضد روسيا في حال قامت
بهذا الاجتياح. يردد الغرب عبارة “اجتياح” وكأنها احتمال من عاديات السوابق الروسية، ما قد يغري بوتين لانتهاج الخيار من جديد خصوصا أن الغرب يعِدُه بانعدام أي تدخل عسكري.
يطرح الحدث تحدياً وجوديا للغرب منظومةً وعقيدةً. انتصر الغرب الليبرالي الديمقراطي على نموذج الحكم الشمولي السوفياتي وبات على المنتصرين تسويق نموذجهم بصفته الترياق الوحيد لحكم الكون. يعود بوتين بترياقه فارضاً على الاتحاد الروسي والدول الحليفة وتلك التي عليها أن تكون حليفة -مثل أوكرانيا- نموذج حكم ينهي شططا أباح لدول مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا وتشيكيا .. إلخ الذهاب بعيدا عن موسكو، ويفرض قواعد قوة تمنع على دولة ديمقراطية مستقلة -مثل أوكرانيا-أن تختار، أيا كان شكل ووجهة هذا الخيار.
ولئن باشر الغرب محادثات (تأخذ شكل المفاوضات) مع روسيا بشأن الضمانات الأمنية التي يطالب بها بوتين الذي يزعم الخوف والرعب من أسلحة استراتيجية غربية تحت شرفته، فإن هذا الغرب بقيادة الولايات المتحدة في عهد الديمقراطي بايدن أمام امتحان صعب معقّد. فحسابات الأوروبيين القلقون من سيف الطاقة فوق رقابهم تختلف عن تلك الأميركية التي تُدرج الصراع مع الصين في كل صغيرة وكبيرة على هذا الكوكب.
لعبة الأمم
يتأمل الأوكرانيون بحسرة ذلك التردد الذي لم يعترِ الغرب في دمج دول البلطيق، يتأملون تلك اللحظة التاريخية التي جرى فيها الأمر أمام أعين موسكو بعجز وبدون أي اكتراث. يتأملون أيضا “وعد” الغرب لبوتين بعدم الرد العسكري على أي هجوم عسكري يقوم به ضد بلادهم. يتأملون أيضا وأيضا، وربما بيأس، بزوغ تسويات خبيثة قد تنضج بين موسكو والغرب على حسابهم ولصالح حلم أميركي بـ “تحييد” موسكو عن ذلك الصراع مع بكين. يحاولون أيضاً فك طلاسم تلك “الإيجابية” التي قال بوتين أن واشنطن أعربت عنها في ردها على مقترحاته الأمنية.
تقول المقترحات إنه على الحلف عدم قبول أعضاء جدد في التحالف العسكري وتدعو إلى عدم إنشاء قواعد عسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق. لا ينقص بوتين إلا أن يقول لخصومه “اقفلوا دكانكم”.
والحال إن الصين تنظر بسادية من بعيد إلى ذلك الضجيج الصاخب على الحدود الروسية الأوكرانية. بين روسيا والصين يترعرع تحالف الضرورة الذي، ووفق دروس التاريخ، قد تطيح به ضرورات أخرى. تقارن بكين احتمال اجتياح روسيا لأوكرانيا وباحتمال قيامها بالسلوك نفسه ضد تايوان. وعلى هذا فإذا ما وعد الغرب بسكوت المدافع عن اجتياح بوتين لأوكرانيا فلماذا لا يسكت أيضا عن قيام شي جين بينغ بضمّ تايوان الجزيرة إلى البرّ الصيني العظيم؟
تدرك واشنطن بحسابات دقيقة حراجة مآلات الصراع الأوكراني على مآلات الصراع المفتوح الأميركي الصيني.
ربما أن بوتين أيضا يستنتج ذلك الحرج ويرى فيه مناسبة نادرة ليسجل في حسابه أرباحاً يعترف فيها الغرب بمكانته النهائية وفق “يالطا” جديدة. وإذا ما حصل ذلك فإن الأمر يعني أن الزعيم الروسي يحصد عند بايدن ما تمت زراعته بعناية عند الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
غير أ رجل روسيا القوي، الذي يستعرض قواه على حدود أوكرانيا وقد استعرضها منذ عام 2015 في سوريا ونشر قوات “فاغنر” الخاصة في بقاع كثيرة من العالم، لا ينسى أبدا أن الاتحاد السوفياتي كان قوة عسكرية جبارة حين إنهارت منظوماته وأن الاقتصاد وحده كان السبب لسقوط الامبراطورية التي تمَّ الوعدُ بأنها لا تقهر.
واشنطن بين موسكو وطهران
مفارقة لافتة يمكن ملاحظتها في الكيفية التي تقارب بها الولايات المتحدة أزمة أوكرانيا مقارنة بتلك الخاصة بالأزمة مع إيران. الأزمة الأولى يتمّ التعامل معها بصفتها متعددة وشاملة الأطراف تقود واشنطن إدارة يومياتها. الأزمة الثانية، ولأسباب لا يمكن وصفها إلا بالخبيثة، يتمّ التعامل معها برعاية أميركية كاملة منذ عهد باراك أوباما بصفتها ملفا محدود الأطراف يُبقي العالم متفرجاً مراقبا لا حيلة لهم في الأمر.
عالجت واشنطن النزاع مع طهران على مستوى ثنائي أسس لمحادثات أميركية إيرانية سرّية عبر القناة الخلفية التي رعتها واستضافتها سلطنة عمان. على قاعدة ما تمّ التوصل إليه في مسقط التحق “نادي فيينا” المشكّل من بقية مجموعة الـ 5+1، أي روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتبني ما تحقق في غرف طهران وواشنطن المغلقة. وحين خرج الاتفاق من مداخن المفاوضات عام 2015، أُبلغ العالم، لا سيما دول المنطقة، بالمنجز بصفته أمرا واقعا دون أي تأثّر بالرفض والتحفّظ الشديدين اللذين أبدتهما خصوصا الدول المعنية فعلا بالحالة الإيرانية.
بالمقابل، وفي الشكل على الأقل، تنطلق إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن في واشنطن من ثابت يضع مصالح الحلفاء والدول المعنية مباشرة، وفي مقدمهم أوكرانيا نفسها، أولوية لا يمكن ولا تستطيع أن تغفلها تفاهمات جانبية ثنائية أميركية روسية. ففيما يتوق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الاهتداء إلى تسوية مع الولايات المتحدة ليس بالضرورة أن تكون القارة العجوز طرفا مفاوضا بها (بل خاضعا، كما في عهود الحرب الباردة، لـ “اتفاقات
الجبارين”)، فإن واشنطن تؤكد وتكرر أن لا مفاوضات حول أوكرانيا دون وجود أوكرانيا ولا مفاوضات حول أمن أوروبا دون وجود أوروبا.
الحلفاء أولا
يشارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كل على طريقته ووفق رؤاه وأجندته في الإدلاء بدلو في أكثر الأزمات خطورة في العلاقة مع روسيا منذ اندثار الحرب الباردة. لألمانيا موقفها المؤثر الذي يتطور، كما لدول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي (بولندا ودول البلطيق خاصة) موقفهم في صناعة السياسة الغربية العامة داخل هذا الملف. ويُسجل بمناسبة الحدث بروز مواقف فنلندا والسويد اللتين تبدوان مائلتين إلى التخلي عن تاريخ من الحياد في صراع الغرب مع موسكو باتجاه الإطلالة الجدية على حلف الناتو. وعلى هذا تبدو أوكرانيا الدولة المعنية الأولى وأوروبا المعنية مباشرة بأي صراع عسكري عاملان حتميان في أي مآلات تخرج بها المفاوضات الراهنة.
ربما تطوَّر الموقف الأميركي من ضرورة أخذ مصالح ورؤى دول الشرق الأوسط بعين الاعتبار في أي اتفاق يجري العمل على انضاجه في فيينا مع إيران. لكن دول المنطقة غير حاضرة على طاولة المفاوضات (رغم مطالبتها بذلك)، وما زالت مقصيّة عنها، كما كان حالها في عملية إنتاج ذلك الذي أُبرم عام 2015. حتى أن القضايا التي تهمّ دول المنطقة المتعلقة ببرنامج إيران للصواريخ الباليستية وسلوكها المزعزع للاستقرار في المنطقة غير مدرج على طاولة التفاوض.
ولئن ما زالت الولايات المتحدة تكرر التزامها بأمن إسرائيل، حليفها الاستراتيجي الأول في الشرق لأوسط، وما زالت تكرر بملل ودون مصداقية حرصها على أمن حلفائها الآخرين، لا سيما في الخليج، إلا أن ما تسرّب عن تقدم داخل قاعة التفاوض المباشر مع “نادي فيينا” وغير المباشر مع وفد واشنطن برئاسة روبرت مالي، يقلق دول المنطقة بمستوى ربما أعلى من ذلك الذي اعتراها حين الإعلان عن الاتفاق الأصل قبل سبعة أعوام.
روسيا-إيران: المناورة!
والحال أن روسيا وإيران يتبادلان الخبرات في كيفية التعامل مع الغرب لمعالجة الأزمات. والأرجح أن موسكو تذهب بعيدا في تقديم نسخة محدثة من أسلوب طهران وتكتيكاتها. وتبدو حافة الهاوية التي لطالما تناور إيران على خطوطها تستهوي بوتين وتؤتي أكلها في مغامرته الأوكرانية الراهنة. طهران تكثر من تمارينها من أعمال تهدد مصالح الخليج والملاحة الدولية، وتحرّك أذرعها في الميادين التي تسيطر عليها في المنطقة. موسكو تحشد قواتها بشكل مستفز على حدود أوكرانيا، وتستفيق على مناورات في بيلاروسيا، وتوحي بذهابها إلى كسر الخطوط الحمر كما فعلت سابقا في جورجيا عام 2008 و في شرق أوكرانيا وصولا إلى ضم جزيرة القرم عام 2014.
ولئن لم ترَ واشنطن حاجة حتمية لمداراة حلفائها في المسار الراهن للمفاوضات الجديدة مع إيران، فإن طهران، للمفارقة، أدركت أهمية هذا العامل وضرورات تهدئته كشرط من شروط تمرير مصالحها في أي نسخة جديدة من الاتفاق النووي. بدأ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ولايته بالتبشير بسياسة انفتاح شامل على دول الجوار. وتفاعلت طهران إيجابيا مع جهود رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في رعاية واستضافة بغداد لجلسات حوار ما بين السعودية وإيران. كما أن الدبلوماسية الإيرانية بقيادة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان نشطت باتجاه إطلاق خطاب إيجابي ودود حيال الخليج وقيام وزراء إيران بزيارات لبلدانه.
وفق التناقض بين العنف الذي تشرف عليه إيران والذي يستهدف دول الخليج عبر ذراعها في اليمن، ما زالت طهران متمسكة بحوارها مع السعودية. وبالتوازي مع الهجمات التي قامت بها جماعة الحوثي ضد الإمارات ترسل طهران وزراءها وتلوح بزيارة للرئيس الإيراني إلى أبوظبي. بالمقابل وعلى الرغم من الأخطار التي تتوعد بها إيران حلفاء الولايات المتحدة في الخليج والتي لن يردعها أي اتفاق جديد قيد الاعداد في فيينا، فإن إدارة بايدن ما زالت لا ترى ضرورة بانخراط أهل المنطقة، على منوال أولئك حول أوكرانيا، في مفاوضات من شأنها ردع إيران وتوقف ميليشياتها عن تهديد دول الخليج من لبنان والوعد بإيذائها من حدود العراق واستهداف مدنها ومصالحها وأمنها من اليمن.
استنتجت موسكو جبهة واسعة متعددة تزداد شمولا في مواجهتها. وتستنتج طهران انصياع “نادي فيينا” لشرطها بعدم توسيع عضويته وبالتالي التمسك بمحدودية بلدانه. وكأن في ثنايا التفاوض الإيراني الأميركي جانب خطير كان أوباما قد عبّر عنه في “عقيدته” التي تحدث عنها مع الصحفي الأميركي جيفري غولدبرغ في “ذي أتلانتيك” في ربيع 2016. في هامش القول معادلة تجعل من إيران شأنا أميركيا بامتياز، فيما يُترك لإيران أن تجعل من أمن المنطقة، الخليجية خصوصا، شأنها بامتياز.. فهل توحي “فيينا” بغير ذلك؟
الصين تتقدم
تتامل الصين بارتياح يوميات أزمة أوكرانيا. يدفع التوتر الشديد بين روسيا والغرب الضغوط عن “العدو الصيني”، وفق عقائد واشنطن وأولوياتها منذ باراك أوباما. باتت روسيا هي “العدو”، وراحت واشنطن تناشد بكين الوساطة. البنتاغون وأجهزة المخابرات يوجهون البوصلة نحو موسكو والرئيس الروسي بما من شأنه التخفيف عن بكين وحزبها وحاكمها الضغوط التي اشتدت وتائرها منذ تبوء جو بايدن سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة.
تخوض الصين عن بعد معركة روسيا الراهنة. وفي قمة فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ في بكين ما يفرج عن موقف واحد يرقى إلى مستوى الحلف الاستراتيجي الذي لم يصل إليه البلدان في عزّ الحرب الباردة عندما كان حزبان شيوعيان يحكمان الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية.
يمنع تاريخٌ متوتر وماضي من الشكوك المتبادلة تصديق نهائية التحالف الروسي الصيني. البلدان يجتمعان، خصوصا هذه الأيام، على ضرورة التصدي الجدي للتحديات الواحدة. يسهل على بكين أن تستنج أن المآلات التي سينتهي إليها صراع موسكو مع واشنطن وامتداداتها الغربية، لا سيما داخل حلف الناتو، ستتداعى، سلبا أو إيجاباً، على مستقبل الصراع المفتوح بين واشنطن وبكين.
لا تحشد الصين قوات تهدد تايوان على الرغم من مناورات استفزازية لسلاح الجو الصيني داخل أو على حدود أجواء الجزيرة. تتمتع بكين بسادية في تأمل الحشود الروسية العسكرية على حدود أوكرانيا. تراقب باهتمام كيف يتطور ويتوتر ويُرتجل ردّ فعل الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا والناتو. في بال بكين فضول لمعرفة ما سيكون عليه العالم في حال قامت روسيا باجتياح أوكرانيا، ذلك أن في الأمر استكشافاً لما يمكن أن يكون العالم عليه في حال قامت الصين باجتياح تايوان.
العدو الواحد
يخوض الزعيمان الروسي والصين المعركة معا للدفاع عما يجدونه حقوقا تستحق هذا الدفاع. تدعم بكين مطالب موسكو بوقف توسّع حلف الناتو وتمدده نحو البلدان التي ما زالت روسيا تعتبرها فضاءها الأمني الاستراتيجي منذ روسيا القيصرية انتهاء بتلك البوتينية مرورا بالمرحلة السوفياتية. تدعم الصين مطالب موسكو بضمانات أمنية غربية يُراد في ثناياها الاعتراف لروسيا بسيادة إقليمية تطال بلدانا تعيد التاريخ إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي.
في دعمها المعلن لموسكو، تدفع بكين باتجاه تفريخ نظام دولي يقي الصين ما يهددها داخل ما تعتبره منطقتها الجيوستراتيجية. هي مناورة ترمي إلى وقف تحالف الغرب مع خصومها في جنوب شرق آسيا والضواحي. يعارض بوتين تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا، ويعارض تمدد المخالب العسكرية الغربية داخل بحر الصين، ويعترف للصين بقضيتها الأولى: تايوان ليست دولة مستقلة بل جزءاً من الصين ولبكين السيادة عليها.
بالمقابل تدرك واشنطن أن للأزمة الأوكرانية مع روسيا أبعاداً صينية مباشرة. ما بإمكانه أن يمثّل تنازلات لفلاديمير بوتين في موسكو لا يمكن إلا أن يؤسس لتراجع أمام شي جين بينغ في بكين. وما يمكن أن يكون رادعاً ضابطاً لطموحات روسيا سيبعث برسائل واضحة مباشرة بنفس الاتجاه صوب الصين.
توفّر الصين لروسيا مروحة من المواقف الداعمة في السياسة والعسكر والاقتصاد (عبر عقود الطاقة الطويلة الأمد مثلا). والهدف هو إرباك الموقف الأميركي الغربي ودفعه إلى مزيد من التذبذب والحيرة. واشنطن بالمقابل حريصة في حساباتها الصينية على إنتاج مواقف والتموضع وفق ما من شأنه أن يخدم، من خلال المعركة مع روسيا، ورشتها الاستراتيجية الأولى ضد الصين.
روسيا حليف الغرب؟
الصين، التي لم تتخذ موقفا داعما لاحتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا، ليست غافلة عن عقائد فكرية تروج غربا وكانت واضحة المعالم في عهد دونالد ترامب. تدعو تلك العقائد إلى أن تكون روسيا حليفا لا عدوا في صراع أميركا ضد الصين. في ذلك أن ترامب كان في مزاجه الشخصي أقرب إلى بوتين في موسكو من ميركيل في برلين أو حتى ماكرون في باريس ولا بأس في هذا السياق من هجاء ترودو في أوتاوا.
لم تعد تلك العقائد نافرة هذه الأيام لكنها تجد لها سوقا في أوروبا يفسّر ذلك التعدد الذي يشبه التشتت في مواقف دولها. صحيح أن قائد البحرية الألمانية الأميرال كاي أشيم شونباخ قدم استقالته إثر تصريحاته المثيرة للجدل والتي أحرجت برلين وأغضبت كييف، إلا أن في ما رآه من “حاجة إلى روسيا المسيحية في مواجهة الصين”، ما يعبّر عن مدرسة تفكير غربي تعرفها بكين كما يعرفها بوتين تماما.
لعامل الصيني قد لا يكون بعيدا عن ذلك التطوّر النوعي السريع الذي اعترى مواقف واشنطن وحلفائها حيال أزمة أوكرانيا. تخلّصت واشنطن سريعا من ذلّة لسان ارتكبها بايدن وأغضبت الرئيس الأوكراني فُهم منها تساهلا مع “غزو جزئي” لأوكرانيا. دفعت واشنطن بقوات إضافية نحو أوروبا وأقامت جسرا تسليحيا جويا مع أوكرانيا وكذلك فعلت بريطانيا ودول أخرى. تصلّبت مواقف الناتو في بروكسل. وأجمعت العواصم الأوروبية بحزم على رفض أي اختراق لحدود أوكرانيا. ولئن تختلف مواقف برلين وتنشط باريس على خط الحوار، فإن ذلك يتم تحت سقف رفض أي غزو روسي للأراضي الأوكرانية.
بوتين يسعى علنا لشلّ صلاحيات حلف الناتو وكبح اندفاعاته وبالنهاية وأد مبرر وجوده. الصين أيضا تمنّي النفس بقطع الطريق على “أوكوس” وما يشبهه من تمدد صوب “حدائقها”. هنا تصبح معركة أوكرانيا معركة وجود للنظام الدولي الذي قام على أنقاض الاتحاد السوفياتي، وهي دون مبالغة معركة صينية بامتياز.
أيا كانت أشكال المآلات التي ستنتهي لها أزمة أوكرانيا فإنها ستترك ندوبا داخل المشهد الدولي الكبير. سيصعب إغلاق الملف أيا كانت التسويات والصدامات ذلك أن في التناقض الأوكراني الروسي تناقض بين فكرتين لم يحسم الصراع بينهما كما تخيل فوكوياما الشهير. والحدث يهدد الليبرالية والفكرة اليمقراطية بعد أن خيل أنهما منظومة منتصرة. والحدث يغيدج تعويم حالة التعايش المر التي تذكر بالحرب البارجة حين كان العالم منقسما بين شرق وغرب.
قد لا يستطيع بوتين فكّ شيفرة الردّ الغربي على حملته الأوكرانية. واشنطن ولندن تؤكدان بشكل واضح جليّ لا لبس فيه وبالنيابة عن الحلف الغربي أن المنظومة الغربية لن تردّ عسكريا على أي اجتياح تقوم به روسيا لأوكرانيا. تروح واشنطن وحلفاؤها، وكما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، يتوعدون بـ “عقوبات مدمرة” ضد روسيا في حال قامت بهذا الاجتياح. يردد الغرب عبارة “اجتياح” وكأنها احتمال من عاديات السوابق الروسية، ما قد يغري بوتين لانتهاج الخيار من جديد خصوصا أن الغرب يعِدُه بانعدام أي تدخل عسكري.
مفارقة لافتة يمكن ملاحظتها في الكيفية التي تقارب بها الولايات المتحدة أزمة أوكرانيا مقارنة بتلك الخاصة بالأزمة مع إيران. الأزمة الأولى يتمّ التعامل معها بصفتها متعددة وشاملة الأطراف تقود واشنطن إدارة يومياتها. الأزمة الثانية، ولأسباب لا يمكن وصفها إلا بالخبيثة، يتمّ التعامل معها برعاية أميركية كاملة منذ عهد باراك أوباما بصفتها ملفا محدود الأطراف يُبقي العالم متفرجاً مراقبا لا حيلة لهم في الأمر.
لا تحشد الصين قوات تهدد تايوان على الرغم من مناورات استفزازية لسلاح الجو الصيني داخل أو على حدود أجواء الجزيرة. تتمتع بكين بسادية في تأمل الحشود الروسية العسكرية على حدود أوكرانيا. تراقب باهتمام كيف يتطور ويتوتر ويُرتجل ردّ فعل الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا والناتو. في بال بكين فضول لمعرفة ما سيكون عليه العالم في حال قامت روسيا باجتياح أوكرانيا، ذلك أن في الأمر استكشافاً لما يمكن أن يكون العالم عليه في حال قامت الصين باجتياح تايوان.
يتأمل الأوكرانيون بحسرة ذلك التردد الذي لم يعترِ الغرب في دمج دول البلطيق، يتأملون تلك اللحظة التاريخية التي جرى فيها الأمر أمام أعين موسكو بعجز وبدون أي اكتراث. يتأملون أيضا “وعد” الغرب لبوتين بعدم الرد العسكري على أي هجوم عسكري يقوم به ضد بلادهم. يتأملون أيضا وأيضا، وربما بيأس، بزوغ تسويات خبيثة قد تنضج بين موسكو والغرب على حسابهم ولصالح حلم أميركي بـ “تحييد” موسكو عن ذلك الصراع مع بكين. يحاولون أيضاً فك طلاسم تلك “الإيجابية” التي قال بوتين أن واشنطن أعربت عنها في ردها على مقترحاته الأمنية.
العدد 126 / أذار 2022