ثروة لبنان البحرية المكبّلة بالعقد والأسرار

بروفسور نسيم الخوري

كثيرة هي عقد التفاوض غير المباشر بين لبنان و”إسرائيل” في تقاسم الغاز والنفط المُتجدد بعد انقطاع، أهمّها كيفية الربط بين الترسيم البري بالبحري. يتأبّط لبنان حدوده البريّة المرسومة أساساً بينما يتأبّط الإسرائيلي مسنوداً بأميركا، سلسلة من التعديات والمساحات والإحتلالات التي جعلت من حدود جنوبي لبنان البرية نقطة رخوة لأطماع وأخطاء وإبهامات تنعكس عقداً في مفاوضات الترسيم البحري.

يتأرجح التفاوض بالمراوحة بين وجهتين حافلتين بالمطبّات المعقّدة، مقابل إشاعات خجولة لأجواء إيجابية مرسومة سلفاً لها علاقة بمناخات التطبيع الغامض مع أنّها ملغّمة بالشكوك والإتهامات المتبادلة المُبهمة في مستنقعات الإنقسامات اللبنانية الحزبية والطائفية الكثيرة المتفاقمة. أمامنا معادلة رياضية ثابتة هي أنّ كلّ متر يزيد أو ينقص عند إعادة ترسيم أو تصحيح الحدود البريّة يقابله حقوق وخسائر لا يمكن لأحد التفريط بها من ثروة لبنان النفطية والغازية الهائلة لئلاّ تقتله علامات الإستفهام والإتّهام .

1- أعلنت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة ( 17/12/1970) مباديء تنظيم إستثمار البحار والمحيطات بين دول العالم، بإعتبارها ملكاً مشتركاً للبشرية جمعاء، وليست سبباً للنزاعات والحروب. وبعد عقدٍ من المفاوضات المتقطّعة، أتّفق ممثلو  160 دولة على صيغة لقانون البحار أقرّته الأمم المتّحدة (30/4/1982) ووقّعه ممثّلو 159 دولة خلال 13 سنة (بين 10/11/1982 و 16/10/1995)، وأصبح نافذاً. أخذت الدولة الموقّعة، تبعاً للقانون، حقوقها لأن تُمارس سيادتها بما يتجاوز مياهها الإقليمية المتعارف عليها أساساً ب12 ميلاً إلى 200 ميل من خطوط الأساس التي منها يقاس عادةً عرض البحر الاقليمي، أي بما يعادل 370 كلم سُمّيت في القاموس الدولي ب” المنطقة الإقتصادية الخالصة”، وتعني المنطقة البحرية التي تمارس عليها كلّ دولة حقوقها الخاصة.

لم توقّع “إسرائيل” على المعاهدة، بينما وقّعها لبنان (بموجب القانون 295، 22/2/ 1994) ليصبح في عداد الدول ال 94 دولة من أصل 142 دولة سواحلية انضمّت وأعلنت مناطقها الإقتصادية الخالصة.

2- ليس في الإطر المرسومة للتفاوض بين لبنان والموفدين الأميركيين  إتّفاقاً بل تفاهمات حافلة بالأخذ والردّ ولا علاقة لها بترسيم الحدود مثل تفاهم نيسان أوالخط الأزرق الذي يدّعي الإسرائيلي بأنّها حدود جديدة يُبنى عليها، أو قرار مجلس الأمن 1701 الذي لا يلغي أو يغيّر أبداً منطوق القرار 425 في الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلّتها في لبنان. شرحت في العدد السابق بأنّ الحدود البريّة للبنان مع “اسرائيل” مرسومة ومثبّتة دوليّاً بالمحاضر والخرائط يمكنني التذكير بها بخمسة أمورٍ جوهرية:

أ- اتفاقية بوليه – نيوكمب التي رسمت الحدود البرية بين لبنان وفلسطين( 7/8/1923) وأودعت محاضرها وخرائطها دوليّاً(4/2/1924).

ب-  «اتفاقية الهدنة» التي أكدت الحدود البرية عينها (23/3/1949) بعد نشوب الحروب العربية مع “إسرائيل”.

ج- ربط قبول عضوية “إسرائيل” في الأمم المتّحدة بتعهدها إحترام إتّفاقيات الحدود المثبتة دوليّاً.

د- قانون البحار الذي لم توقّعه “إسرائيل” حتى الآنً.

ه- قرار مجلس الأمن 425 بضرورة الإنسحاب الشامل من لبنان.

3- ماذا حصل ويحصل؟

منذ حرب ال1967 وصولاً إلى حرب “إسرائيل” على لبنان في ال2006 مروراً بإجتياحها الأوّل للبنان حتّى الليطاني في 14 آذار 1987 ثمّ إجتياحها الثاني عام 1982 فانسحابها منه (24 أيار 2000)، حصلت متغيرات واعتداءات على الحدود البريّة إنعكست وتنعكس على جوهر المفاوضات غير المباشرة في الناقورة. هناك استحالة لإعادة ضم الترسيمين البحري والبري. يتمسّك لبنان بالترسيم البحري غير المرسّم حتّى ولو طال التفاوض وتحوّلت الملفات كلها إلى المراجع الدوليّة.

4- وقّع لبنان وقبرص (17/1/2007) إتّفاقاً حدّد المنطقتين الإقتصاديتين الخالصتين باعتماد خطّ الوسط الفاصل بينهما،وأورث الإتّفاق لبنان أخطاء ومسؤوليات خبيثة جمّة، لأنّ خطّ الوسط الفاصل يعتمد قانوناً بين الدول المتجاورة أو المتقابلة في المناطق الإقليمية للبحار، وما كان يجوز إعتماده أو قبوله في تحديد المناطق الإقتصادية الخالصة، كما حصل في اتفاق قبرص ولبنان المذكور. لماذا؟

لأنّ الحدود الفاصلة بينهما وصلت إلى مسافة لا تتعدّى ال130 كلم بينما يحق للبنان قانوناً الإستفادة من مسافة 370 كلم وفق النقاط المحدّدة على الإحداثيات من 1 إلى 6 وبعدما وقّعها الطرفان. تمّ هدر حقوق لبنان بصفته دولة قاريّة لها بالقانون مساحات إقتصادية بحرية تتجاوز تلك المختصّة بالجزيرة البحرية المقابلة أعني قبرص، بالإضافة إلى أنّه يحق للبنان إحتساب مساحته البحرية وفقاً لطول شاطئه المتعرّج لا وفقاً للخط البحري المستقيم الذي وافق عليه لبنان وأفقد اللبنانيين 15% من حقوقهم.

5- نصّت المادة 5 من الإتّفاق اللبناني القبرصي إبرامه حسب الأصول الدستورية ليسري مفعوله عند تبادل الدولتين وثائق الإبرام، لكنّ هذا الإتّفاق فقد قيمته بعدم تنفيذه والمصادقة عليه في البرلمان اللبناني. تمّ تلغيم الإتفاق في المادة 3 وحرفيتها:

“إذا دخل أي طرف من الطرفين اللبناني والقبرصي في مفاوضات لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الآخر والتشاور معه  قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الدولة الاخرى، إذا ما تعلّق التحديد بإحداثيات النقطتين 1 (النقطة الأولى من الخط  أي النقطة الثلاثية الأبعاد بين قبرص ولبنان وإسرائيل)والنقطة6.

أودع لبنان،الأمم المتحدة ( 19/10/2010) إحداثيات منطقته الاقتصادية الخالصة الممتدة من النقطة B1 في رأس الناقورة إلى النقطة 23.

6- في17/11/2010 سارعت قبرص و”إسرائيل” بتوقيع حدودهما للمنطقة الاقتصادية الخالصة وأودعانها الأمم المتحدة في25 /2/2011 واعتمدتا  النقطة (1) أساسًا للتحديد دون مراعاة الموقف اللبناني الذي اعتمد النقطة 23؛ واعتُبرت النقاط (1) و (6) الوارد ذكرها في الاتفاق مع قبرص نقطتين ثلاثيتين مؤقتتين. ثمّ أودعت إسرائيل الأمم المتحدة ( 12/7/2010 )لائحة الاحداثيات الجغرافية  للجزء الشمالي من المياه الاقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة مدّعية ملكيتها وقد اقتطعت بموجبها مساحة قدرها حوالى 860 كلم2 من المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان الذي تصل حصّته الفعلية إلى 23632 كلم2 لا 17500 كلم2 .الخلاصة ثروة لبنان هائلة لكنها مكبّلة بالعقد والأسرار.

العدد 126 / أذار 2022