لطالما تساءلت مقارناً لبنان بأيّ وطنٍ في العالم وقد صار في أسفل الدرج، باحثاً عن تلك الصورة القائمة والقاتمة في أذهان زعماء متجذرين بصراعاتهم واستبدادهم وخشيتهم وخصوصاً من مؤسسة الجيش لأنّ معظمهم استعاضوا عن وطنهم بمنابتهم فحرسوها أوطاناً بعدما خرجوا وتخرّجوا من أحزابهم ومؤسساتهم ومسلّحيهم والمشارب المتعددة الأهداف والصفات. وتعفّنت الأسئلة طويلاً دون إجاباتٍ أو تفكيرٍ بالتغيير:
1- كيف التخلّص من الحفاظ أو الإحتماء شكلاً ومضموناً سرّاً وعلناً بالسلطات الدينية والحزبية الطائفية المتثاقلة والعاجزة ولو عن صقل حجر يرفعونه في الجدران المتهالكة في بقايا لبناننا الصغير المنحدر من الكبير بعد مئة سنة ونيّف؟
2- كيف نفكّ مثلاً، أغلال بعض السلطات القضائية كمؤشّر عالمي في التغيير ،فنستولد إستقلالها الكامل ونخلّصها من الضغوط المزمنة التي بطلت في تخليص جائعٍ خائر سرق رغيفاً؟ ما هذا القفز فوق القوانين العذارى بنصوصها كلّها بما أجهض روح فصل السلطات وتعاونها وتوازنها منذ عقود، ونسف روح الديمقراطية المتلوّنة بدكتاتوريات الزعامات الشخصانية المتوارثة؟
خروجاً من السلبيات العامة، جاء الجواب على هذا السؤآل من النبطية في جنوبي لبنان قبل يومين. ضجّت به وسائل التواصل الإجتماعي فرحاً وتهليلاً وكأنّ لبنان قارب التخلّص من أزماته، بعدما أصدر أحمد مزهر قاضي الأمور المستعجلة قراراً أبطل بموجبه تعاميم مدرسية تُلزم أهالي الطلاّب بدفع أقساط أولادهم بالدولار الأميركي، بعد إطلاعه على طلب مُقدّم من أحد أولياء تلميذين في المدرسة الإنجيلية في النبطية يطلب فيه تجميد الأقساط المدرسية عن العام الدراسي المُقبل 2023- 2024. من يخلّص اللبنانيين من كوابيس الدولرة والجوع؟
3- أرأيتم أين أصبحنا وأين بات يقع لبنان؟
أجيال تتلاحق من الوزراء والبرلمانيين وأولادهم وأحفادهم وأزلامهم والإداريين الموثوقين بقصور الزعماء وبحاضرهم وأنشطتهم وتصريحاتهم النادرة ونبراتهم المتقمّصة لمجموعة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين. نعم أصابعهم في كلّ الزوايا والدوائر والجيوب وأدراج البيوت وقججها لسحب مدخراتهم البسيطة. مقيمون حتّى في إنجاح الطلاّب أو تسجيلهم وأقساط المدراس والجامعات وفوق كلّ القوانين الذي رمى بلبنان نحو القطاع الخاص وهم أصحابه ودمّر القطاعات العامة بما فيها الحياة الكريمة لجيوشهم الخاصة بقايا الميليشيات الحزبية العسكرية، على حساب مؤسة الجيش اللبناني الذي استند إلى قيادته الحكيمة ودعم بعض العواصم العربية والعالمية.
4- قد يريحني جدّاً التذكير هنا بإقتيادي مديراً لكليّة الإعلام مع عميدها الأديب المرحوم الدكتور ميشال عاصي نحو غرفة بلا نوافذ في مركزٍ لأحد الأحزاب لنجد نفسينا بعد ساعتين أمام وزيرٍ سابق غيّر جلده ومواقفه وقناعاته مرّات، يأمرنا بإنجاح 9 من الطلاّب المقاتلين الراسبين الذين ما فارقت المسدسات خواصرهم أو طاولات امتحانات النهائية في حزيران/ مايو من كلّ عام، وهم باتوا اليوم يحتلّون “المراكز العليا في الدولة العليّة”. رفضنا الإنصياع قطعاً ورسبوا وتمّ تهجيرنا وبعثرتنا، لكنّ الزمان والقدر والجيش كان أقوى إذ لا يدور الخطأً ويسيطر أبداً، فقد وجدت نفسي في جوار الغرفة/السجن عينها بعدما فُتحت فيها النوافذ ونعقد فيها منذ عقود إجتماعات أكاديمية إستشاريّة ومناقشات وطنيّة نظيفة وأبحاث ودراسات تصبّ كلّها في مسرى مركز دراسات الدفاع الوطني اللبناني.
إنّ تناول الجيش العمود الفقري للوطن بالمقاربات غير الموزونة والتي لا يستقيم ذكرها لا كتابةً ولا قولاً، تخلق توجّساً لدى الناس وتستدرج ذكريات ما زالت دماؤها، طريّةً في النفوس. تكاد المتاهات اللبنانيّة المتفاقمة تنسى بأنّ القوى العسكرية بزيّها الخاص هي من ثوابت السلطات الوطنية العامة الأوْلى والأساسيّة في حماية الأوطان وخصوصاً المتعثّرة المنهارة كما هو حال لبنان. إنّها المؤسّسة الموحّدة الجامعة لكلّ أبناء المجتمع خلافاً لكلّ مؤسسات الوطن، وهي الزيّ الأخضر المتأهّب للسهر على الأمن حيثما كان وأينما كان مقابل الأزياء الدينيّة القابضة تاريخيّاً عبر سلطات رجال الدين على نسغ الهياكل والطوائف والمذاهب والمراكز،
أطرح هذه الأسئلة وفي ذهني الإسكندر المقدوني تلميذ أرسطو الضابط المعروف ب”ذو القرنين”، لقد إختصر الفكر اليوناني مبشّراً به بلاد فارس والعالم. أطرحه وفي الذهن الضابط ايزنهاور رئيساً لأمريكا خارجاً ببلاده نحو العالم، وكان مع ضباطه الزارع الأول لبذور العولمة وصولاً إلى الأنترنت التي نتسلّى بها بعد 7 عقود من إخراجها من الدوائر الحافلة بأسرار الدول.قال أيزنهاور “أن أي رئيس لن يدرك مكانته، ولن يكتمل تاريخه إلاّ بإعلان نهجه العسكري في تطبيق القوانين وإشاعة الأفكار الديمقراطية في العالم”.
أين لبنان من هذا؟
خارج القانون وهم يمدّون أيديهم إلى جيوبك وعنقك وأنت متأهّب للنشيد الوطني.