لا يمكن للباحث في موضوع تحوّلاتُ النَّقدِ الأدبيِّ في الصفحات الثقافية أن يشتغل على هذه المسألة من دون الإلمام بجوانب النقد وكتابه عن طريق الوصف والتحليل العميقين، والنظر إلى الإشكال المرتبط بإبراز خصائص النقد الأدبي الذي يمارس داخل هذه الصفحات الثقافية وطرح سؤال وهو إلى أي حد أسهم في تطوير الأدب العربي؟ وهل يمكن أن يمثل مرجعًا بالنسبة إلى الدراسات الأدبية تمامًا مثلما كان الأمر في الستينيات؟ ولعل هذه الأسئلة تشكل دافعًا مهمًا في عمليات البحث والتقصي والتمحيص والوصف والدراسة والمقارنة والاستنتاج، بالإضافة إلى ذلك يلج الناقد في طبيعة الموضوع التي تفرض عليه أن يحدد مجموعة من المفاهيم التي تدخل في صميم البحث والاهتمام بهذا الموضوع، ومن بين هذه المفاهيم، نجد النقد الأدبي بوصفه أداة تحليلية يخضع بموجبها النص الأدبي على مستوى التلقي إلى الذوق في التقويم، وهذه الأمور تجعل هذا النقد يقترب من دائرة الانطباع، ويبتعد في الوقت نفسه عن النقد الأكاديمي بوصفه دراسة علمية تسعى إلى ضبط القواعد والآليات الجمالية التي يُبنى بوساطتها في قراءة النص الأدبي عن طريق المناهج النقدية.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن إغفال أعمال الناقد والمنظّر الأكاديمي رايموند ويليامز لتحديد طبيعة العلاقة بين الإعلام والثقافة في ظل الثورة الرقمية من خلال مجموعة من الأعمال المهمة التي لطالما ربطت بين الثقافة والإعلام وهي التي تسعى إلى تفكيك طبيعة العلاقة بينهما انطلاقًا من نظريات التحليل الثقافي. كذلك مفهوم التكنولوجيا ودور وسائل التواصل الاجتماعي بوصفه أساس النظر إلى المستقبل، وخصوصًا في ظل التحولات الهائلة التي خضع بموجبها الإعلام عمومًا إلى عمليات تطوير تكاد تتجدد باستمرار مع المنظورات الحداثية الساعية إلى جعل التفكير في العالم على نحو رقمي أولوية ضمن كل السياسات.
الإعلام الثقافي وبناء حركة إبداعية
إن تحديد المفاهيم النقدية والوعي بطبيعة تشكل النقد الصحافي الممارس من داخل الإعلام الثقافي يعد نقدًا يهدف إلى إضاءة الأعمال الأدبية والنقدية الصادرة حديثًا أو المتوجة بجوائز عربية أو عالمية. غير أن الملاحظ على مستوى هذا النقد هو غياب متخصصين يمتلكون القدرة على تقديم هذه الأعمال في ضوء هذا النقد على الرغم من سمات الذاتية والاختزالات العبثية وعدم الوعي بالحدود الأجناسية المشكلة لكل جنس أدبي على حدة. وهو ما يسائل دور الجامعة في تكوين صحافيين متخصصين في الإعلام الثقافي، واعتماد تكوينات في هذا المجال تحديدًا، وسبق أن تطرقنا إلى هذه الموضوع ونحن لا نقصد هنا التقليل من التكوينات العلمية التي تسعى إلى تكوين نقاد وأكاديميين، ولكن نتيجة لعديد من التحولات التي بات يشهدها الإعلام الثقافي واقتصاره على ثقافة الخفيف والتسطيح، وبناء صورة تقلل من الكتابات التي تنشر في الملاحق وهذا ما جعل بعض من الأكاديميين ينفرون من هذا النقد، علمًا أن النقد من داخل الإعلام الثقافي أسهم في بناء حركية ثقافية وإبداعية، وظهور الحداثة، وتطوير الأجناس الأدبية والتيارات الأدبية والتفاعل مع المناهج الغربية ومع الجماليات المجاورة في ستينيات القرن الماضي. ونرى بعض العواصم مثل المغرب وتونس والجزائر تفتح صفحاتها الثقافية للنقد الأدبي وتخصص صفحات عديدة وتنفتح في وجه الأسماء الجديدة التي انخرطت بدورها في قراءة الأدب العربي الحديث من منظورات عديدة من دون تغييب الشرطين: المعرفي والمنهجي هو ما يمكن أن يكون عاملًا سلبيا في بروز أسماء نقدية جديدة تواصل العمل المؤسس الذي بدأه نخبة من الأكاديميين والنقاد.
هذه الإشكالية تقود الباحثين إلى البحث في الوظائف التي حددها جاكبسون، ولاسيما وأن جانبًا مهمًا من الموضوع يتصل مباشرة بالإعلام ما دامت الغاية من النقد الأدبي من داخله هي تحقيق فعلي للتواصل والتفاعل، فنرى أنه من الضروري التوقف عند هذه الوظائف واختيار الوظيفة الثقافية أو ما يصطلح عليها بالوظيفة الشعرية التي يسمح بتبلور الفكر لدى القارئ من خلال الرسائل التي تحملها اللغة. فكيف يمكن أن ينهض هذا الإعلام الثقافيّ بدوره التنويريّ النقديّ من جهة، ويواكب متطلبّات الجمهور من جهة أخرى؟
التلقي المنتج
إن مثل هذه الأسئلة التي طرحناها تلح على المشتغل في النقد أن يبحث عن دور هذا النمط من الإعلام، ومن ثمة، التفكير في بعض المصطلحات النقدية المسعفة من قبيل “التلقي المنتج” الذي أبدعته المفكرة الألمانية إريكا فيشتر ليشته؛ فإذًا إن دور هذا النقد الأدبي الممارس من داخل الإعلام الثقافي أن يحقق التواصل مع القارئ، ويساعده في الإقبال على هذه الأعمال الأدبية وخصوصًا في ظل أزمة الأزمة التي تمثلت في إغلاق ملاحق ثقافية عدة خصوصًا كان لها الأثر البالغ في تشكيل الذائقة والوعي الجماليين في العالم العربي برمته.
وهنا تحضر في ذهننا أسئلة إضافية كثيرة منها:
إلى أيّ مدى يمكن لنا أن نؤطّر فكرة الإعلام الثّقافيّ في حدوده التّقليديّة، الّتي تنحصر في ربط جسور التّواصل بين النّصّ والقارئ العام والمتخصّص؟ وماذا عن إمكاناته في خلق وعي جماليّ يرتبط ببناء المسافة النّقديّة، وتشكيل وعي جديد ومفارق لما هو سائد داخل أنماط التّلقّي التّقليديّة للكتّاب الّذين يكتبون بخلفيّات تتمايز في بعضها من الانطباعيّة إلى الأكاديميّة لدراسة أشكال التّحوّلات في النّقد الأدبي، وهل التّحوّل محكوم بفكر الكاتب أو ذوق المتلقّي؟ وإلى أيّ مدى يمكن للمؤسّسات الرّسميّة أن تؤدي دورًا فعّالًا في الحدّ من هذه التّحوّلات؟
النقد وتفكيك المقالات
من جهة أخرى إن من يريد تفكيك بنيات النقد الأدبي في مقالات يحتاج إلى الاستعانة بمناهج نقدية تتيح للباحث أن يتعامل مع النصوص النقدية من موقع نقدي في سياق ممارسة ما يسمى بـ”نقد النقد”، وبالتالي تتكامل مجموعة من المناهج النقدية كالمنهج الاجتماعي والتاريخي والثقافي والوصفي في بناء الأطر والتصورات والخلاصات.
وتأتي الاهتمامات النقدية لطرح الرؤى التي تخص علاقة النقد الأدبي بالإعلام الثقافي وتحولاته وبعض الظواهر الجديدة من قبيل سطوة الجوائز على ما يكتب من نقد أدبي داخل الملاحق الثقافية.
ويمكن دراسة هذه التحولات من خلال أصعدة عدة منها: إنتاج النّقد الأدبيّ في الصّفحات الثّقافيّة”، “توجّهات الوسيلة الإعلاميّة” وخصوصًا في الفترة الراهنة التي تجاوز فيها النقد الأدبي التطبيقات الآلية التي عملت على استيراد المناهج وإخضاع قوالبها الجاهزة على النص الأدبي من دون مراعاة خصوصية الأجناس الأدبية.
الوعي الحداثي وتجدد الرؤى
إن الوعي الحداثي الذي تفرضه المقالات التي يتم اختيارها والبحث فيها ودراستها من قبل الناقد كموضوع للنقد من جهة، يحدد مرجعية هذا الأخير في نقد النقد، مع ارتباط البحث بالضوابط الأكاديمية، ما يجعل الحديث عن سياق التفاعلات التي أسهمت فيها الحداثة أمرًا منهجيًا يتيح الوقوف على بعض التجارب الحداثية التي سمحت بتطور التيارات الأدبية والفكرية من داخل الإعلامي الثقافي، وما تشكل في ضوئه من حركية نقدية مهمة في لبنان تمثل في مجلتي “شعر” و”مواقف”. ومن هذا الأفق يحضر تحديد مفهومين دقيقين يعمل الباحث على توظيفهما في سياقات عدة ويطرح أكثر من علامة استفهام، وهنا من الضروري تحديد هذن المفهومين وهما: مفهوم الإعلام بوصفه وسيلة تسعى إلى تبادل الخبرات والرؤى والأفكار والأخبار بوساطة تقنيات تتطور بسرعة كبيرة، ومفهوم الثقافة بوصفه مصطلحًا عصيًا عن التحديد نتيجة اختلاف المرجعيات والجغرافيات والتمثلات والوسائط.