الشاعرة الباكستانيّة بروين شاكر: عابرة للقلوب

تتلاقى الأمم بقصائد شعرائها، وقد استطاعت الشاعرة الباكستانيّة بروين شاكر؛ بسنواتها الأربعين أن تصنع مجدها الخاص، وأن تكون امرأة مؤثّرة في مجتمعها، وتنقل لنا -بجهود المترجمين للعربيّة- أحاسيسها وعواطفها الإنسانيّة بفيض نتاجها الشعريّ ومرونتها اللغويّة العابرة للاختلافات.

بروين شاكر وابنها

نبذة من حياتها

وُلدت بروين شاكر (Parveen Shakir )  (1952-1994) في كراتشي في باكستان، وهي من عائلة مثقفة، كاتبة وشاعرة وأمًّا عاملة.  تزوجت من الطبيب الباكستاني نصير علي، ورُزقت منه بطفل ٍواحد، لم يدم هذا الزواج طويلا، وانتهى بالطلاق.

كتبت الشعر والقصائد الحرّة وكان لها في الصحافة مشاركات باسم “بينا”، درست في كلية كينيدي في جامعة هارفاد، ونالت ثلاث شهادات عليا في الأدب الإنكليزي وفي اختصاص اللغويات وفي إدارة البنوك .

 عملت في بداياتها في مجال التدريس؛ ولتسع سنوات. التحقت بعد ذلك بالخدمة المدنيّة مع الحكومة الباكستانيّة في دائرة الجمارك، وقد نالت ترقية في تعيينها سكرتيرًا ثانيًا للمجلس المركزي للإيرادات، سافرت في وقت لاحق إلى أميركا وبعد عودتها 1993 استقالت من منصبها السابق وتولّت منصب مديرة قسم اللغة العامة.

كتبت الشعر باللغة الإنكليزية في سن مبكرة وأصدرت مجموعتها الأولى تحت عنوان “العبق” 1976. تناول شعرها وضع المرأة في باكستان، وقد كانت نشطة في الجمعيات الحقوقيّة النسائية، ويُذكر أنها استعملت مفردة “فتاة” للتعبير عن هواجس المرأة ومشاعرها في الحب وهو ما يُشبه أنّها تحدثت بلسان أنثوي في ظل خطاب ذكوريّ مهيمن حتى في الشعر والحب. استخدمت صورًا بلاغيّة غير متداولة في الأدب الأوردي.

تُعدّ شاكر، بحسب ما يقوله المترجم نزار سرطاوي، والذي ترجم الكثير من قصائدها وتحدث في أكثر من مكان عن حياتها، من أهم شاعرات اللغة الأوردية، وتعدّ رائدة من رائدات الحركة النسائية الباكستانية. ومن المدافعات النشطات عن حقوق المرأة.

بجسد ثابت ويدان ترتفعان كالصلاة، ووجه صافي الملامح، بقليل من الرتوش، ولباس تقليديّ محتشم وشعرٍ مسدول على طبيعته، نقع على مقاطع مصوّرة لبروين شاكر وهي تُلقي شعرها أمام جمهور مُصغٍ وصاخب وهو يردّد معها قفلات أبياتها بتماهٍ مثير للإعجاب.

 صدرت لها مجموعة شعرية أولى بعنوان “العبق” 1976 التي نالت عنها جائزة آدمجي. وقد نالت المجموعة إعجاب القراء. ثم صدرت لها مجموعات: آذريون المستنقعات 1980، مناجاة 1990، إنكار 1990، حافة المرآة.

صدرت مجموعاتها الشعريّة الكاملة في مجلد بعنوان “البدر” نشر بعد رحيلها في العام 1994. صدر لها كتاب “زاوية الرؤية” يضُم مقالاتها الصحافية. وقد نالت جوائز تقدير لجودة شعرها في بلدها باكستان. وكذلك نالت جائزة مفخرة الآداء وهي من أرفع الجوائز في باكستان.

توفيت في العام  1994 في حادث سير، وهي في طريقها إلى العمل، وقد سمي الشارع الذي حصل فيه الحادث باسمها، وأسست صديقتها “بروين قادر آغا” مؤسسة ائتمانيّة تحمل اسمها وتُعنى بتنظيم احتفال سنوي، تُقدّم خلاله جائزة مخصّصة للشعر. وفي العام 2013 أصدر البريد الباكستاني طابعا تذكاريًا تخليدًا لذكرى وفاتها.

تحدّت تقاليد زمنها

كتبت الصحافي مهدي عبدالله، (في صحيفة الوسط، العدد 4354، أغسطس\ آب العام 2014.) تحت عنوان” الشاعرة الباكستانية بروين شاكر.. فشلوا في إطفاء نارها”: “كانت أشعارها مبنيّة حول تجربتها الخاصة في الحياة كامرأة شرقية مطوّقة باستبداد العادات والتقاليد وتراقب البيئة المحيطة المليئة بالظلم والنفاق .”

بروين شاكر وابنها

نفهم أن الوضع في باكستان لم يكن يسمح للمرأة بالظهور العلنيّ والشهرة، وكان الاستماع لصوت العقل جريمة في عائلتها، ويذكر الكاتب في مقطع نقله عن مقدمة إحدى كتبها، أنّها رفضت ارتداء غمامة على عينيها كما التقليد السائد وقد عانت لأنها أرادت أن ترى بوضوح. كانت كتاباتها تحليق خارج السرب، وتماه مع طموح إنسانيّ حر. صورت واقع المرأة بحلوّه ومره، عبّرت عن المشاعر الأنثوية وقضايا العاطفة والنفس، واحتجت على الظلم اللاحق ببناتِ جنسها. ونجدها تقول في قصيدة “قد كان مقدرا”:

“ثم شتم زيدٌ بكرًا قائلا: أمك معروفة أكثر من أبيك!

أي بُنيّ

هذه اللعنة هي قدرك أيضًا

في العالم الأبوي عليك أنت أيضًا ذات يوم

أن تدفع ثمنًا باهظًا

لأنك معروف من جهة أمك

رغم أن لون عينيك واتساع جبهتك

وكل الانحناءات التي تصنعها شفتاك

تأتي من الرجل الي شاركني في ولادتك،

ومع ذلك فهو وحده الذي يمنحك الأهمية

في أعين واضعي القانون.”

ثم تقول أنه لها الحقّ بأن يُعترف بجميلها، وأن توفى حقّها من الحبّ والاحترام وهي الشجرة التي ظللته بدفئها ورعايتها:

” لكن الشجرة التي رعتك لثلاث مواسم

لها أن تطالب بموسم واحد ليكون لها” .

كانت شاكر، مثقفّة ناشطة استطاعت أن تلتقط إشارات ذلك الزمن، وأن تُسطّر أوجه النفاق فيه بقالب نقديّ ساخر، لم تُراهن على أنوثتها بل على صلابتها وقوّة الطرح، بجملٍ شعريّة بسيطة، غير معقّدة، واستعارات موحيّة وقويّة الدلالة.

بروين شاكر 

تقول في مقطع من قصيدة  بعنوان “صلصة الطماطم” والترجمة لنزار سرطاوي:

“في بلادنا،

المرأة التي تكتب الشعر،

يُنظر إليها على أنها سمكة غريبة.

كل رجل يَفترض

هو الموضوع الذي تتحدث عنه

في قصائدها!

ولأن الأمر ليس كذلك،

فإنه يمسي عدوًا لها.”

انتقدت مجتمعها ومثقفي العصر الذين يجاملون النساء اللواتي يدخلن المجال الثقافي، سخرت من هؤلاء الذين يتحلقون حول “سارة” نموذج المثقّفة البسيطة التي تسعى للشهرة، فتقول في القصيدة نفسها:

 ” كان المثقفون العاطلون عن العمل في المدينة

 يتجمهرون حولها.

حتى أولئك الذين لديهم وظائف،

كانوا يتركون ملفاتهم النتنة وزوجاتهم المرهقات

 ليأتوا إليها،

تاركين وراءهم فاتورة الكهرباء،

ورسوم أطفالهم المدرسية وأدوية زوجاتهم.

فهذه هي هموم البشر الفانين الأصغر شأنًا.”

ساحرة العالم

وفي مبحث بعنوان “المظاهر الرومنطيقية في شعر بروين شاكر” يقول عمر جان باله (باحث في الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة كشمير، العدد 18ديسمبر 2021) استطاعت بروين شاكر أن تسحر العالم بلهجتها وأسلوبها وندرة فكرها وتعبير عاطفتها وتصوير مشاعرها وأن تصف حياة المرأة والمشاكل الجنسية والاضطرابات العائلية والنوازل الفردية، والضغوط الاجتماعية والمسارات الشائكة للحب بطريقة فريدة في شعرها.  هي الشاعرة التي استخدمت لأول مرة ضمير المتكلم في الشعر الأردي لكشف القضايا الخاصة بالمرأة. “

كان شعرها كثيفًا غنيا بالاستعارات، كتبت الكثير عن الحبّ والغزل، وصوّرت العلاقات العاطفيّة، وجسّدت في شعرها معاني الخذلان والخيبة، ففي قصيدة “خط ساخن” تصور الحب والعلاقة العاطفية من الاشتعال حتى البرود:

“اليوم ليس بيننا أحد

بحركة بسيطة من يده

يمكنه أن يلمسني

لكن مواسم كثيرة جاءت ومضت

… ليس من العسير أن أصل إليه

لكن الحقيقة هي أنّ

صوته لا حرارة فيه

ونغمته ليست هي نفسها،

ومع أنه يغني اللحن نفسه

فإنّ قلبه بارد..”

 استخدمت صورا شعريّة لافتة، ومثيرة للعجب، شعرها المترجم ينتقل إلينا ويمسّنا من الداخل، كتبت الكثير من القصائد القصيرة التي توجز الكثير من الشعور، قصائد عميقة تحوي إسقاطات ورسائل قيّمة وطريفة. وهناك من يماهي بين حكايتها وحكاية الشاعرة الإيرانية “فروغ فرخزاد” ،والتي أيضًا عانت ما عانته في مجتمع يضيّق على المرأة حريّتها، حيث تُعامل بدونية مهما اعتلت من مناصب، مجتمع لا يسمح للمرأة أن تنافس الرجل، مجتمع يرى في تفوق المرأة عار، كما تُبيّن في قصيدة “قد كان مقدّرًا”.

وقد حرصت في بعض قصائدها على الاستشهاد بشخصيات نسائيّة معروفة، وكذلك بشخصيات شعراء معروفين مثل بابلو نيرودا وكافكا، وكذلك بشخصيات روائيّة، كشخصيّة الدكتور فاوست، وهو شخصية من مسرحية الشاعر الألماني غوتيه، حكاية طبيب باع روحه للشيطان، تقول:

“على نحوٍ ما،

نحن جميعًا الدكتور فاوست

واحدٌ بسبب جنونه،

وآخرُ لا حول له ولا قوّة،

نتيجة للابتزاز يُقايضُ بروحه،

واحدٌ يرهن عينيه لتاجر الأحلام..

وآخرُ يرهنُ عقله ضمانًا…”

أخذت شعر النثر إلى عالم جديد، كما يذكر الباحث عمر جان باله، واستعملت فيه اللغة العاديّة بدلا من اللغة الشعريّة، وشكّلت إلهامًا للكثير من الشعراء، استخدمت الصيغة الأنثوية لضمير المتكلم التي لم يكن استعمالها شائعًا في الشعر. ويُشير الباحث إلى مظاهر الرومنسيّة في شعرها عن المرأة والطبيعة، وعن الحب.

نظمت قصائدها المفعمة بالمشاعر والعواطف والمواقف الرومنسية ذات النغم الكئيب والجراح الموجعة. عبّرت عن حسها الوطني وحبها لبلدها وتعلّقها بأرضها وأهلها. وعنت بالقضايا السياسية والوطنية. وكان الحب محور شعرها تقول: “إن فلسفة الحب هي أساس شعري. وفي هذا أرى المثلث الأبدي الإنسان والخالق الكون.”

وصفت عواطف المرأة أحوال قلبها وغنّت المشاعر المشتعلة، نقلت تجربتها ووصفت عدم التفات الحبيب وقلة إخلاصه بصدق الشعور وعمقه.

“النظرات نظراته، والمحيا محيتي،

وبالهدوء كله قصّ الحكايا

عيناه هما اللتان أطّرتا الأشعار

وكتبتا مثلها على وجهي

ونفسه المفعم كان يشير

عندما كانت اللحظات الحيّة تتملكنا..

وذراعاه رغم أنهما بعيدتان عني، تحملاني وتمضا بي..”

تركزت أغلب أشعارها حول الحبّ، النسوية، والقضايا الاجتماعية، تحدثت عن جمال الطبيعة، واستخدمت جملا مبدعة التصوير:  “ضحكات المطر تدوي بين الأشجار ” مازجت بين النظم التقليدي والنظم الحديث في غزلياتها، وكان شاعرة بحقّ، لذلك يصلنا شعرها اليوم عابرا القلوب، جسرًا لامتداد الثقافة والمعرفة بين الشعوب.

وختامًا مع قصيدة بعنوان “نصيحة” تقول:

“إذا ما راحت فجواتٌ من الصمت

تظهر أثناء الحديث

إذا ما خلدت الكلمات المنطوقة إلى الصمت

إذًا يا صديقي الفصيح

دعنا نصغي إصغاءً تامًا لهذا الصمت.”