من جمهوريّة أفلاطون إلى آراء أهل المدينة الفاضلة، هل استطاعت الفلسفة أن تعدُنا بعالم أكثر فضيلة؟ عالم يسود فيه العدل وتنعم فيه الأنفس بهناءة العيش، حيث ينال كلّ امرء استحقاقه، فلا يتهافت التافهون في استعراضاتهم، ولا يعتلي المنابر البطشة والظلمة، ولا يجد المظلومين استكانة وهم في انتظار خطاب إصلاح، أو قرارٍ بفتح معبرٍ من هنا، أو إيقاف احتلال من هناك؟ّ!
وإذا كان أفلاطون في جمهوريّته لاذ بعالم المُثل، وحاور مجتمعًا لا يُشبهنا، ولكنه وضع مبادئ وأُسس منها كانت انطلاقة الفلسفة الإسلاميّة العربيّة بشكل عام، في عصرٍ ازدهرت فيه الترجمة والنقل، وحدثت استفاقة العرب وانفتاحهم على الآخر الأعجميّ، بثقافته وفكره، فكان أن لاذ الآخر ببلاد العُرب مأمنًا، وهذا الآخر الذي نقصده بالطبع ليس هاربًا من قانون دوليّ وليس قاصد شهرة قرّر أن يعرض انحلاله علينا فوقعنا في نقد هفواته، بل طالب علم ومعرفة نال وفاضَ.
فكانت الحضارة مكوّنًا إنسانيًا ساهم فيها كل ذي علم بعلمه، وكانت بغداد عاصمة الخلافة الإسلاميّة حينها مقصد هؤلاء فكان فيها العلماء والفلاسفة والمترجمين والأدباء.. وفيها وجد الفارابي القادم من مدينة فاراب في آسيا الوسطى دار علم ومعرفة، وعلى أيدي أساتذتها غاص في بحور الفلسفة، فكان فيلسوف عصره والمعلم الثاني، قبل أن يسود الاضطراب في أركان الدولة ويحكم بغداد من لا اهل للحكم في عصر تفكّك الدولة العبّاسيّة وظهور الدويلات، فيقصد حلب في سوريا لائذًا بأمير الدولة الحمدانيّة.
الفارابي، المعلّم الثاني
محمد بن طرخان بن أوزلغ أبو نصر الفارابي (874م- 950م)، الملقّب بالمعلّم الثاني “أرسطو العرب والمسلمين.” نشأ الفارابي نشأة إسلاميّة وكان باطنيّا يميل للمتصوّفة. تقول المصادر أنه وُلد في مدينة فاراب، وقد اختلف الدارسون في تحديد موقعها في آسيا الوسطى فمنهم قائل أنّها فاراب الواقعة في إقليم تركستان (كازخستان حاليا)، وهناك من يقول أنّ فاراب مدينة تركية، وهناك من قال أنّه فارسي الأصل، وأنّ فاراب هي مدينة فارسية.
كان الفارابي نابغة زمنه، وارتحل بين البلدان طالبًا للمعرفة ومجدًّا في تحصيلها، أتقن علوم عصره كلّها من منطق ورياضيات وفلك وطبيعيّات وألمّ بالعلوم الطبيّة وأتقن لغات كثيرة منها الفارسيّة والتركية والعربيّة. قدم إلى بغداد وقرأ فيها العلم الحكميّ على يد “يوحنا بن حيلان”، حيث تمكّن من شرح الكتب المنطقيّة، أكمل دراسة الفقه والمنطق والعلوم الفلسفيّة على يد ” أبي بشر متّى بن يونس” وهو من أشهر علماء بغداد. كما كان موسيقارًا وعالما موسيقيًّا ويُعزى إليه اختراع القانون. وقد روى ابن خلكان حادثة تظهر براعته في الموسيقى. وهي أنه كان في مجلس لسيف الدولة، وتذهب القصة إلى أن أخرج عيدان وركّبها، ثم لعب بها فضحك منها كلّ من كان في المجلس، ثم ضربها ضربًا آخر فأبكاهم، ثمّ فكّها وركّبها وضربها ضربًا آخر فنام كلّ من في المجلس..
مع اضطراب الأوضاع السياسيّة في بغداد، رحل إلى سوريا ونزل في دار سيف الدولة الحمداني أمير الدولة الحمدانيّة في حلب، الذي عرف قدره وأكرمه، وكان الفارابي زاهدًا فلم يقبل إلّا بالقليل من المال الذي خصّصه له سيف الدولة كمرتب يوميّ. ارتحل الفارابي في دمشق ودُفن في مقبرة الباب الصغير. (المعلومات بتصرّف مأخوذة من كتاب: الوافي في تاريخ الفلسفة العربيّة، عبده الحلو، دار الفكر اللبناني، ط1 1995).
كان الفارابي فيلسوفًا زاهدًا لم يتزوّج ولم يسع وراء منصب وإن دانت له المناصب، آمن بمبادئ فلسفته النظريّة وحاول أن يطبّقها في حياته العمليّة، فأهمل الاعتناء بمظهره الخارجيّ، وتزيّا بزيّ المتصوّفين، وكان تصوّفه عقليّا يدّعي الاستغناء عن الشريعة، ومن ذلك رفضه عدد من معاصريه. كان الرجل يميل إلى العزلة ويقضي أوقاته في دمشق في البساتين وعلى ضفاف المياه حيث يؤلف بحوثه ويقصده تلامذته ومساعديه.
وضع الفارابي العديد من الرسائل البحثيّة والكتب منها الشروح ومنها التصانيف في الكثير من العلوم، وأهم شروحه التي وضعها في الفلسفة هي عن أرسطو وأفلاطون وفرفوريوس الصوريّ، وبطليموس، والإسكندر الأفروديسيّ.

وكان كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، خلاصة فكره ونظريّته الفلسفيّة الخاصة، ورؤيته للخلاص من الفساد وإصلاح العالم.
فلسفة الفارابي
لم يكن الفارابي ناقلًا للآراء الفلسفيّة بل كان مختبرًا لها وملمًا بأبعادها: ” لا يجوز وجود النفس قبل البدن كما يقول أفلاطون ولا يجوز انتقال النفس من جسد إلى جسد كما يقول التناسخيّون”.
والنفوس عند الفارابي تنقسم إلى ثلاث فئات: العالمة الفاضلة (نفوس أهل المدينة الفاضلة، تهذبت بالفلسفة، إذا تخلت عن الجسد صارت في سعادة كاملة وعلى اتصال أبدي بالعقل الفعال). العالمة الشريرة ( نفوس أهل المدينة الفاسقة، ترقت إلى عالم العقل المستفاد لكنها أشاحت عن العالم العلوي وانغمست في الشهوة، فهي خالدة لأنها عالمة ولكنها خالدة في الشقاء لكونها شريرة). الجاهلة لا تتصف بفضيلة ولا برذيلة (بقيت في صورة مادة ولم ترق إلى مرتبة العقل المستفاد، فإذا انحل الجسد انحلت معه وصارت إلى العدم).
وعن علاقته بالدين من المرجّح أنّ الفارابي لم يرضِ الدين في أمور عديدة منها: اعتقاده أنّ النبوّة ليست اصطفاء من الله بمقدار ما هي ظاهرة طبيعيّة ترتبط بالنظام الفلكيّ العام وتكون لكلّ إنسان تحققت فيه شروط معيّنة. ورأى أنّ الثواب والعقاب للنفوس بعد الموت هما عقليان وروحيان، وأنّ شقاء النفس وسعادتها هو نتيجة أعمالها.
آمن الفارابي بنظريّة الفيض الإلهي، التي أخذها عن أفلاطون، وأكّد بأنّها تفسّر وجود العالم عن الله من غير أن يكون لله غاية، كما أنّها تفسر صدور الكثرة عن الوحدة والمادة عن غير المادة..
مدينة الفارابي الفاضلة، الإصلاح المُتخيّل
يمثّل كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة تلخيصًا واضحًا لفلسفة الفارابي بشقّيها النظريّ والعلمي. بيّن فيه آراء أهل المدينة الفاضلة في كلّ علمٍ من الإلهيّات وانتهاء إلى السياسة.
في المدينة الفاضلة يتحدث الفارابي عن عالمٍ متخيّل قوامه الفضيلة. ويشير إلى المدن المضادة لها كالمدينة الجاهلة والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدّلة ثم المدينة الضالة؛ ويذكر الحديث عن المدينة الضروريّة وهي التي يقتصر سعيّ أهلها على الضروريات من أسباب الحياة، ويغيب عنها الأسئلة الوجوديّة وتسود السذاجة في معاملاتهم! فكم تشبه مدننا، وحياتنا في هذا العالم العربيّ المقطّع الأوصال والذي تحيط به المكائد والفتن؟!
ويطرح الفارابي في جملة طروحاته الإصلاحيّة، في زمن كثُر فيه الفساد واتّباع الشهوات وعمّ الجهل بين العامة؛ صفات الحاكم الذي عليه أن يحكم في المدينة الفاضلة، ويضمّن به خصال وصفات ترقى به إلى عالم الملائكة، ثم في حال لم تتوفر فيه جميع الصفات فلابأس أن تكون موجودة عند أشخاص أُخر يشاركون في الحكم على أن تكون الولاية للأرجح عقلًا، والفارابي في مدينته انطلق من فلسفته وعلمه بأحوال العالم حوله وفساد الطبيعة البشرية، ولذا رأى بأنّ السعادة الحقيقيّة تكمن في بلوغ الكمال وتحصيل العلوم وهي أعظم ما يمكن أن يناله الإنسان.
وضع الفارابي قيمة التعاون في رأس الضرورة الاجتماعيّة: “إنّها المدينة التي يُقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تُنال بها السعادة في الحقيقة”
” كل واحد من الناس مفطور على أنّه محتاج في قوامه، وفي ن يبلغ فضل كمالاته..” متأثرا بفلسفة أرسطو على أن الإنسان مدنيّ بطبعه.. والحاجة للآخرين متبادلة، رأى أنّ كمال الإصلاح أن يتعاون الناس على تحقيق الإنجاز وليس بالتفرّد والتغطرس.
شبّه المدينة الفاضلة بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على صلاح وتمام حياة الكائن الحي. وكما أنّ أعضاء البدن تتفاضل في الأهميّة كذلك ” المدينة أجزاؤها مختلفة الفطر، متفاضلة الهيئات وفيها إنسان هو رئيس وأٌخر تقرب مراتبهم من الرئيس.”
والمعضلة في كلام الفارابي أن الرئيس هنا لا أحد يختاره بل يفرض حضوره ويختار من هم دونه ويضعهم في مراتبهم! فهو “أكمل أجزاء المدينة في ما يخصّه”..
“ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أيّ إنسان اتّفق. لأنّ الرئاسة إنّما تكون بشيئين أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدًا لها والثاني بالهيئة والملكة الإراديّة”.
ولهذا الرئيس خصال عدّها في اثنتيْ عشرةَ خصلة، منها استعدادات فطريّة تولد مع الإنسان ومنها خصال يكتسبها الإنسان بعد أن يكبر بالهيئة والملكة الإراديّة.
“فهذا هو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلا وهو الإمام رئيس الأمة الفاضلة “، ومن صفاته: أن يكون محبًا للتعلم والاستفادة، مترفعًا عن الشهوات، ليس مسرفًا في طلب اللذة الحسيّة، محبًّا للصدق مبغضًا للكذب، محبًا للكرامة، زاهدّا بالدنيا وزينتها، عادلاً مبغضًا للجور والظلم. قوي العزيمة شجاعاً يعرف طريق الحق والعدالة.
وفي حديثه عن المدن المضادة للمدينة الفاضلة يرى أنّ “المدن الجاهلة والضالة إنما تحدث متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة ومنها: ” تنازع البقاء (كأنّه طُبع على ألّا يكون في العالم غيره”، وهو ما يذكرنا بحكّام اليوم الذين استبدوا بالحكم تحت ظلال الديمقراطيّة والحريّة، فهؤلاء ممن قال الفاربي عنهم: ” قد رأوا أنّ المدن ينبغي أن تكون متغالبة متهارجة لا مراتب فيها ولا نظام.. وإنّ الإنسان الأقهر لما يناويه هو الأسعد..” يحل الصراع محل التعاون وإن كان هناك اجتماعا فيكون أحدهما القاهر والآخر مقهورًا..
كان الفارابي متأثرًا بواقع عصره وبيئته، وكان يرى أن قيام رئيس فاضل هو الخلاص، وتدليلًا على عقيدته الإسلاميّة الإثني عشريّة التي تقول بظهور الإمام المخلّص الذي سيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، وقد سمى رئيسه إمامًا في أكثر من موضع في الكتاب. على الرغم من أعجميّته إلّا أنه أعطى العربية والمجتمع العربيّ الكثير من أفكاره الفلسفيّة وتجاوز عرقيته إلى الانفتاح على المعمورة بأسرها.
مدينة لا تصلح إلّا في مخيّلة فيلسوفها
كان الفارابي موسعًا في تأملاته الافتراضيّة الفلسفيّة والأخلاقيّة. جرّد الفارابي في مدينته الفاضلة الإنسان من عاطفيته وغرائزه فجعله عقلًا وأضاف عليه صفة الديمومة في الصفات الفاضلة من القناعة والإخلاص، وهو ما يستحيل بشريًا.
رأى الفاربي أنّ الرئيس عليه ان يكون كاملًا منزهًا عن الميول الإنسانيًة من طمع وغريزة وجعل صلاح المدينة من صلاح رئيسها وليس العكس، تناسى الفارابي وجود الحدود والفواصل الزمنيّة والمكانية بين الشعوب، فالمصالح ليست واحدة.
يقول عنه دي بور في كتاب تاريخ الفلسفة في الإسلام: “كان الفارابي يعيش في عالم العقل ابتغاء للخلود، وكان ملكًا في عالمه هذا، أمّا من حيث متاع الدنيا فكان صعلوكًا.. ولم يجعل بين تعاليمه في الأخلاق والسياسة مكانا لأمور الدنيا أو للجهاد..”
وعلى الرغم أن مدينة الفارابي الفاضلة لا تصلح إلا في مخيّلة فيلسوفها إلّا أنّه وضع خطّة إصلاحيّة قد يأتي زمنها، وكان علّامة بارزًا في مختلف صنوف العلم والمعرفة وامتدادًا موسعًا تجاوزت مؤلفاته الزمان والمكان فكان عالميًا ومُمتدًّا.