تونس بين فكي التخلف عن السداد أو معاودة التفاوض مع صندوق الدولي

* تونس ستسدد أربعة مليارات دولار من الديون الخارجية في 2024

* قرر صندوق النقد الدولي إدراج تونس ضمن قائمة سلبية

* اقتراض الحكومة من البنك المركزي من شأنه أن يبقي التضخم مرتفعاً

لا تبدو الأوضاع جيدة في تونس الخضراء، بل على العكس فإن الصورة شبه قاتمة في ظل أزمة اقتصادية حادة لم تدفع الرئيس التونسي الى التراجع عن تشبثه بـ”شروطه” للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.

منذ عام 2011، كانت تونس تتجه نحو أزمة اقتصادية كلية تتمثل في عجز كبير، وتقلص الحيز المالي، ومفاوضات صعبة مع صندوق النقد الدولي. وفي هذا العام الانتخابي، يواجه صناع السياسات مخاطر كبيرة: فالتكيف الاقتصادي الصعب يهدد بحدوث أزمة اجتماعية وسياسية، ولكن بدون تصحيح، تواجه البلاد انهياراً اقتصادياً في المستقبل.

ويعتبر توصل تونس الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أمراً جوهرياً، فمن دون قرض المؤسسة المالية العالمية، سوف تزداد احتمالية تخلف تونس عن سداد ديونها في العام 2024 او العام 2025، وهو بدوره سوف يفاقم خطر عدم الاستقرار الداخلي الهش أصلاً.

تونس تتجه نحو أزمة اقتصادية كلية إذا لم تجد حلا قريباً لديونها

كل المؤشرات تشير إلى أن المخاطر آخذة في الارتفاع، في وقت يدور الخلاف حول التوقيت ونوع البرنامج الذي تحتاجه تونس لمعالجة هذه الأزمة. وينبه محللون في مؤسسة “كارنيغي” من أن عدم الانخراط في التصحيح قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي في المستقبل، وأن شراء الوقت هو الأسهل على المستوى السياسي، ولكنه لا يعني في كثير من الأحيان سوى تأجيل الأزمة، وهو ما قد يؤدي إلى انفجار أكبر. ويكمن التحدي في إيجاد الطريق الضيق للهروب من الأزمة من خلال توليد الثقة في برنامج وطني مقبول سياسياً وقادر على أن يؤدي إلى مستقبل أكثر إشراقاً.

وكان صندوق النقد الدولي قرر في بداية العام الحالي، إدراج تونس، وللمرة الأولى منذ انضمامها لهذه المؤسسة المالية عام 1958 ضمن قائمة سلبية تضم دولا مثل فنزويلا واليمن وبيلاروسيا وتشاد وهايتي وميانمار.

وتأتي هذه الخطوة بسبب تأخر استكمال تونس وممثلي الصندوق المشاورات بموجب المادة الرابعة المتعلقة بمراجعة الأداء الاقتصادي التونسي، حيث تأخر ذلك لمدة تعدت الـ18 شهرا، بالإضافة إلى الفترة العادية الممنوحة وهي 15 شهراً. مع العلم أن تونس عاودت خلال مايو (أيار) 2023، مباحثاتها مع صندوق النقد للحصول على حزمة الإنقاذ، من دون التوصل إلى نتيجة.

وكان الرئيس التونسي قيس سعيد، قد رفع في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، “الفيتو” أمام ما يصفه بـ”الإملاءات الخارجية” لصندوق النقد الدولي ودول الغرب، “بعد أن تمسك بعدم التفويت في المؤسسات العمومية”.

ويشترط صندوق النقد بأن تقوم تونس بإلغاء الدعم بشكل كامل ، وخفض الأجور وبيع مؤسسات عامة متعثرة، وذلك من أجل العودة إلى دراسة ملف القرض الذي تطالب به، والمقدر بـ1.9 مليار دولار على أربع دفعات. وهو ما يرفضه سعيد تماماً ويرى في رفع الدعم أو إلغائه “خطاً أحمر” يمس من مقاربته في الحكم وشعبيته.

وتشير مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” البحثية إلى أن  المشكلات على الصعيد الخارجي والمالي للبلاد ما زالت دون حل، وتلف إلى أن الحكومة تفادت التخلف عن سداد ديون سيادية في فبراير (شباط) الماضي فقط عبر السحب من

*الرئيس التونسي خلال لقائه رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا

احتياطيات البنك المركزي التي باتت الآن عند مستويات منخفضة بالغة الخطورة. وتتوقع انخفاضاً كبيراً في سعر صرف الدينار التونسي بما لا يقل عن 30 في المئة مقابل اليورو، مما سيؤدي إلى تفاقم مشكلات الدين العام في تونس نظرا لأن نصف الدين مقوّم بالعملة الأجنبية.

وأظهرت وثيقة رسمية أن تونس ستسدد أربعة مليارات دولار من الديون الخارجية في 2024، بزيادة 40 في المئة عن 2023، وسط ندرة التمويل الخارجي الذي تحصل عليه الحكومة بينما تكافح لإصلاح ماليتها العامة المتعثرة.

وما يثير القلق أن لجوء الحكومة لتسييل العجز عبر شراء البنك المركزي لأدوات دين حكومية من شأنه أن يبقي التضخم مرتفعاً ويغالي في تقدير قيمة الدينار.

وكان البرلمان التونسي وافق في فبراير (شباط) الماضي على طلب الحكومة للحصول على تمويل مباشر من البنك المركزي بقيمة سبعة مليارات دينار (2.25 مليار دولار)، من أجل سداد الديون الخارجية. ورأى مراقبون أن هذه الخطوة من شأنها تهديد استقلالية البنك المركزي، مع احتمال تدخل الدولة بشكل أكبر في السياسات النقدية. علماً انه في العام 2020، حذر محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي منها ، كونها تنطوي على مخاطر حقيقية بالنسبة للاقتصاد، وتتضمن تفاقم الضغوط على السيولة وارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة التونسية.

هذا وتتوقع موازنة تونس في 2024 أن تصعد تكاليف خدمة الدين إلى 14.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، من 13.1 في المائة في العام الماضي، و10 في المائة في 2022. كما تتوقع أن يصل تراكم الدين العام في 2024 إلى نحو 140 مليار دينار، أي نحو 80.20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعاً من نحو 127 مليار دينار مقدرة في 2023 بما يعادل  79.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و79.83 في المائة في 2022.

ويتعين على تونس سداد 1.8 مليار دولار (4.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) في 2024 و2.1 مليار دولار (5.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) في 2025.

تعثر النمو في العام 2023

في العام الماضي، نما اقتصاد تونس 0.4 في المئة في أسوأ أداء اقتصادي له منذ 1988 باستثناء ما تم تسجيله خلال وباء كوفيد-19 والربيع العربي. وهو أمر تتخوف منه تونس التي تجد نفسها غارقة في حالة مثيرة للقلق من الركود. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه مع انزلاق البلاد إلى الركود، أصبحت أسسها الاقتصادية معرضة للتهديد، مما يقوض آفاق نموها على المدى الطويل.

في المقابل، ارتفع معدل التضخم في العام الماضي ليصل إلى 9.3 في المائة مقابل 8.3 في المائة في العام الذي

*الرئيس التونسي خلال لقائه رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا

سبقه متأثراً بارتفاع أسعار الغذاء. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل التضخم في تونس إلى ما نسبته 10 في المائة في العام 2024.

وبالإضافة إلى غياب إصلاحات، أدى الموسم الزراعي غير المؤاتي بشكل استثنائي بسبب الظروف المناخية المعاكسة إلى انخفاض كبير في محصول الحبوب، الذي انخفضت إلى 80 في المائة أقل من العام السابق. وعلى الرغم من التعافي المحمود الذي شهده قطاع السياحة خلال عام 2023، إلا أن المؤشرات ظلت دون المستويات التي كانت سائدة قبل جائحة فيروس كورونا.

هذا وقد تزامن الانخفاض الحاد في النمو مع هبوط سريع في الاستثمارات الخاصة والمدّخرات الوطنية. وتشير البيانات المتوافرة إلى أن حجم الاستثمارات الأجنبية بلغ ما نسبته 0.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال النصف الأول من العام 2023، مقابل 2 في المائة قبل عشر سنوات. وهو ما رافقه تراجع حاد في الاستثمارات المحلية نتيجة تقلص المدخرات. وهذا بدوره، أدى إلى تدهور أوضاع القطاع الخاص الذي يعتمد بشكل أساسي على الاستثمارات لتطوير وتوسيع أعماله والعمل على خلق فرص عمل جديدة للشباب. وكان تعرضه لمزاحمة من قبل الحكومة في الحصول على تمويل سبب آخر إضافي لتدهور وضعه.

الواقع أن الأداء الضعيف الذي سجّله الاقتصاد التونسي في العام 2023 ليس سوى امتداد لمسار يسلكه منذ عقد من الزمن. تقول “كارنيغي” في هذا الخصوص إن الاقتصاد التونسي يسجّل أداءً أدنى بكثير من إمكانيات البلاد. فقد كانت تونس متفوّقة في نموها الاقتصادي خلال ستينات وسبعينات القرن المنصرم، حين كان نموذجها الاقتصادي يستند إلى سياسة استبدال الواردات، وأيضًا خلال التسعينات بعد أن عدّلت هذا النموذج ليصبح موجهاً نحو التصدير. لكن الصعوبات بدأت تطلّ برأسها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين عجزت البلاد عن رفع مستوى إنتاجيتها بشكل كافٍ، وبالتالي لم تتمكن من مواكبة مسار توسّع الأسواق العالمية. ومنذ ذلك الحين، يشهد الاقتصاد التونسي نمواً بوتيرة أقل من مثيله في بلدان متوسطة الدخل حول العالم، لأنه فشل في استحداث ما يكفي من الوظائف لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل وزيادة المداخيل. ويُعزى سبب الأداء الاقتصادي الضعيف لتونس إلى مكامن ضعف هيكلية، إذ إن بنيتها الإنتاجية عالقة في أنشطة ذات قيمة مضافة منخفضة، وشركاتها تشهد ركودًا، واقتصادها لا يتصّف بالدينامية الكافية لاستحداث فرص العمل التي يطمح إليها الشباب التونسي كمّاً ونوعاً.

ويرى مراقبون أنه يفترض التوصل إلى تسوية بين تونس وصندوق النقد الدولي تقي البلاد من خطر الانهيار الاقتصادي والاضطرابات وتبعده من خطر التخلف، تكون قائمة على تنازلات من قبل الطرفين. ففي حال تخلفت تونس عن السداد، فسوف يكون لزاماً على الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية أن تقدم يد العون. إلا أن المساعدة الطارئة التي ستكون مطلوبة في مثل هذه الظروف ستكون لأغراض مختلفة عن نوع التمويل المتاح في حالة إبرام قرض صندوق النقد الدولي، حيث تتمثل الفكرة في تقديم الدعم للضروريات الأساسية مثل القمح والأدوية من أجل منع حدوث أزمة إنسانية، والتي يمكن أن تتحول إلى اضطرابات عنيفة.

في الختام، تونس في مأزق. ولا يمكن ترك الخلل في التوازن الداخلي والخارجي دون معالجة. عاجلاً أم آجلاً، سوف يؤدي الوضع الراهن إلى أزمة مالية، وصولاً إلى أزمة اجتماعية – سياسية.