رحيل صلاح السعدني – عمدة الدراما المصريه بلا منازع

رحل فنان عظيم ،كان قطبا كبيرا من اقطاب فن الدراما المصريه عن جدارة واستحقاق . رحل صلاح السعدني الوجه الباسم الضحوك، رغم كل الصعاب بل والعثرات ، وفي نفس الوقت الصارم الحاد فيما يقوم به من اعمال، والملتزم الصادق بما يقطع به من وعود، او ما يؤمن به من قناعات .  ورغم تعدد الأدوار التي لعبها على أضلاع الفن الثلاث .الضلع الأول هو خشبة المسرح ،والضلع الثاني هو شاشة التلفزيون ،والضلع الثالث هو شاشة السينما ،الا ان توهجه الكاسح كان على شاشة التلفزيون ،وهي نفس الشاشة التي شهدت ميلاده الأول كفنان لامع . شاهدت ذات يوم مع كاتب المسرح الكبير الراحل (الفريد فرج ) برنامجا تلفزيونيا يجري فيه الكاتب الصحفي (مفيد فوزي) حوارا مع الفنان (صلاح السعدني) وسأله لقد ابتدأت مشوارك الفني مع ( عادل امام) فلماذا اصبح اسم ( عادل امام ) أكثر شهره منك ؟ اجاب (صلاح) تفسير ذلك ان مساحة موهبة (عادل ) أعرض من مساحة موهبتي . سارع ( الفريد فرج) بالتعليق فورا قائلا ( أنظر حجم جرأة صلاح وصدقه مع نفسه ،لو ان ممثل اّخر سئل هذا السؤال فأتصور انه يقول ( ان ذلك يرجع الى حجم الصداقات أو الشلليه التي تلعب دورا في شهرة هذا الممثل أو ذاك .. لكن اخلاقيات صلاح تختلف ،ولذلك تجد منه هذا الرد) على هذا المنوال  اتذكر تصريحا للفنان الكبير الراحل (نور الشريف )، كان يقول (ان كانت موهبتي تساوي مثلا 7 من عشره ،فان  موهبة (احمد زكي) في رأيي تساوي 8 من عشره).هذا النمط من الفنانين تجدهم قد عرفوا بين زملائهم بل و اشتهروا بين جمهورهم بجديتهم في اعمالهم وترفعهم عن الصغائر وعن الدعايات الفارغه ، ولذلك ندرك ونشعر بهذا الحجم من المشاعر التي تتوجع حزنا واسي على رحيل هذا الفنان ( صلاح السعدني ) . ان الأثر واضح وجلي بين  زملائه من الفنانين وكذلك في متابعة الاعلام، وأثر كل ذلك  ايضا بين جماهيره اللذين كانوا جميعا في وداعه، انه ومجموعة الفنانين الذين اكتسبوا جماهيرية مضاعفه من خلال ما لمسته تلك الجماهير من احترام لرسالة الفن ،ولدورهم في نهضة المجتمع . ان احترام الفنان لذاته ،ولتقاليد مجتمعه ،ومحافظته على صورته العامة،تترك اثارا بعيدة المدى ،في عقول ووجدان متابعيه ،ان ( صلاح السعدني) ومجموعة الفنانين الأخرين مثل محمود ياسين ونور الشريف وشكري سرحان ونادية لطفي وشاديه ،وغيرهم من الذين اخلصوا لشاشة السينما والتلفزيون وخشبة المسرح ،قد اعطوا الدرس وكذلك المثل لقيمة الفن والفنان ،انها اصالة الفن وصدق الفنان دون ابتذال او رخص . لذلك شعر الجميع بفداحة الخساره لرحيلهم  سواء لفنهم وما قدموه، أو لمدى الصدق الذي مارسوه في اداء رسالتهم . في اطار تلك القاعده نرجع بذاكرتنا الى وداع الجماهير للراحله الكبيره( أم كلثوم) أو للفنانه العظيمة (فاتن حمامه) وقد لقبت الأولى بعدة القاب منها كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي ،كما لقبت فاتن حمامه بسيدة الشاشة العربيه اضافة للهالة الضخمه التي صاحبت موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب ثم عبدالحليم حافظ ومازالت هذه الهالة تصاحب المطربه الكبيره امد الله في عمرها ( فيروز ) و( ماجده الرومي ) وقبلهما ( فريد الأطرش ) و(وديع الصافي ) و( ناظم الغزالي)الى اّخر تلك الثروة الضخمه من الفنانين العرب . كان الاخلاص الى حد التفاني ،وكانت ايضا تلك الغلالة الشفافه التي تحيط بالفنان من الترفع والأحترام وعدم الابتذال ،والأرتباط الكلي بسلامة الأختيار في الأداء والصدق في التعبير . ان الفنان  الحقيقي دائما يجعل الفن رائده في خدمة المجتمع ،والالتزام منهجه في الرسالة التي يحملها هذا الفن ،ويعبر عنها أداء وسلوكا.

مسيرة صلاح السعدني الفنية

رغم ان محافظة الجيزة في مصر كانت هي المحطه الرئيسيه لعائلة السعدني حيث استقرت،الا ان محافظة المنوفيه كانت هي الجذور ،أو منبت الرأس،فقد ولد بها (صلاح السعدني ) عام 1943  ،وبعد ان انتهى من المرحلة الثانويه في مدرسة السعيديه بالجيزة ،والتحق بكلية الزراعه جامعة القاهره وهناك يمكن القول انه قد التقي في نفس الوقت بقدره الذي حقق ماهيته في تحديد مستقبله. كان هناك

بجوار الدراسة العلميه المتخصصه، نشاط  طلابى له وهج وبريق وهو فن التمثيل ،وباقة موهوبة من الطلاب قد شكلت فرقه تمارس من خلالها نشاطها في هذا المجال. كان يرأس هذه الفرقة من الطلاب ،شاب موهوب اسمه (عادل امام) وكان يسبق (صلاح)في سنوات الدراسة بعامين .تعرف صلاح على عادل ،وكان ذلك التعارف ايذانا بولادة صداقة وطيده جمعت بينهما ،وقد عززمن عمقها  وحدة المشارب ،وطرق التفكير، والهواية المشتركه بين الطرفين .قدم عادل وصلاح على خشبة المسرح الجامعي مجموعة من المسرحيات ،سواء المأخوذة عن المسرح العالمي أوتلك   المنحوته من الواقع العربي الى ان تم تخرجهما من الجامعه . كان التلفزيون قد دخل مصر عام 1960 ،وكانت ساعات العرض تستلزم الكثير من البرامج ،وتتسع للعديد من الألوان الفنيه والعروض المسرحيه والاستعراضية والمسلسلات ،ولذلك تم تنفيذ الكثير من تلك الالوان المتعددة من تلك النصوص الفكاهيه او الدراميه ،ومن ثم اتسعت حركة العمل بها وتم انشاء ما يطلق عليه (مسارح التلفزيون) لكي تغذي ساعات الارسال الطويله على شاشة التلفزيون . لمع في تلك الفترة نجم الفنان الراحل ( محمد عوض) في مسرحية (جلفدان هانم) وقيل وقتها انه ( نجيب الريحاني) الجديد،وقدم العديد من المسرحيات ثم افلام السينما ، ثم ظهر فؤاد المهندس،ولمع من خلال مسرحية (السكرتير الفني) وتوالت اعماله بعد ذلك مع شويكار خصوصا مسرحية ( أنا وهو وهي) التي قدم فيها لأول مرة الفنان (عادل أمام ). كانت بدايات (صلاح السعدني) في التلفزيون مع المسلسلات ،وكان تألقه المبكر في ثلاثية الكاتب ( عبدالمنعم الصاوي) التي تحولت الى مسلسلات (الساقيه والضحيه والرحيل ) وكانت لها ضجة في حينها .تركزت اعمال ( صلاح السعدني) خلال حقبة الستينات من القرن الماضي على  الدراما التلفزيونيه ،والظهور المتقطع على خشبة المسرح، قبل ان يبدأ مشواره على شاشة السينما .

صلاح السعدني بين الأضلاع الثلاث الفنيه

حين نتابع المسيره الفنيه لهذا الفنان المرموق نتعرف على تواجدها في الأضلاع الثلاث للمسار الفني الذي صاحبه ،وسوف نلاحظ  من خلالها قدرته التعبيريه في تقمص الشخصيات التي تحمل التركيبات  النفسية المختلفه، أو ذات الفكرالمحدد الاتجاه .

في السينما : على وجه التحديد نجده في دور من اجمل ادواره وهو دور(وفيق) في فيلم ( زمن حاتم زهران ) مع الفنان (نور الشريف) ، الذي يقف في جانب القيم التي يتنكر لها صديقه ،ويدافع بضراوة عن الحقوق التي يجري اغتصابها،وهي نفس القيمه التي جسدها ايضا في فيلم (الغول) مع عادل امام ،وهي هنا قيمة القانون وفكرة العداله التي ينبغي ان تسود لخدمة المجتمع .ادوار (صلاح السعدني) بشكل عام كانت تدور في عالم الشفافية والتجرد،وضرب المثل والنموذج  وقليلة تلك الافلام التي ظهر فيها بمثابة عنصر الشر، ورغم ان عالم التمثيل يتسع لكل الأدوار،لأنها في النهاية تبحث وتروج لمعنى الفضيله في ختام الرواية أو الفيلم،وان عناصر الشر لابد ان تنحدر،وتدفع فاتورة جرائمها .الا ان الممثل وطبيعة شخصيته،والقناعات التي يؤمن بها تجعله في بعض الاحيان ينحى نحو جانب محدد ينحاز اليه اتساقا بقناعاته ،وقد كان الفنان القديم ( حسين صدقي ) صاحب هذا المنهج الأخلاقي في كل ادواره ،وكانت ايضا الفنانه الكبيره ( فاتن حمامه) اسيرة لهذا الدور ،الذي يمثل القدوة والمثل .من اهم الافلام التي قدمها ( الأرض) و(الزمار) و( زمن حاتم زهران) و( الغول).

في المسرح : كان المسرح بدايات صلاح السعدني في الجامعه ،وظل شاغله بعد ان عمل في مسارح التلفزيون قبل ان تختطفه السينما والمسلسلات التلفزيونيه ،فقدم اولا مسرحية (الضياع) من اخراج محمد فاضل ،ثم قدم مسرحية ( الدخان ) و( حاجه تحير) وتعددت المسرحيات بعد ذلك ومنها ( زهرة الصبار،و حارة السقا ،و الملوك يدخلون القرية ،وباللو باللو ثم الملك هو الملك ) ورغم ان العديد من مسرحياته لم يتم تصويرها ،الا ان هناك باقة منها بالألوان مازالت تعرض بين الحين والأخر ،وفي المقدمة منها ( باللو باللو) فهى كوميديه استعراضية وكذلك (الملك هو الملك )وهي مسرحيه تتناول طبيعة الحكم والسلطه ،وقد حققت نجاحا كبيرا حين عرضت،هي من تأليف الكاتب السوري(سعدالله ونوس) وتحكي المسرحيه قصة ملك ضجرفيقرر ان يتنكر هو ووزيره بحثا عن الترفيه بين العامه فيلتقي بتاجر قد اعلن افلاسه يمضي وقته في احتساء الخمر والهذيان في الاحاديث ،ويحلم من خلال هذيانه انه الملك الذي يملك السلطه والسلطان ،فيقرر الملك ان يلبسه ثيابه ويجعله ملكا ليوم واحد لكي يري كيف سيتصرف ازاء مسؤوليات الحكم ،حتى يضحك ويتسلي من خلال تلك  اللعبه .نجحت المسرحية ، وكان أداء صلاح السعدني متفوقا ومبهرا ،وقد نالت المسرحيه شهره واسعه.

التلفزيون : اكتسبت مسلسلات التلفزيون جماهيريه كبيره ،وذلك لوجود كتاب كبار وموضوعات جديه وايضا لظهور هذا النمط من الممثلين وفي طليعتهم ( صلاح السعدني ،وعادل امام ومحمود عبدالعزيز ونور الشريف) الذين تقمصوا ببراعة واقتدار شخصيات تلك الاعمال التي قاموا بها ) ظهر من الكتاب (اسامه انور عكاشة،ووحيد حامد،و صفاء عامر وصالح مرسي ومجدي صابر)،وقد ظهر مؤخرا جيل جديد في طليعته (عبدالرحيم كمال) وقد كتب في رمضان الماضي مسلسل (الحشاشين) وقد نال ضجة كبيره ،ونقاشا حادا .برز ( صلاح السعدني) بشكل لافت في دور( العمده سليمان غانم) في مسلسل

 ( ليالي الحلميه) بأجزائه الخمس، وقد قدم المسلسل حقبة زمنية هامة في تاريخ مصر منذ فترة حكم الملك فاروق حتى أوائل فترة التسعينيات من القرن الماضي ، ورغم ان دورالعمده قد تولاه ممثلون مقتدرون من قبل مثل( صلاح منصور) الا ان صلاح تفوق في الدور بشكل لم يحققه ممثل اّخر من قبل.كذلك دوره في مسلسل (أرابيسك) في شخصية (حسن النعماني)، إذ جسد شخصية ابن البلد الشعبي، أحد صانعي الأرابيسك بمنطقة خان الخليلي،  ليضيف بذلك الدور الى نجاحه السابق نجاحا جديدا يثبت به براعته وقدراته الفذه في فن التعبير والأداء. وقد ترسخت شخصية (العمدة)  في أذهان الجمهور ،و أصبحت لقبا يناديه به الوسط الفني،وحتى بين الجماهير العاديه  وتوالت أعمال الدراما والنجاحات الكبيرة التى قدمها من خلال أعمال(رجل فى زمن العولمة،و للثروة حسابات أخري،و عمارة يعقوبيان، وقطار منتصف الليل، اولأخوة الأعداء، ، والباطنية،و عمارة يعقوبيان) . كما شارك ( صلاح السعدني )في العمل الفني الضخم مسلسل (أوراق مصرية)، الذي تكون من 3 أجزاء (1998-2002-2004) وتناول الأحداث السياسية في مصر بداية من عهد الملك فؤاد وأحداث الحرب العالمية الأولى والمقاومة الشعبية ضد الاستعمار وصولا إلى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر. ثم لابد لنا ان نذكر

ان اعتقال شقيقه الكاتب الكبير ( محمود السعدني) في فترة حكم الرئيس انور السادات عام 1971  قد ترك أثره على مسيرة ( صلاح السعدني) فقد تم حرمانه من العمل سواء في السينما او المسرح او التلفزيون نتيجة لأن اخيه قد اختلف من النظام ،وتم هذا الحرمان لعدة سنوات . ،وفي النهاية سجل مسلسل (القاصرات) 2013 الظهور الأخير للفنان صلاح السعدنى وابتعد عن الساحة بسبب ظروفه الصحية وحاجتة للراحة التامة . حصل السعدني على عدد من الجوائز من بينها: جائزة التميز الفني من مهرجان الإسكندرية السينمائي  جائزة مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما عن جميع أعماله الفنية . كما نال تكريمًا من مهرجان القاهرة للدراما في دورته الأولى عام 2022. وشارك في فيلمي “الأرض” و”أغنية على الممر”، اللذين نالا تكريما خاصا باعتبارهما ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ الدراما المصرية وفقا لاستفتاء النقاد عام, غاب صلاح السعدني عن الظهور الإعلامي منذ سنوات طويلة، وابتعد عن الفن إلى أن توفي في منزله يوم 19 أبريل/نيسان 2024 بعد صراع مع المرض، وتوفي عن عمر يناهز 81 عاما، تاركا إرثا فنيا ضخما في الدراما المصرية.

قبل وبعد الختام

عرفت جماهير فن السينما والمسرح والتلفزيون صلاح السعدني الفنان الجاد في كل اعماله ،وحتى الكوميدي منها ،كان يؤديها بشكل جاد ،بمعنى بحرفيه واجتهاد ،وليس اراجوزا يهتز ويتراقص ليثير الضحك الرخيص ،ولكنه فنان يؤدي بحرفة الفنان موقفا كوميديا ،فيه من المعنى أكثر بكثير مما فيه من الحركه ،ولذلك استحق صلاح السعدني الأحترام قبل الاعجاب .

2

صلاح السعدني ( العمده سليمان غانم)

مع صفيه العمري ( نازك هانم السلحدار)