سهير آل ابراهيم
عام آخر ينطوي فيقربنا من نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة بعد الميلاد! وحقيقة فإن التفكير في ما حققه الإنسان من إنجازات وتطور، منذ فجر التاريخ وحتى وقتنا الحاضر، يملأني بمشاعر الإعجاب والذهول والدهشة. إلا إن ذلك التطور لم يشمل جميع جوانب الحياة بنفس المقدار والكيفية، فحال المرأة في بلدي الآن لا يختلف كثيرا عن حالها فيه قبل ألوف السنين، إذ لا تزال الحقوق الاساسية التي تتمتع بها الكثيرات من النساء حول العالم؛ مثل حق التعليم والعمل، وحتى الحق في حياة آمنة بعيدة عن العنف والاضطهاد الجسدي والجنسي، هي مجرد أحلام بالنسبة للعديد من فتياتنا ونسائنا.
تحدثنا الباحثة والمؤرخة البريطانية أماندا فورمان عن الحضارات التي قامت في بلاد ما بين النهرين، بدأ من حضارة سومر التي تواجدت قبل حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، إلى الامبراطورية البابلية ومن ثم الآشورية حتى القرن السادس قبل الميلاد. شهد وضع المرأة آنذاك تغيرات كبيرة من حيث دورها في المجتمع ومكانتها فيه.
قدم السومريون الكثير من الخدمات للانسانية، والتي كان لها دور كبير في تغيير العالم؛ فقد اخترعوا أول نظام ري في التاريخ، اخترعوا العجلة والمحراث، درسوا النجوم ووضعوا اول تقويم زمني. والأهم من ذلك كله انهم اخترعوا الكتابة حوالي ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة قبل الميلاد. تقول أماندا ان وضع المرأة السومرية كان مزدهراً؛ فقد كانت تتمتع بحق التعليم والعمل وبشكل مساوٍ للرجل، وفي المعابد كان للكاهنة العليا نفس مكانة الكاهن الأعلى. على صعيد الاسرة كان للمرأة ممتلكاتها الخاصة، وكان لها حق الانفصال، أو كما نسميه الطلاق، متى ما رغبت في ذلك.
لم يكن في الحضارة السومرية ما يميز بين المرأة والرجل من حيث الحقوق والمكانة في المجتمع، لكن كل ذلك تغير عندما احتل سرجون الاكدي سومر سنة 2300 قبل الميلاد، وجعلها خاضعة لحكمه، في هذه الفترة بدأت المرأة تفقد الكثير من الحقوق والحريات التي كانت تتمتع بها سابقا، أصبحت مساهمتها في الاقتصاد محدودة جدا، حُرِمت من حق التعليم وغير ذلك من الحقوق، واصبح دورها في المجتمع محدودا جدا! تعزو اماندا سبب ذلك التغيير إلى الثراء الذي كان يميز الهلال الخصيب، فمع ازدهار الزراعة وكثرة الخيرات الناتجة عنها ظهرت الطبقية والتقسيم غير المتكافئ للثروات، والاطماع في القوة والسلطة التي تطلبت وجود جيوش لخدمتها، وبالنتيجة تفضيل الورثة وأولياء العهد من الذكور بدلا من الإناث!
تُبيَّن آثار تلك الفترة بوضوح ان المجتمع كان مجتمعا ذكوريّا بشكل كبير، حيث تحمل تلك الاثار مشاهد منحوتة لمعارك ورجال أشداء مع حيوانات ضارية وأسلحة يسحقون بها اعداءهم، بينما انحسر تواجد المرأة فيها بشكل كبير. أصبحت المرأة لديهم تمثل آلهة الخصب والطبيعة، بينما يمثل الرجل اله العدل والحكمة. وبينما تمتعت المرأة السومرية بمكانة اجتماعية مماثلة لتلك التي تمتع بها الرجل، نجد في الحقبة التالية، حقبة تسلط الرجل، ان حقوق المرأة أصبحت تحت إمرة الرجل وسلطته، حيث تُظهر آثار تلك الفترة اول القوانين التي وُضعت لإسكات صوت المرأة!
تذكر لنا المؤرخة بعضا من تلك القوانين التي حُفرت على أسطوانات طينية، والتي يعود تاريخها إلى 2400 سنة قبل الميلاد، ينص احدها مثلا على وجوب كسر أسنان المرأة بحجر إن تكلمت قبل أن يأتي دورها في الكلام!
يعود تاريخ مسّلة حمورابي إلى 1770 سنة قبل الميلاد، وحمورابي هو الحاكم السادس للإمبراطورية البابلية، والتي كانت تحكم بلاد ما بين النهرين في تلك الفترة. يحمل اعلى المسلة نحتا يمثل حمورابي وهو يستلم الشرائع من )شمش(؛ اله الشمس والعدل والنظام، كانت تلك الشرائع تهدف إلى حماية الضعيف من القوي! تحمل تلك المسلة 282 قانوناً، منها بالتأكيد ما يتعلق بالمرأة.
بموجب تلك القوانين، كان للمرأة الحق في ان يكون لها ملكية خاصة، وذلك يمنحها حق التصرف في الميراث وكذلك في المال الذي يمنح لها عند الزواج أو ما نسميه المهر. في حالة الطلاق كانت المرأة تحتفظ بالمهر، وعند وفاة الزوج كان لها الحق ان تعيش وتستمتع بأملاك الرجل طيلة حياتها. ولكن البعض الآخر من تلك القوانين كانت مدمرة للعديد من حريات المرأة وحقوقها. مُنعت المرأة بموجب تلك القوانين من ممارسة اَي فعاليات واعمال تجارية خارج حدود المنزل. كما انها وضعت المرأة تحت تصرف الرجل وامرته، أصبحت المرأة جزءاً من ملكية الرجل، وأصبحت عذريتها شرطاً لزواجها. اذا تعرضت المرأة للاغتصاب فذلك لم يكن ايذاءً لها فحسب، وإنما يمثل خسارة مادية بالنسبة لأبيها، لانها تصبح في تلك الحالة كالبضاعة التالفة، فيخسر والدها المهر الذي كان سيدفع فيها في حالة كونها عذراء! باختصار فقد جعلت تلك القوانين المرأة رمزاً لـ )شرف الرجل(!
عانت المرأة المزيد من الظلم والتعسف في الحقبة التالية؛ فترة حكم الآشوريين. يوجد في احد متاحف برلين في ألمانيا، لائحة تحمل 112 قانونا آشوريا يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أكثر من نصف تلك القوانين تتعلق بالزواج والجنس. بموجب تلك القوانين خسرت المرأة العديد من الحقوق التي نصت عليها مسّلة حمورابي، واصبح للرجل الحق المطلق بفعل ما يشاء مع زوجته، باستثناء قتلها بدون سبب! له الحق في ضربها وإيذائها جسديا، وأخذ مهرها والقائها خارج منزله إلى الشارع، يستطيع ان يرهنها بدون أي ضمان! من الناحية الاخرى فان العقوبات بحق المرأة قاسية وصارمة؛ تُقتل المرأة ان أسقطت حملها، وتُقتل ان ارتكبت فعل الزنا، كما تتحمل المرأة العقوبة على بعض الجرائم التي يرتكبها الزوج؛ على سبيل المثال ان اغتصب الزوج امرأة ما فإن عقوبته تكون باغتصاب زوجته!
القانون رقم 40 على لائحة القوانين تلك، هو أول قانون يفرض الحجاب على المرأة، أي قبل الاسلام بألفي سنة! ينص القانون على منع النساء الاشوريات، المتزوجات منهن والأرامل، من الخروج إلى الشارع ورؤوسهن مكشوفة، يجب ان ترتدي بنات الطبقة المرموقة الحجاب من غطاء رأس ورداء أو عباءة. كما تفرض تلك القوانين الحجاب على المحظيات، بينما تمنع العاهرات من ارتدائه؛ فالعاهرة يجب ان تسير في الشارع مكشوفة الرأس! باختصار فإن القوانين الآشورية قسمت النساء إلى فئات خمس: زوجات وبنات الطبقة العليا في المجتمع، محظيات، جواري وصنفين من العاهرات، ولذلك للتفريق بين النساء المحترمات وغير المحترمات، من وجهة نظرهم! عقوبة عدم الامتثال لتلك القوانين كانت تعسفية جداً. اذا رأى اَي رجل عاهرة ترتدي غطاء الرأس فعليه ان يضربها بعصا الخيزران خمسين ضربة! اما عقوبة العبدة التي ترتدي الحجاب فكانت تتم بقطع اذنيها!
لا تكفي المساحة هنا للحديث عن أوضاع المرأة في الفترات التالية والى زماننا الحاضر، لكن المرأة في بلدي حققت تطورا ملموسا خلال العقود الاخيرة من القرن الماضي، وفي مجالات شتى. ولكن ذلك الإنجاز لم يكن طويل العمر، فها هو حال المرأة الآن، في الألفية الثالثة بعد الميلاد، لا يختلف كثيرا عما كان عليه في زمن البابليين والآشوريين. الكثيرات من فتياتنا يُحرمن من حق التعليم والعمل وتقرير المصير.. تُعامل الكثيرات من فتياتنا على أنهن بضائع يتم استبدالهن بمبلغ من المال يُدفع مهرا لهن ولكنه يذهب إلى جيوب أولياء امورهن.. لا تزال المرأة تُقتل )غسلاً للعار( ولا يُقتل شريكها في ذلك الفعل… لا تزال طفولة الكثيرات من صغيراتنا تُغتصب تحت مُسمى )زواج القاصرات(.