نضيء في هذه السلسلة على عدد من سيَر الشعراء العرب، الذين كان لهم أثرًا أدبيًا متمايزًا، تذكيرًا وتدليلًا على ما سطّروه من أمجادٍ مقفّاة مصاغة بالبلاغة الفنيّة .
بين الخنساء والشعر، مرثيّة الموت تجدّد نفسها.
يوجع الموت الأحياء، ويضعهم في مواجهة مشاعر الفقد والعجز، والإنسان في ترحاله عبر الزمن، غالب جزعه بالتأسي، وذكر فضائل فقيده بالتأبين وحافظ على طقوس العزاء وطوّرها بما فيها من قدرة على المساعدة في تخفيف حدّة الألم، فالتعاطف الإنساني يثبت عبر الشعوب بلاغته في التصبّر وتهوين المصاب، والشعر واحد من أساليب التفريغ النفسي الذي أجاد به العرب القدماء قولًا، منذ الجاهلية، والمرأة أكثر الخلائق رقّة، وهي النادبة والمولولة وفي الشعر هي الناظمة والمحتسبة. وإن كان التاريخ قد بخل علينا بذكر كثيرات ممن قلن ونظمن الشعر إلّا أنّ منهن من خالفت حتى عُرفت، وقالت قولها الحقّ حتى خلّد التاريخ ذكرها.
عاشت في عصر وبيئَة كانت فيه أصوات النِساء بكماء، اسمها تماضر يعني البياض، “وتُكنى أم عمرو، وغلب عليها لقب الخنساء وتعني الظبية، وقيل لقصر أنفها وارتفاع أرنبته، وقال صاحب تاج العروس ” وأصل الخنس في الظباء ..”.
الخنساء: حياتها
تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُلمية (575م – 645م)، ولدت في نجد في قبيلة بني سُليم وهي من البيئات الحاضرة والتي عرفت الإستقرار في المسكن واليُسر في المعيشة، والدها سيّد من أشراف قومه، وهي الإبنة الوحيدة في أسرتها لأخوين معاوية وصخر، حظيت بالمكانة الرفيعة في عائلتها. وفدت على النبي في السنة الثامنة للهجرة ضمن وفد من قومها وحسُن إسلامها.
كانت لها حرية الرأي والقدرة على اتخاذ القرار، والفرادة في التعبير، عايشت حياة ترف وطمأنية فلم تكن لتشكو قلة أو ذلّة على حياة أهلها، وهو كافٍ ليبعد عنها القلق ويكسوها بالجمال فشُبهت بالبقرة الوحشية لجمالها. حتى إذا ما رأها دريد بن الصُمة وهو سيّد بني جشم وفارس شجاع له عدة مناقب، أتبلته حبًا، فقال:
“حَيّوا تُماضِرَ وَاِربَعوا صَحبي وَقِفوا فَإِنَّ وُقوفَكُم حَسبي
أَخُناسُ قَد هامَ الفُؤادُ بِكُم وَأَصابَهُ تَبَلٌ مِنَ الحُبِّ”.
وجاء ديارها خاطبًا ودّها من أبيها، فأراد الأب أن يأخذ برأي ابنته الراجحة العقل المتّزنة الفكر، فانتفضت مستنكرة: ” يا أبتِ، أتُراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرّماح، وناكحة شيخ بني جشم، هامةِ اليوم أو غدٍ؟”.
فكان لها أن تختار من بني عمّها، من أذاقها الخذلان، وخوفًا من الشماتة رضيت به وصبرت عليه، وكان رواحة بن عبد العزى فاسد الطبع مقامرًا انتهازيا، أخذ مالها حتى أنها كانت تقصد أخيها صخر تشكوه حالها وضيق أحوالها، فيقسم ماله نصفين بينه وبينها، ولم يكن شيئا ليرد الزوج عن ابتزازه متماديًا حتى قررت الانفصال عنه. تطلّقت منه ولها ولد واحد. ثم تزوجت مرداس بن أبي عامر السلمي، وكان كريمًا وسخيًا ومات على حياتها، ترك لها أربعة أبناء، وقد رثته مبيّنة مروءته وشجاعته:
” فضَّل مرداسًا على الناس حلمه وأنْ كلُّ همٍّ همَّهُ فهـو فاعلـه”
بكائيات من الخنساء إلى كلّ النساء
“قذًى بعينكِ أم بالعين عُوّارُ أم ذرفت إذ خلَت من أهلها الدار”
بهذا البيت تفتح الخنساء مرثيتها في أخيها صخر، فالدار خلت من صحبها وحلّت الفجيعة على قلبها، حتى ذرفت عيناها الدمع مدرارا.
” تَبكي خُناسٌ عَلى صَخرٍ وَحُقَّ لَها / إِذ رابَها الدَهرُ إِنَّ الدَهرَ ضَرّارُ
لا بُدَّ مِن ميتَةٍ في صَرفِها عِبَرٌ/ وَالدَهرُ في صَرفِهِ حَولٌ وَأَطوارُ”
ومما يُقال إن قريحة الخنساء قد فاضت شعرًا في موت أخيها صخر، فرثته بأنواع الرثاء، وبكته بحرارة الفقد والتوجع، فخلدت ذكره في التاريخ الأدبي، وإن شهرتها كشاعرة انحصرت في هذا النوع الأدبي .
في تلك الحقبة من التاريخ العربي، حيث القوم قبائل وعشائر، وكان لهم من القيم والعادات والتي إذا قسنا عليها في ما يليها من أحقاب لوجدنا فيها ما يخالف المعايير الإنسانية والخلقية والتي منها سبب وفاة أخيها معاوية، الذي رثته رثاء يضمر النار في القلوب، حتى لو عرفت سيرته لتعجبت فقد عزم وجمعٌ من الفرسان غزو قبيلة بني مرّة والسبب أنه رُفض من قبل جارية لأحد سادتها فقُتل هناك. وهاجت سريرة صخر وقد أكربه موت أخيه ليثأر له، ولم يكفه الثأر في سنة حتى عاد في التي بعدها وقتل ما قتل حتى أصيب بضربة بالغة أقعدته في فراش المرض فـ”لم يكن حيا فيُرجى، ولا ميّتًا فيُشفى” كما قالت عنه زوجته:
“أرى أمّ صخرٍ لا تملّ عيادتي وملّت سليمى مضجعي ومكاني
لعمري لقد نبّهت من كان نائمًا وأسمعت من كانت له أذنان
وأيّ امرءٍ ساوى بأم حليلة فلا عاش إلا في شقا وهوان”
وكانت الأم لا تملّ عيادة ابنها وكذلك أخته الخنساء التي حفظت معروفه لها في حياته وكذا بعد مماته:
“إنّي ذكرت ندى صخرٍ فيهيجني ذكر الحبيب على سقمٍ وأحزان
فابكي أخاكٍ لأيتّام أضرّ بهم ريبُ الزمان وكلّ الضرَّ أغشاني”
ونلمس عند الخنساء صور التفجّع والجزع، ومأساة الفقد التي نراها اليوم تتجسّد عاليًا في غزّة حيث يفقد الناس أحبائهم وأهليهم ، ويكابدون مرارة العيش في ظلّ عدو غاشم لا يملك أدنى معايير الخلق والإنسانية، وكأني بنساء غزة واللاتي منهن من فقدت الأب والأخ والولد والزوج تندب حزنها قائلة على لسان الخنساء:
” فيا لهفي عليه ولهفُ أمّي أيُصبح في الضريح وفيه يُمسي”،
وقد انهارت الخنساء كمدًا عليه وأقامت عند قبره تنعيه وترثيه. وإن المأساة تبلغ ذراها أنّ في غزة لا يملك الكثير من الناس ترف دفن أحبائهم واستقبال التعازي فيهم، بل هناك مقابرٌ جماعيّة وهناك جثامين بلا أضرحة.
ظلّت الخنساء تبكي صخرًا لسنوات طويلة حتى بعد دخولها الإسلام ومشيبها، وهنا روايات تحكي عن محاولة أحد الصحابة ثنيها عن عادتها في البكاء وقوله أنه ليس من الإسلام الاحتفاظ بصدارة شعرها التي احتفظت بها وفاء لأخيها الذي قال فيها مادحا على حياته:
“ولو هلكتُ مزّقت خمارها واتخذت من شَعَرِ صـدارها”
وزاد الصحابي عليها القول، أن من تبكيهم ماتوا ميتة جاهلية، فما زادها ذلك إلا ألمًا، ورددت عبارة أن الله واسع المغفرة، فتركها إشفاقًا على حالها.
أسلوبها وما قيل فيها
يؤخذ على شعرها غياب الحكمة، وقيل بأنها ترثي نفسها وحالها من خلال رثاء أخويها، فهي لم تعد كما كانت عليه قبل وفاتهما، وهو ليس بمنقصة بل يحمل دلالة إنسانية تصف العلاقة الرحيمة بين الأخوة، وحكايتها مع صخر الذي كان يتقاسم معها رزقه ولا يردّها خائبة في كل مرّة تقصده طالبة المال لأجل زوجها المقامر، والخنساء تتفاخر بأخويها، فتقول في معاوية:
“ألا لا أرى في الناس مثل معاوية إذا طرقت إحدى الليالي بداهيه”
وتقول في صخر، رافعة خصاله مشيدةً بصفاته :
” وإنّ صخرًا لحامينا وسيّدنا وإنَّ صخرًا إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخرًا لتأتمّ الهداةُ بهٍ كأنّهُ علمٌ في رأسِه نارُ “
ومما يُعاب على شعرها قلّة غرابته وخلوّه من التراكيب المعقّدة، فما لا تدركه الأفهام، هو لغة العصر الذي عاشته، وتعمّدها استخدام ألفاظًا قاسيَة، وقيل في نقدها أنّها لا تُحسن استخدام ألفاظ من بيئات أخرى. فقد وصلنا من شعرها المراثي، فهل اشتهرت لدواعٍ ذكورية هدفها مدح خصال رجلٍ فارس، هل يفسر ذلك ندرة ما وصلنا من شعر النساء، وذلك زمان كان الشعر لهجٌ على ألسنة الناس؟!
أمّا الصور الشعرية فهي مأخوذة في الغالب من مشاهداتها في البادية، حيث شبّهت نفسها بالناقة التي فقدت ابنها ووصفت حالها بها:
” ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت/ فإنما هي إقبالٌ وإدبار / لا تسمن الدهر في أرض وإن رتعت / فإنّما هي إقبالٌ وإدبارُ”
قال عنها بشار بن برد: شعر المرأة يبيّن ضعفها إلا الخنساء، لأنها أقوى من الرجال.
أمّا ابن قتيبة، فقد قال، بأن شعراء الرثاء اغترفوا من بحرها الفياض بالعاطفة .
وعدّها ابن سلام الجمحي من أصحاب المراثي في طبقات فحول الشعراء. وللنابغة الذبياني قصته الشهيرة وهو في معرض التحكيم وجاءته الخنساء عارضة عليه قصيدتها، فقال لها: “لولا أبا بصير (يقصد الأعشى) لقلت أنك أشعر الجن والإنس”
بعد دخول الإسلام، والذي نهى عن كثير من العادات الجاهلية، ودعا إلى تهذيب النفس ولجمها، قلّ شعر الخنساء، وما وصل منه قليل، فكانت تردد قديمها حزنًا على أخويها، وكان لها من الأبناء أربعة، استشهدوا جميعهم في معركة القادسية، وهي التي كانت تشجعهم على الجهاد والثبات في المعارك، وعندما وصلها خبر استشهادهم قالت: “الحمدلله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”
وهو ما يذكرنا بحال نساء غزة والجنوب وهن يدفعن بأبنائهن وإخوانهن للجهاد في سبيل الوطن، والدفاع عن قضيتهم .
وحال كل منهن تقول، متفردة بحزنها تواسي حالها بحال غيرها:
“وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي”