ثوراته ملاحم، وانتفاضاته وثبات، وتاريخه معارك، ومواقفه تشكل اسطورة نضال.
الحرية ليست ابيات من الشعر ينظمها الموهوبون ،ولا هي ملحمة من العشق والهوى ينتجها خيال حالم . الحرية هي الحياة ،والعبودية هي الفناء ،ولذلك لا يحصل على الحرية الا من يناضلون من اجلها ،وعلى استعداد لدفع مستحقاتها، وأولها دماؤهم ،ولهذا لا ينعم بممارسة الحرية الا من هم اهل لدفع ضرائبها ،وكامل مستحقاتها ،فالحرية ليست خطبة جياشة بالعواطف ،ولا مقالة تنشر في جريدة سياره تدبجها اقلام محترفه ،ولكنها في الأول والآخر ،عقيدة يؤمن بها احرار، ويدفع ثمنها المناضلون.ان للأوطان قداسة يترجمها الانتماء،وتفسرها التضحيات،ويعبر عنها البذل
والفداء.وتاريخ فلسطين تغمره تلك المعاني ،وتسطع بها مواقفه على مر السنين.وكان السابع من اكتوبر الماضي حدث جلل لا شك فيه، واقدام يعجز تصوره، ولابد ان يتوقع كل مواطن ان هناك تداعيات على هذا الحدث الجلل،وافق عليها كل متابع لتطورات القضية الفلسطينيه أم لم يوافق ،وما صاحب تلك القضيةعلى مر الزمن من تضحيات وأثمان باهظة تحملها هذا الشعب المناضل ،وحمل عبئها وحده بلا شريك .
تفرد شعب فلسطين في نضاله
هل نتابع معا تاريخ بعض الشعوب في نضالها ، ضد القوى الاستعماريه ونقتصر في ذلك على بعض الأمثلة والنماذج،وليس كلها بالطبع ،مع الاحترام الكامل لتجربة كل شعب في نضاله من اجل الحصول على استقلاله ،بما يتناسب مع تاريخها وحدودها . بالتأكيد التجربه الفلسطينيه أكثر مرارة، وقسوة ،بين كل التجارب حتى التي كانت تتسم بالعنف في زمانها ،فلقد حاربت ( فيتنام ) القوى الاستعماريه على تنوعها وتعددها ،مثل حربها ضد الاستعمار الفرنسي والياباني والامريكي ،ونزفت في سبيل ذلك الكثير من الدماء قبل ان تتحرر،وفي عالمنا العربي ناضلت الجزائر استعمارا،كان يعدها امتدادا لأرضه
فأرض الجزائر كان يعدها الأحتلال الفرنسي امتدادا للأرض الفرنسية ،فألغي لغتها العربيه،وجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسميه المعتمده ،وتعددت حقب النضال والقتال على ارض الجزائر، فعرفنا كفاح عبدالقادر الجزائري ثم مصالي الحاج وديدوش مراد ثم احمد بن بيلا ومحمد بوضياف وهواري بومدين وغيرهم ، وكان القتال شديد الوطأة ،ولعل جميله بوحيرد وجميله بوعزة من المناضلات اللاتي كتبن دورا مجيدا ،وعلامه في تاريخ المرأة الجزائرية ونضالها ،وتعرف دائما ثورةالجزائر بأنها ثورة المليون شهيد .عرفنا القتال في عالمنا العربي ضد قوى الاحتلال على الأرض العربيه ،ومازلنا حتى الآن نقاوم ضد التسلط الاجنبي سواء في عدوانه الصريح ،أو عبر بث الفتن من اجل الأنقسام الداخلي ،وخلق حاله من الصراع السياسي وتحالفاته الخارجيه أو الفتن الداخليه وابرزها الفتن الطائفيه ، لكن شعبا لم يقاس ما قاساه شعب فلسطين وما الم به ،ومازال يقاسي بل ويذبح تحت انظار العالم وسمعه ،وكل ما يفعله قادة العالم هو الاستنكار وادانة الفعل وليس الفاعل . وذلك كما تجري تصريحات سكرتير عام الامم المتحده ورئيس فرنسا ووزير خارجية بريطانيا ورئيس البرازيل حول المذبحة التي جرت مؤخرا على الحشود الشعبيه التي تسارعت للحصول على الطعام مع قلته ان لم تكن ندرته ،من بعض الحافلات التي تحمل مساعدات غذائيه . لم يعرف العالم حالة طرد شعب ،أو افنائه عن طريق القصف وهدم المنازل ومطاردة الاعلاميين في البيوت والشوارع وقتل العديد منهم مع عائلاتهم،ولا حرب التجويع ،ولا العمليات المتواصله للضغط على التهجير قسرا. تفردت الحاله الفلسطينيه في مواجهة هذا الاحتلال الاستيطاني،والوان القهروالتنكيل ،والتجويع التي تتطابق تماما مع حملات الأبادة التي شننها من قبل قوى التتار والنازيه .لكن الشعب الصامد المقاتل ابدا لم يستسلم ،فعمل عبر محطات في تاريخه ومواقف اتخذها في اطار انتفاضاته ،على تجديد ثوراته ،وتصاعد انتفاضاته،وسط براكين من الغضب ،ومازال رغم القصف والوان الدمار واشلاء الجثث ،وشلالات الدماء عصي على الاستسلام ،وهو يقفز من محطة الى أخرى ، والى الامام على التوالي ،نحو تحقيق اهدافه في الحرية والاستقلال .
محطات في تاريخ الشعب الفلسطيني
يمكن بالتأكيد رصد كفاح هذا الشعب العظيم ،وتقدمه نحو هدفه عبر محطات قفز فيها قفزات نوعيه ،وسجل نجاحا عبر نزيف مستمر،وعذااب طاحن ،وتجارب مريرة ،وتضحيات جسام ،ولكنه في نهاية كل محطه كان يسجل خطوة الى الامام لتحقيق اهدافه وبناء دولته المستقله،رغم كل العذابات والمحن.
كانت المحطه الأولى :
بما يعرف باسم النكبه عام 1948 ،وشهدت الأرض الفلسطينيه الكثير من المجازر ،ولعل أشهرها مذبحة (دير ياسين) ،ومن احداثها الشهيرة اغتيال وسيط الأمم المتحده الكونت فولك برنادوت . يشير الكاتب ( يوران بورين) في كتابه ( جريمة اغتيال الكونت فولك برنادوت ) الى سبب اغتياله ومن هم الذين قتلوه فيقول إن اقتراح برنادوت -عبر خطته للسلام في 27 يونيو 1948- بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من القتال أو طردتهم القوات اليهودية إلى بيوتهم واستعادة ممتلكاتهم قد أثارت حفيظة اليهود فاتفقت منظمة (أرجون زفائي لئومي) الصهيونية التي كان يرأسها رئيس وزراء إسرائيل (فيما بعد) مناحيم بيجن ومنظمة (شتيرن) برئاسة رئيس الوزراء (لاحقا) إسحق شامير على اغتيال الوسيط الأممي السويدي الكونت برنادوت، ونُفّذت بالفعل حادثة الاغتيال في 17 سبتمبر 1948، ورحل الكونت عن عمر ناهز 53 عاما. ثم جرت الأحداث وتم تهجير الآلآف من الفلسطينين خارج بلادهم ،وتم تشييد العديد من المخيمات لأيوائهم ،ومن ثم اصبحت المشكله
الرئيسيه ليست عودة الأرض والوطن وانما تركزت على هيئات اغاثة اللاجئين، بعد ان اسفرت الحرب العربيه الاسرائيليه عن وضع الضفة الغربيه باعتبارها امانه لدي امارة شرق الاردن ،وقطاع غزة تحت الاداره المصريه ،بينما توسعت اسرائيل في ضم الأراضي الفلسطينية اليها ،والتي تفوق من حيث المساحة قرار التقسيم الذي اصدرته هيئة الامم المتحده 1947. في اثناء الهدنه الثانيه للحرب . اصدرت كل من (امريكا وبريطانيا وفرنسا) البيان الثلاثي 1950 بحماية الحدود القائمه بين اسرائيل والعرب ،ومن ثم هدأت عمليات العسكريه
المحطه الثانيه :
تشكيل منظمة ( فتح ) عام 1957 في الكويت وكانت من خمسة اعضاء اولهم ياسر عرفات وخليل الوزير واّخرون ،وقد انضم لهم بعد ذلك صلاح خلف (أبو اياد)واّخرون،وكانت منظمى سريه،الى ان أصدرت أول جريدة لها اتحت اسم ( فلسطيننا) نداء الحياة 1959 فاصبحت معلنه و تشكل جناحها العسكري باسم (العاصفه)وبدأت عملياتها في الأرض المحتله 1965 من سوريا ،وهي اول منظمة فلسطينيه تشكل بأهداف محددة وهي 1 – تحرير فلسطين 2 – الوسيله الكفاح المسلح 3 – استقلالها عن اي تنظيمات أخرى. تغير اسم تنظيمها المسلح الى ( شهداء الأقصي )
المحطه الثالثه :
تشكيل منظمة التحرير الفلسطينيه عام 1964 في مؤتمر القمه العربي الذي دعى اليه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في ديسمبر عام 1963 بعد الاجراءات التي اعتزمت اسرائيل القيام بها لتحويل مجري (نهر الاردن)،وقد عقد المؤتمر في القاهره في يناير 1964 ،ثم عقد مرة ثانيه في اغسطس من نفس العام 1964 في مدينة الاسكندريه واتخذ قرارا بانشاء منظمة التحرير الفلسطينيه ،واسندت قيادتها الى السيد احمد الشقيري وهو شخصية سياسيه فلسطينيه ذات تاريخ،فقد شغل منصب سفير المملكه العربيه السعودية في الأمم المتحده ،وكذلك كان الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربيه
المحطه الرابعه : نكسة عام 1967
كانت النكسة ضربة قوية ،ولكنها في نفس الوقت اشعلت نار المقاومة ،ووصفها عبدالناصر ( ان انبل الظواهر بعد النكسة هي المقاومة الفلسطينيه ،وان المقاومة وجدت لتبقي )،وصحب عبدالناصر ياسر عرفات ضمن الوفد المصري الى موسكو ،وقدم للأتحاد السوفييتي وجها مناضلا للمقاومة الفلسطينيه وبذلك مد خيوطها للعالم الخارجي،وفتح لها ابواب الدعم للمقاومة، كما عزز بقية التنظيمات المقاومة مثل الجبهة الشعبيه للنضال الوطنى الفلسطيني ،ويروي زعيمها الراحل (جورج حبش) في كتاب (الحكيم) للكاتب اللبناني فؤاد مطر العديد من سبل الدعم ،وباختصار كانت تلك النكسة سببا في تطوير الجيش المصري بقيادة الفريق ( محمد فوزي ) وتأهيله على احدث مستوى من التدريب والتسليح مكنته
من خوض حرب الاستنزاف ضد اسرائيل ، وطرحت امريكا (مبادرة روجرز) وقبلها عبدالناصر لأنها تمكنه من استكمال اعداد قوته العسكريه من خلال ( بناء قاعدة الصواريخ ) ونقلها الى ضفة القنال وقد لعبت دورا جوهريا في عبور القوات المسلحه عام 1973 . ورحل عبدالناصر بعد ان
لعب دورا هاما في تصفية الخلاف الفلسطيني الأردني عام 1970 ، وحدث العبور العظيم في حرب عام 1973 ،وسجلت القوات المسلحه بطولات جسوره في أدائها ، وان كانت هناك العديد من الملاحظات على القياده السياسية لتلك الحرب ويروي تفاصيلها كلا من اللواء سعد الشاذلي والفريق ( الجمسي) قائد العمليات في حرب عام 1973 . في أثناء انعقاد القمة العربية في الجزائر ما بين 26 ،28/11/73 تبنت القمة قرارا يعترف لأول مرة بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني بموافقة جميع الدول العربية باستثناء الملك حسين الذي امتنع عن التصديق على هذا القرار ولذلك لم يعتمد وبقي الأمر سرا ، وان كان قد تم الاعتراف به لاحقا .
المحطه الخامسه
قام الرئيس الراحل انور السادات برفع شعار ان 99% من حل القضية العربيه في يد الولايات المتحده الأمريكيه،وترك 1% فقط للارادة الوطنيه ،والعومل الاخرى،،وقام بزيارة اسرائيل عام 77 وسط اعتراض عربي واسع والقى خطابا في الكنيست يطالب فيه بالسلام للجميع ،وقام بتوقيع معاهدة كامب ديفيد عام 79 في اطار صلح منفرد ،وكانت تلك او خطوة في انقسام عربي ،افسح المجال امام اسرائيل لكي تتغور في بناء المستوطنات وتتسع ، بعد ان خرجت مصر من المعركه .
المحطة السادسة
فشل قيام جبهة شرقيه من العراق وسوريا ،في مواجهة اسرائيل تعوض خروج مصر من المعركة ثم انشغل العراق في الحرب مع ايران،وبعد توقفها قام العراق بغزو الكويت استنادا الى دعاوى الحقوق التاريخيه،وخلافات تتعلق بحقول النفط ،مما ادى الى انقسام العالم العربي ،وبدلا من حل الخلاف في اطار عربي تم اللجوء الى القوى الاجنبيه بمساعدة قوى عربيه الى غزو العراق، وكان غزوا يستند الى مبررات تم كشف زيفها ،كما
كان ايضا مدبرا لتخريب العراق والتمثيل به في نهاية الامر ،وبرز بعد ذلك الدور الايراني ،واستعانة بعض الدول العربيه بعقد اتفاقات امن مع قوى خارجيه ،وعادت الامة العربيه لكي تعرف معنى ارتفاع اعلام اجنبيه على اراضيها ،ونظرا لوقوف منظمة التحرير الفلسطينيه الى جانب العراق فقد تم محاصرتها وعدم دعمها ،ومن ثم توالى خروج فلسطين من الاهتمامات العربيه ، واضحت القضية الفلسطينيه لا تشغل المؤسسات الرسميه العربيه .
المحطه السابعه
مع الوهن والضعف العربي ،توالت المبادرات العربيه للسلام تحت شعار ( ألأرض مقابل السلام ) في الوقت الذي رفعت فيه اسرائيل شعار ( السلام مقابل السلام ) اي ان الارض وقيام الدولة الفلسطينيه حتى في اطار حدودعام 1967 لم يعد امرا قابل للتنفيذ من قبل اسرائيل .
المحطه الثامنه
لأمتصاص الغضب الشعبي العارم لما حدث للعراق ،عمدت امريكا لعقد مؤتمر (مدريد) لتسوية القضية الفلسطينيه ،وحين اشتم ياسر عرفات عدم الجدية في ذلك ،استجاب لدعوات (اوسلو) وعقد اتفاقا دخل بموجبه أكثر من مائة الف فلسطيني الى ارضهم، وللنضال من على ارض الوطن تجنبا للخلافات في سوريا ولبنان والأردن،والاغتيالات التي قام بها الاسرائيليون في تونس وعمد اليمين الاسرائيلي ونتنياهو كان واجهته ،للمعارضة العنيفه لأوسلو ،وتم اغتيال (اسحاق رابين) ومحاصرة (عرفات ) الى ان تم اغتياله،وبذلك تم اغتيال دعاوى ( السلام) وهي في مهدها .
المحطه التاسعه
تراجعت القضية الفلسطينيه الى مدى بعيد ،وبدأت مرحله جديده بالأعترافات العربيه باسرائيل تزحف وتتوالي ،ودعاوى التطبيع معها على نحو مخيف ، وكأن فلسطين اصبحت جزءا من التاريخ ،ولا وجود لها على الارض ،اي انها جزء من ماض لم يعد محل اهتمام اورعاية،كما تراجع الأنتباه الى قضايا الأمن القومي العربي برمته و بأولوياته ،واصبحت السياسة القطريه ومصالحها الآنيه هي الضاغطه ،وتكرار مقولة ( هذا القطر او ذاك .. أولا ) .
المحطه العاشره
استيقظ العالم ذات صباح يسمى السابع من اكتوبر عام 2023 ، مهما كانت الخلافات حول اسلوبه أو دعاويه أو الثمن الباهظ الذي تم دفعه من الدماء التي جرت شلالات بالمعنى الحقيقي وليس الرمزي ،الا انه وضع اسم فلسطين على مرأي ومسمع من دول العالم ،وجعل اعلامها ترفرف في ميادين وشوارع عواصم الدنيا بأسرها ،بل وعلى ابواب ( البيت الأبيض ) في امريكا ذاته ،واصبح التعارف على وضع اسم فلسطين ضرورة حتميه على خريطة اي تسوية دوليه ،وقيام دولتها ضرورة حتميه بارادة دوليه .ويتطلع العالم اليوم الى توقيع اتفاق وقف اطلاق النار لمدة اسابيع ،تبحث في خلالها اتفاقات اخرى تحقق تسويات جديده لا تتجاهل فلسطين والفلسطينيون ودولتهم . اصبح الكل – ماعدا اسرائيل – يتكاتف من اجل حل لقضية مزمنه . اصبحت غزة املا في الطريق الى حل يرعاه العالم .