شعر المتنبي على لائحة طعام ارجنتينية

كيف كتب بورخيس ترجمة بيت شعر المتنبي على لائحة طعام في فندق لبناني في بوينس أيرس؟

خورخي لويس بورخيس (1899-1986) الكاتب الأرجنتيني المؤثر في الثقافة الإسبانية وفي الثقافات الأوروبية الأخرى، عرفه العرب عبر ترجمات لمعظم أعماله الأدبية والفكرية: التأملات والقراءات والقصائد والتعليقات على كتب وأفلام وشخصيات ووقائع.

وهو من قلة حضروا في لغتنا فأحس القارىء أنه واحد منهم أو من أسلافهم الأقربين، ومبعث ذلك وجود الثقافة العربية في صلب كتاباته: كيف يكون معبرا عن الثقافة الإسبانية ولا تتداخل في أعماله أنفاس الأندلس وذاكرتها المشرقية وآلام الموريسكيين المقتلعين من وطنهم؟

ذات يوم من أربعينات القرن العشرين كان بورخيس يصطحب أصدقاء الى مطعم “لوكندة الوردة البيضاء لصاحبها خليل إبراهيم” في بوينيس آيريس. أكلوا من المائدة اللبنانية التي تختصر موائد المشرق العربي، وعلى لائحة الطعام كتب بورخيس بخط يده ترجمة إسبانية لبيت شعر المتنبي: “الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم”، ووقّع الترجمة باسمه.

هذه اللائحة/ الوثيقة حفظها بورخيس أو أحد أصدقائه لتظهر في كتاب فرنسي عن بورخيس صدر عام 1957 في سلسة cahier de l، herne. ومن دلالات اللائحة أن العرب لم يكونوا بعيدين من بورخيس في ذلك الماضي الزاهر لحضارة الأندلس المتفتحة للتفاعل الثقافي العربي/ الأوروبي. كانوا حاضرين في مدن الأرجنتين جالية لبنانية/ سورية لم تخل من أعلام مثقفين، إذ ضمت الجالية أيضا خريجين من الجامعة الأميركية في بيروت وكتابا وصحافيين أصدروا هناك وفي سائر أنحاء أميركا الجنوبية والوسطى صحفا ومجلات وطبعوا بالعربية كتبا في الشعر والنثر، وفي هذا دليل الى مساحة واسعة من القراء العرب المغتربين في تلك المرحلة، كما أن بعضهم انخرط في وطنه الثاني وتقلد مناصب في الجيش والإدارة وبرز في الأعمال الحرة. ومن الطبيعي أن يتفاعل هؤلاء مع الثقافة الإسبانية، فلنا أن نفترض وجود موظف في فندق “الوردة البيضاء” قرأ كتبا لبورخيس فرحب به في المطعم ترحيبا خاصا. وليس اسم الفندق معزولا عن ماضي مالكيه، فإن خليل إبراهيم (لعله من منطقة وادي التيم في لبنان) سمى الفندق باسم الفيلم الأول لمحمد عبدالوهاب.

حين يكتب خورخي لويس بورخيس فكأنما يعرض كتابات شخص آخر مقترض ليناقش ويتفاعل معها. إنها سمة كاتب إنساني لا تأسره ثقافة محدودة أو أيديولوجيا صارمة. وهو، كما عودنا، لا ينقصه الإحساس بالمفارقة، ومن ذلك أن يكتب بيت شعر في الفخر لكبير شعراء العربية على ورقة مجاورا الـ”برغل مفلفل” والـ”كوسا بلحم” ولـ”هندبة بزيت” وسائر المآكل اللبنانية في اللائحة.

ومن التعددية الأرجنتينية الى هموم لبنانية مقيمة، فقد شكوت لصديقي المصري الانقسامات الطائفية في لبنان وتعريضها إياه لخطر دائم إذ تلعب بلا كلل على حافة الهاوية.

قال صديقي إنه يعجز عن فهم إعجابي بالاستقرار في بلده، استقرار يسميه ركودا لأنه فاقد الحيوية الداخلية. واسترسل متحدثا عن “فضائل” ديموقراطية الطوائف وحيويتها الفائضة على اللبنانيين جميعا، وأنها أيضا مبعث إعجاب المواطنين العرب في أقطارهم كافة.

لم يقنعني ولم أقنعه، هذا المعجب بما أشكو منه فيما يعجبني موضوع شكواه، لذلك حولنا الحديث وجهة أخرى.

حين افترقنا تذكرت رواية “الطوف الحجري” للبرتغالي جوزي ساراماغو، وتخيلت فكرة الرواية وقد طبقت في لبنان:

ما تبقى من كلاب في قرى لبنان تنبح من دون توقف فلا ينفع سوى الرصاص الذي لا يسكتها كلها، وقادة طائفيون يرمي كل من منطقته حجرا في مياه المتوسط، ومثقف هامشي تتبعه الطيور أنى يتوجه، وأرامل قتلى الحروب يرسمن بأغصان الشجر خطوطا على التراب.

بعد النذير، تسمع أصوات عالية لارتجاجات أرضية وشروخ، وتنفصل الأرض اللبنانية عن محيطها، تصير إسرائيل جارة بحرية لسورية، لكن الأرض التي تبحر بلا وجهة ما تلبث أن تنشرخ وتنقسم طائفيا. يحاول كل جزء الاتحاد بدولة في المتوسط لكن الدول كلها ترفض إضافة أرض جديدة بائسة.

تهيم الطوائف وأراضيها في بحر الحضارات، تهرب منها السفن ويدب الذعر في السمك وسائر الكائنات البحرية.

يصرخ الطائفيون فوق جزرهم المتحركة طالبين النجدة، ليقوم المجتمع الدولي بلملمة الأراضي التائهة بسكانها، ويرتقها ويعيدها الى مكانها الأصلي، هكذا لتواصل سيرتها الأولى وإلى الأبد.

واذكر في الجزائر دلالات عزلتها الخانقة إذ وجه منتمون الى بقايا حركة النهضة الإسلامية أسئلة شفوية وكتابية تتهم الحكومة بتبذير المال العام بــ”ضخها أموالا طائلة في مهرجانات هلامية تنتهي بفضائح أخلاقية”. وكان هؤلاء ركزوا هجومهم في مرحلة سابقة على وزيرة الثقافة، وحين ردت عليهم بحدة هددوا بمقاضاتها وقالوا انها اتهمتهم بأنهم نازيون جدد.

وإذا كان كلامهم دقيقا فإن الوزيرة تكون استخدمت نعوتا يصح قولها في أوروبا لا في الجزائر التي لم تشهد نازية قديمة كي تجددها. لكن المشكلة ليست في القول انما في الباعث عليه، فهؤلاء النواب ينظرون بخفة الى الثقافة الأفريقية والى انفتاح الجزائر على القارة السمراء، ولا يدركون أن بلدهم كان منارة هذه القارة وملجأ مثقفيها ودعاة استقلال دولها.

يعيش هؤلاء وأمثالهم في عزلة عن العالمين القريب والبعيد مكتفين بما عندهم، مازجين الجهل بالتجاهل في ما يخص علاقتهم بالثقافات الأخرى، حتى تلك الداخلة في تكوينهم وعوا ذلك أم لم يعوه.

هذه العقلية تشكل دافعا من دوافع هجرة النخب الجزائرية الى أوروبا وأميركا. وتبدو منطقية هذه الهجرة التي يشكو منها الوطنيون، ومنهم رئيس منظمة المبدعين والبحث العلمي في الجزائر الذي صرح في اليوم التالي لهجمة النواب على مهرجان ثقافي، بــ”ان وجود مئة ألف عالم وباحث جزائري في الخارج يعكس غياب العلاقة بين هذه الشريحة المميزة والسياسيين الجزائريين”.

هكذا تطرد الجزائر فقراءها عبر قوارب الموت وعلماءها ومبدعيها عبر اهتزاز الأمن وتسلم عقليات متخلفة أو استئصالية مقاليد السلطة والمعارضة.

بلد المليون شهيد ذو الحيوية المشهودة يتحول الى بلد خامد يخيم عليه سلام الذئب والنعجة.