ريما كركي
»أريد أن أموت على المسرح«، هذا ما رددته داليدا في أغنيتها الشهيرة.
وكأن الاغنية جاءتها في الوقت المناسب. كانت قد انتهت لتوّها من تصوير حلقة جديدة من برنامجها. خرجت من الاستديو بعد ان انطفأت الاضواء وهدأت الموسيقى وتلاشى التصفيق. كعادتها غادرت المسرح راكضة باتجاه سيارتها، لتشعل الراديو وتبدأ رحلة الهروب المتكرر، تلك الليلة جاءتها داليد بتلك الاغنية… وراحت تستمع
» أريد ان اموت على المسرح moi je veux mourir sur sceneا
إرتسمت ضحكة ساخرة زاهدة على شفتيها، فبتقديرها أن داليدا لم تنتظر الموت على المسرح كما غنّت، ولم تكن متعلقة بنجوميتها إلى هذا الحد، بل هي في أوج نجاحها، كانت تدرك أن الحياة الفارغة من حضن الحبيب، حياة ميتة لا ضوء فيها، ولو كان المشهد نابضا بأشعة النجاح والتألق.
راحت تقود السيارة وتستمع… وداليدا تُعيد »أريد أن أموت على المسرح«، إنتابها شعور غريب وكأن الاغنية تخصّها أو تحاول وصف حالها هي.
نظرت في مرآة السيارة… رأت فيها وجها غريبا لا تعرفه. نزعت حليها كمن ينتزع قيدا خانقا، مسحت »مكياجها« بعصبية، كمن لن يسمح أن تسلبه الاقنعة حقيقته، حرّرت شعرها المرتب المصفف من تلك المرأة التي لا تشبهها، رمت بالحذاء الانيق ذي الكعب العالي من النافذة…
قادتها السيارة إلى القرية، خرجت منها تاركة بابها مشرعا، كما لو أنها لا تنوي العودة وأخذت تركض في ظلام لا يخرق سكونه إلا لهاثها ودموعها. راحت تبحث عنه في ذلك الوادي، حيث كانا يحلمان معا، يضيئان الليل بحب تعاهدا على ألا ينتهي أبدا… تعاهدا أن يجعلا منه أسطورة تُبهّت قصص قيس وليلى وروميو وجولييت، فولعهما بدأ منذ اللحظة الاولى مجنونا ومميتا، وبنهايته سينتهي الكون وستزول الكواكب وستنطفىء الشمس.
بحثت عنه بين الاشجار وفي أزقة القرية الضيّقة، سألت عنه كل القناديل الساهرة والشموع الباكية، مرّت بالقرب من تلك الحديقة حيث كانا يأكلان معا من طبق واحد، من لقمة واحدة… حيث كانت تلوث فمها عن قصد كي يمسحه ببراءة شقية، ويستسلم بعدها لعاصفة لا صيف لها، ما زالت أصابعه تستكشف وجهها وعينيها وشفتيها… وما زال طيفه يسكنها، وما زالت ترتجف شوقا للحظات تختصر عمرا كاملا.
بحثت عنه هناك… أرادت فقط أن تقول له أنها لا تحلم بالنجاح، ولا بالموت على المسارح، ولا بتصفيق الجماهير، تحلم بيديه تقتحمان شعرها، وبحبه يبعثر فستانها الانيق الخانق، وبحواسه تختلط بجلدها ودمها. هي »لا تريد الموت على المسرح«، بل تبحث عن موت جميل في حضن لا يعكّره ضوء مزيف، ولا حلم لمّاع تكذب فيه على نفسها… هي فقط هاربة منه اليه، وتتكل على الاضواء لتلهيها عن ذكراه، لتساعدها على محوه من روحها…
»لا تريد الموت على المسرح«… تريد أن تموت حبا وغرقا في عينيه.. أن تغفو غفوة أبدية على ذلك الكتف حيث حفرت رأسها.. وحيث الضوء الذي لا ينطفىء…