غزة.. أهناك حياة قبل الموت؟

أنطولوجيا توثق صرخات 26 صوتا شعريا غزاويا في وجه العالم

ماذا بإمكان الشعر أن يفعل في زمن الحرب وتكالب قوى العالم على شعب متمسك بأرضه وحقه في العيش بكرامة

غلاف أنطولوجيا غزة أهناك حياة قبل الموت

وسلام؟ وماذا بإمكانه أن يضيف وسط كل التنديدات والتظاهرات والأصوات التي علت وعمت مختلف بقاع العالم مطالبة بوقف الحرب والعدوان القتل الجماعي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وتحديدا قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؟

بإمكان الشعر فعل الكثير كما يقول الكاتب والسياسي الفرنسي الراحل من المارتينيك إيمي سيزير، الذي وصفه بـ “الأسلحة المعجزة” القادرة على “قتل فيروس الكراهية، وتقويض أسس عبادة القوة، ومواجهة كل ما يحط من شأن الإنسانية ويشوه الحياة ويمجد الموت”.

الشعر السلاح المعجزة

إن هذه المعجزة مازالت سارية إلى اليوم، كما يقول الكاتب والشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في تقديمه للأنطولوجيا الشعرية التي أنجزها بمعية الشاعر والكاتب والإعلامي المغربي ياسين عدنان عن الأصوات الشعرية بغزة تحت عنوان “غزة.. أهناك حياة قبل الموت؟” والصادرة حديثا عن “دار الرافدين للنشر والتوزيع” ببيروت، وهذه المرة يحدث ذلك في غزة “غزة، هذا الاسم الذي يكفي النطق به ليسلخ الشفاه ويحرق الرئتين”، مستعيدا ما أحدثته أبيات

أنطولوجيا شعراء غزة

الشاعر مروان مخول، أحد الشعراء الممثلين في أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن التي تحمل عنوان “أن تكون فلسطينيا” التي أعدها عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان والصادرة عام 2022، التي يقول فيها:

“لكي أكتب شعرا ليس سياسيا

يجب أن أصغي إلى العصافير

ولكي أسمع العصافير

يجب أن تخرس الطائرة”.

فهذه الأبيات القليلة، كما يقول اللعبي: “خلفت صدى عالميا فاق كل التوقعات. وقد نسخت بخط جميل على لافتات ورفعت في العديد من البلدان، في مظاهرات حاشدة لدعم الشعب الفلسطيني. كما طبعت على قمصان ارتداها الكثير من الشبان. ولم يتردّد أحد هؤلاء في وشمها على ساعده. كما تهافت عليها العديد من الموسيقيين وفناني الفيديو لإعادة الاشتغال عليها بطرق أخرى، وفق أشكال قادرة على التأثير في وجدان أوسع جمهور”.

ولأن اللعبي، يميل إلى الاعتقاد بأن هذا الشعر تبنى، جيلا إثر جيل، فكرة مفادها أن “شعبا لا يمكن أن ينتصر على مضطهده إلا إذا كان متفوقا عليه، أخلاقيا”، فإنه يقول إن “الأصوات التي تنبثق من هذا الكتاب ترقى إلى مستوى توقعات هذا النوع من المثل.عسى ألا تغمر إمبراطورية الموت جزيرة الشعر الخارقة”.

أهناك حياة قبل الموت؟

غلاف النسخة الفرنسية

وانطلاقا من عنوان الأنطولوجيا المتضمن لسؤال استنكاري رهيب “أهناك حياة قبل الموت؟”، مستقطع من قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوتي، يقول فيها:

“أتلمس أحوالي منذ ولدت إلى اليوم

وفي يأسي أتذكر

أن هناكَ حياة بعد الموت

هناك حياة بعد الموت

ولا مشكلة لدي

لكني أسأل:

يا الله!

أهناك حياة قبل الموت؟”.

تأتي هذه الأنطولوجيا، التي تقع في 203 صفحات، لتكون شهادة حية على واقع أليم وحرب ما زالت مستعرة إلى الآن، تفضح قبح العالم وتعيد المجد للإنسان، حيث تقدم مقتطفات من قصائد 26 شاعرا وشاعرة من غزة، منهم المقيمون

الشاعر عبد اللطيف اللعبي

في غزة ومن مازال على قيد الحياة ومنهم من فارقها بسبب هذه الحرب الهمجية مثل الأكاديمي والشاعر واللسان الإنجليزي للمقاومة رفعت العرعير (1979-2023) صاحب مبادرة “نحن لسنا أرقاما”، والكاتب نور الدين حجاج (1996-2023)، ومنهم الموزعون في الشتات بمختلف بقاع العالم، وهي قصائد تعبر عن التاريخ المأساوي للشعب الفلسطيني، وعن الاعتداء الشنيع الذي يتعرضون له أمام أنظار العالم، حيث يخطون آخر آلامهم وآمالهم في العيش بسلام من دون حاجة إلى استنكار أو تعاطف العالم، حيث يقول الشاعر حسام معروف بمرارة:

“من يقف خلف المنظار

لا ينقذ الغريق

إننا لم نعد نريد منكم شيئا…

نريد فقط أن نموت بأمان”.

الشعر كبلسم في زمن الحرب

هذا العجز والإحساس بالخزي هو الذي حرك الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان للتواصل مع الشعراء الغزيين في صيف عام 2024 من أجل جمع القصائد التي توثق لمعاناتهم وموتهم، لأنهم كما يقول في تقديمه: “كانوا يموتون مرارا

الشاعر ياسين عدنان

قبل الموت. يتنقل شعراء غزة مع أهلهم من مكان إلى آخر داخل القطاع المحاصر، الأوامر المتكررة بإخلاء المناطق التي يسكنونها تخرب سكينتهم، والقصف الأعمى يطاردهم. فيما كنت أطالبهم بمكان إقامتهم: هنا والآن. لأن نبذات تعريف الشعراء، كما ننوي نشرها في الأنطولوجيا، يجب أن تتضمن هذا التفصيل”.

وعبر اقتفائه لأثر الشعراء الغزيين، كان الشاعر ياسين عدنان يجاور الأهوال ولو عبر مسافة، كما يقول: “أجاورها وكأنني في قلبها. كان الحر في مراكش لاهبا، وكان الأهل والأصدقاء موزعين على الشواطئ. أما أنا، فقد قررت أن أحبس نفسي في قيظ مراكش تضامنا. تلبستني حالة اكتئاب. لكن الشعر كان البلسم. كانت قصائد الشعراء الحارقة تسري عني وتواسيني. تعيد لي الثقة في الكلمة، في دورِها، وفي قدرتِها على المقاومة”.

وهنا كان جواب الشعراء الغزيين الممثلين في الأنطولوجيا عن سؤال ما جدوى إعداد أنطولوجيا لشعراء غزة، فيما القطاع محاصر وأهله يقصفون صباح مساء؟ ما معنى أن نطلب الشعر في زمن الحرب؟ والمسلحون بالأمل والإيمان

الشاعر حسام معروف

الراسخ بشرعية قضيتهم الأبدية، حيث قال الشاعر رفعت العرعير قبل أن يموت:

“إذا كان لا بد أن أموت

‏فلا بد أن تعيش أنت

‏لتروي حكايتي

‏لتبيع أشيائي

‏وتشتري قطعة قماش

‏وخيوطا

‏(فلتكن بيضاء وبذيل طويل(

‏كي يبصر طفل في مكان ما من غزة

‏وهو يحدق في السماء

‏منتظرا أباه الذي رحل فجأة

‏دون أن يودع أحدا

‏ولا حتى لحمه

‏أو ذاته

‏يبصر الطائرة الورقية

‏طائرتي الورقية التي صنعتها أنت

‏تحلق في الأعالي

‏ويظن للحظة أن هناك ملاكا

‏يعيد الحب

‏إذا كان لا بد أن أموت

‏فليأت موتي بالأمل

‏فليصبح حكاية”.

أو كما قال الكاتب والشاعر الفلسطيني نورالدين حجاج:

“لا تكترثوا للمشهد الأخير

إن كان حرقا أو غرقا أو قفزا من علو أو طعنا

في غزة نحن نموت عدة مرات قبل هذا”.

أو قوله:

“متعب من الركض في متاهات الحياة

بلا وجهة واحدة آمنة منذ ستة وعشرين عاما”.

26 شاعرا وشاعرة من غزة

وإلى جانب الشاعرين الشهيدين: رفعت العرعير ونور الدين حجاج، تضم الأنطولوجيا كلا من الشعراء والشاعرات: هشام أبو عساكر، كوثر أبو هاني، مصعب أبو توهة، حامد عاشور، يحيى عاشور، أدهم العقاد، وليد العقاد، نور بعلوشة، شروق محمد دغمش، أشرف فياض، أنيس غنيمة، حيدر الغزالي، فاتنة الغرة، وليد الهليس، نعمة حسن، عثمان حسين، هند

الشاعرالفلسطيني الراحل نورالدين حجاج

جودة، ضحى الكحلوت، حسام معروف، منى المصدر، آلاء القطراوي، يوسف القدرة، ناصر رباح، وإيناس سلطان.

وتجدر الإشارة إلى أن النسخة الفرنسية من هذه الأنطولوجيا التي قام بترجمتها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، الذي عايش الشعر الفلسطيني وناصره وترجمه وشاطره لأزيد من نصف قرن، قد صدرت في شهر أبريل/ نيسان الماضي في كتاب الجيب عن دار “بوان” الفرنسية Points/poche، وقدمت في مهرجان باريس للكتاب المنظم من 11 إلى 13 أبريل/نيسان 2025، الذي احتفى بالمغرب كضيف شرف في دورته الرابعة، ثم في المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط المنظم من 17 إلى 27 أبريل/نيسان 2025.