خمسون عاما على رحيل ..
تفردت في تاريخ الغناء العربي بمكانة لم ينازعها فيه أحد،وحملت القابا لم يقترب منها أحد،فهي كوكب الشرق ،و سيدة الغناء العربي، وعبقرية العصر الغنائيه ،وهي ايضا بمقتضى وسام ( الكمال) الذي منحه لها الملك فاروق عام 1946 تحمل لقب (صاحبة العصمة) في البروتوكول .لكنها في دنيا الغناء وعالم الطرب هي الأسطورة الخالده،على مجري تاريخ الغناء العربي.أنها الأمبراطوره الحاكمه (للتذوق الفنى) وصاحبة الجلاله في فن الطرب والأنشاد.انها قيثارة للزمن الجميل ،ووتر للمشاعر الرؤوم، كما انها نغم للأحساس الرفيع،ولحن للفؤاد وللأذن، يهدهد في دواخلنا، عواطف وحنين. تصادف هذه الأيام مرور خمسون عاما منذ ان فارقتنا (أم كلثوم) ورحلت في 3 فبراير 1975، كما انه يصادف كذلك مائة عام تقريبا على طبع أول اسطوانة لها،وكانت أغنية (ان كنت اسامح وأنسي الأسيه) وقد سجلت عام 1928 ،وهي من ألحان (محمد القصبجي)وقد حققت أرقاما عاليه في عملية التوزيع،وأكدت موقع أم كلثوم وأهميته في عالم الغناء.

صوت تربع على عرش الغناء بلا منافس
خمسون عاما مرت على رحيلها، ولازالت تملأ بصوتها اسماعنا،وتسكن وجداننا. وبتعبير أكثر شمولا لم تزل تتربع على عرشها في اّذننا . ولا زالت رغم غيابها في ثنايا وجداننا .وتشهد ارقام مبيعات تسجيلاتها ارقاما عاليه في التوزيع، وقد برزت بالتأكيد في عالم الغناء اسماء متعددة ،وتتابعت على مسامعنا اصوات لها جمالها، وتكاثرت مع سنوات الطرب والشجن الحان لها بريقها،،ولكن مكانتها لم تهتز وتضعف ،ولم يخفت صوتها، ولم يتوار فنها. مازالت هي الأمبراطوره، التي توجتها الأمة العربيه في مخزون مشاعرنا ،واختارتها في استفتاءت حره،شعبيه وجماهيريه ونزيهة ،بحكم تلقائيتها ،وما أندر الأستفتاءت الحرة والنزيهة في بلادنا. انها هي كما كانت تغنى وننتشي بصوتها. كلما غنت ، ونسهر مع أوتارها مهما طالت .فهي ليال تعد في حساب السهرات هي الاجمل، وفي حساب الزمن هي الأسعد، ونردد مع ذكراها ونتأمل مسيرتها وهي تشدو ( تبسم الفجر في عيوني، وغرد الطير في لساني، وصرت من نشوتي اغنى، والليل يروي الحديث عني).أنها النغم الخالد في حياتنا،والطرب الموصول في اّذننا،والوجع الساكن فينا بعد رحيلها. انها أم كلثوم .
أم كلثوم .. واحتراف الغناء
ولدت ام كلثوم يوم 31 ديسمبر 1898 في قرية (طماي الزهايره) مركز السنبلاوين محافظة المنصوره ،والدها كان اماما للجامع ومنشدا للتواشيح اسمه(ابراهيم البلتاجي )،وأمها ( فاطمه المليجي) ولذلك كان مولدها في أسرة تعنى بالكلمه واللحن،وتلقت تعليمها في الكتاب ،حيث تعلمت قراءة القراّن ،وهو ما عكس سلوكها فيما بعد كأسرة متدينه محافظة، وايضا درايتها بتعلم اللغة ونطق الكلمات باجاده ،وكان لذلك كله مردوده بالطبع في سلوكها العام،ومعرفتها بقواعد الحروف. لم يكن سنها قد تجاوز الثلاث سنوات،وهي تردد،بعض الموشحات التي كان والدها(المنشد) ابراهيم البلتاجي

استاذها الأول الذي تعلمت منه فن التعبير
،يحاول تلقينها لأبنه الأكبر (خالد) كي يصبح منشدا يعاونه ويخلفه ان تقاعد ،كانت ام كلثوم تتابعه وتلتقط ما يقوله،دون ان يلتفت اليها أحد،وكما وصفتها أمها انها كانت طول النهار) تسرسع)في البيت.كبرت الفتاة ،وأصبحت في الثامنها من العمر،وذات يوم استمع الأب لصوت هذه الطفلة صدفة، وهي تردد ما يحاوله دائما مع شقيقها من حفظ لبعض الموشحات،فانبهر بها وبدرجة اجادتها واتقانها،فكان قراره ان تنضم الى الجوقة التي تصاحبه، بعد ان جعلها تلبس ملابس الصبيان وتغطي رأسها بعقال ،واستطاعت هذه الطفلة ان تعطي للجوقه اضافة جديده من خلال ( خامة ) الصوت ودرجة صفاؤه
أم كلثوم .. واستاذها الأول
كان حلم تلك الصبيه التي اصبح لها موقع، بمعنى مكانه ولو بسيطه في عالم الانشاد والغناء ان تلتقي بالشيخ (ابو العلا محمد) ويعد هذا الشيخ واحدًا من أهم الملحنين في الربع الأول من القرن العشرين وكانت أم كلثوم تسمعه عبر (الفونوغراف) في بيت العمدة في قريتها، وتشاء الأقدار ان يكون استاذها وراعي موهبتها بعد ذلك .تقول أم كلثوم (كنت أغني بلا إحساس ولا شعور.. كنت أردد الأغاني التي أسمعها من أبي بنفس الطريقة التي يردد بها التلميذ الصغير جدول الضرب وقواعد النحو والصرف.(. ثم غيرني سماع صوت ابو العلا وتأثرت به وهزني صوته،إذ كنت أشعر أثناء استماعي إليه وكأنه يغني لي وحدي واستمعت إلى صوته مئات المرات أثناء غنائه:(أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا)،وأيضًا (وحقك أنت المنى والطلب) وتابعت أم كلثوم قائلة في الوقت الذي كان فيه أطفال قريتها يرددون أغنية (أنا نازلة أدلع أملا القلل)، كنت أعيش مع أغاني الشيخ أبو العلا محمد، وقد اعتقدت في البداية أنه مات، ولم يخطر على بالها أنه مازال على قيد الحياة و يعيش في الدنيا التي نعيش فيها. لكن في محطة قطار مركز السنبلاوين عام 1916 سمعت احد الناس يقول (الشيخ ابو العلا هنا)، فهبت لتراه،هرعت تبحث عنه و تلقاه وترحب ،ثم تدعوه هي ووالدها لزيارتهم ،وحين تحدد الموعد للزياره ( طلبت من امها ان تذبح كل الدواجن لديهم ،ولدي الجيران أيضا ان امكن، فان اجمل احلامي سيكون في بيتنا هذا اليوم)، أخذ الشيخ ابو العلا بيدها
وكان معلمها الأول ،وهو الذي تولى تعريفها بالشيخ زكريا احمد ،الذ أشرف على تعليمها وتحفيظها مجموعة من التواشيح ،وكانت انطلاقتها الفارقه يوم ان توجهت الى القاهره عام 1920 لكي تقدم مع فرقة ابيها حفل في منزل

استاذها في عالم الشعر وفن الكلمه
(عزالدين يكن باشا) شقيق ( عدلي يكن رئيس وزراء مصر عدة فترات) ودخلت أم كلثوم لقاعة (السيدات) وهناك انشدت وغنت وأطربت الحاضرات، وكان ان قامت سيدة القصر باعطائها ثلاثة جنيهات وخاتم من الذهب ،وكان ذلك اعلى اجر تقاضته هي وأبوها حتى ذلك الوقت، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تذهب فيها الى (القاهره)
انتقالها الى القاهره
نصحها الشيخ ابو العلا ان تقيم في القاهره، بعد ان ذاعت شهرتها،وتكاثر حجم طلبها للغناء في الحفلات ،ولذلك عملت على استئجار شقه للأقامة الدائمه ،وكانت في منطقة (عابدين) وفي عام 1921 اقيمت لها اول حفل غنائي باسمها في القاهره. في هذه الفترة كانت تتربع على عرش الغناء (منيرة المهدية) وكانت تلقب بالسلطانه ،كما كان من نجوم الغناء(فتحيه احمد) لكن أم كلثوم كانت لونا جديدا،يعتمد على الكلمات التي تراعي العفه،والأخلاقيات العامه،والصوت القوى الجميل ،وحتى حين خلعت ملابس الصبيان التي كانت ترتديها في بداياتها ،وارتدت الملابس النسائيه ،كانت ملابس تتميز بالوقار والحشمه ،وكانت المدرسة التي تسادها تتشكل من قادة في الرأي وفي الفن ،منهم الشيخ مصطفى عبدالرازق وكان وزيرا للأوقاف ،واحمد رامي من الشعراء النابغين ومحمد القصبجي وزكريا احمد ،وهؤلاء أحاطوا بها ،بعد ان رحل الشيخ ابوالعلا .كما كان هناك معهد الموسيقي الشرقي الذي دعمها وشجعها في لون غنائها. مع ذلك لم تسلم ام كلثوم من المكائد والمؤامرات، وكانت اخطرها ما كتب عنها في احدى الصحف ان لها طفلا مجهول الأب ،ونشر ذلك في مجلة كان رئيس تحريرها صديقا مقربا من السلطانه منيرة المهدية ،غضب والدها وثار،وأمرها بحزم حقابها والعوده الى (طماي الزهايره) ولكن تدخل الشيخ مصطفي عبدالرازق وبقية أصدقائها ،وأقنعوه بأنها لو ضغط عليها بالسفر واعتزال فنها ، فانت بذلك تثبت هذا الأتهام الشائن على ابنتك ،ولكن بقائها واستمرارها ،سيحمي سمعتها،ويعلن طهارتها ببقائها،وسنتولى نحن أمرهذه المجلة ،واعلنت منيره المهدية انها بريئة من ذلك الخبر،وقامت المجلة بالنفي والاعتذار من رئيس تحريرها (عبدالمجيد حلمي).
مع نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات
كانت أم كلثوم كمطربه هي الأولى بين المطربات ،وكان عبدالوهاب هو الأول بين المطربين، وفي حين كان الشاعر احمد شوقي هو الجامعه التي تخرج منها عبدالوهاب ،فان أحمد رامي كان جامعة أم كلثوم الثقافيه والفكريه ،وتوالت القصائد والأغاني التي ينظهما لأم كلثوم ،واستطاعت بذلك ان تنهض بمستوى الأغنية، وبدأ فن الغناء في النهوض والارتقاء من خلال الكلمة العاطفيه المتزنه والمعبره في نفس الوقت
وتلاشت من الغناء الكلمات السوقيه والفاضحه والتي تنتفخ بألوان الخلاعة والمجون , لتبدأ مرحلة جديده من الغناء الذي يتميز بألوان الرصانه،وليس فقط بالتطريب وكثرة الآهات ،والكلمات حتى وان كانت خفيفه في الصياغة الا انها لاتتجاوز في المعنى. ومن هنا برز اساتذة فن الغناء، و ابتداء من نهاية العشرينات كانت ام كلثوم ويوازيها عبدالوهاب هما القمتان الرفيعتان اللتان يحتلان الصدارة .كان الأثنان هما فرسان المغنى والطرب في محطة الأذاعة الرسميه حين تم افتتاحها اواخر عام 1934 ، وبانشاء الدولة للأذاعة تلاشت المحطات الخاصة وكانت محطات تجاريه ،عامره بكل انواع الأبتذال والاسفاف.
أم كلثوم والسينما
كان التنافس حادا بين ام كلثوم وعبدالوهاب ،ولذلك حين انتج عبدالوهاب فيلم (الورده البضاء) وقام ببطولته 1932، وقام باخراجه محمد كريم ،كان على ام كلثوم ان تدخل ايضا هذا المجال فقبلت عرض (ستديو مصر) الذي أنشأه طلعت حرب لفن التمثيل لبطولة احد الافلام ولذلك كان فيلم ( وداد) الذي اخرجه الالماني فريتز كرامب .ويبلغ عدد الافلام التي قام ببطولنها عبدالوهاب سبعة افلام وعدد الافلام التي قامت ببطولتها ام كلثوم ستة افلام ، وقد أقبل الأثنان على

مع محمد الموجي وخلفهم انور السادات
التمثيل ،لأن السينما كانت تتيح لهما الظهور امام الجمهور الواسع الذي لايراهم ولكنه يسمع اصواتهما الغنائيه فقط في الراديو او الحفلات ، كما ان الحفلات محصورة في عدد محدود من الحاضرين ،اما السينما فتعرض في مصر وفي كل العالم العربي،وبذلك يراهم هذا الجمهور الواسع من المشاهدين .
ام كلثوم وثورة يوليو
اتخذ مندوب القيادة بعد قيام ثورة يوليو موقفا حادا من ام كلثوم ،ومنع اغانيها من الاذاعة باعتبارها من ذيول العهد البائد ،وحين علم عبدالناصر الغى ذلك القرار،بل وذهب الى زيارتها بصحبة صلاح سالم وانور السادات ،واعتذر لها عن هذا الخطأ ، وقدرت ام كلثوم لعبدالناصر هذا الموقف ، وتجاوبت مع قرارات الثوره ابتداءا من تحقيق الجلاء ،وخروج الانجليز والأصلاح الزراعي ،وبقية قرارات الثورة، لذلك كان صوتها بارزا في الكثير من المواقف ،بعد تأميم القناة غنت ( محلاك يامصري) وغنت في مواجهة العدوان الثلاثي ( ثوار ولآخر مدي ثوار) و ( والله زمان يا سلاحي)، ثم التغني بانجازات الثورة في ( طوف وشوف) ،وفي عدوان عام 1967 طافت بأنحاء العالم العربي تغنى من اجل دعم المعركه ،ومن اشهر حفلاتها حفل ( باريس). كما ارتبطت ام كلثوم بأسرة الزعيم الراحل بصداقة وطيده ،وتقول السيده تحية عبدالناصر في مذكراتها ( من الأخبار السعيده التي فرحت بها يوم ان أخبرني ( جمال) ان أم كلثوم ترغب في زيارتي ،واستقبلتها بحفاوة بالغه ويقول عبدالحكيم عبد الناصر ( لم اكن اعرف ان (تانت ثومة) التي اراها مع والدتي انها ( أم كلثوم ) التي تغنى الا بعد ان كبرت.
ولذلك كان حزنها عظيما على رحيل عبدالناصر . واعدت لرثائه قصيده كتبها الراحل العظيم ( نزار قباني) وتقول الكلمات ( حبيبنا قائدنا زعيمنا عندي خطاب عاجل ..من الملايين التي قد أدمنت هواك ..من الملايين التي تريد ان تراك ..عندي خطاب كله اشجان ..لكنني ..لكنني ياسيدي ..لا اعرف العنوان.
القاهرة وخمسون عاما على رحيل أم كلثوم
أعدت القاهرة عدة احتفاليات أقيمت في ذكرى وفاتها الخمسون،وفي شهر فبرايروهو الشهر الذي غادرت فيه ام كلثوم ورحلت عن عالمنا ،وقد أذاع موقع القاهره الأخباري تفاصيل تلك الأحتفاليات وقد تضمنت
الحفل الاستثنائي الذي سيعيد إحياء أجواء الزمن الجميل ويُحيي روائع الفن المصري والعربي. وقد اقيم تحت إشراف الهيئة الوطنيه للأعلام وتضمن مجموعة من الفقرات الفنية المميزة التي تهدف إلى تكريم إسهامات أم كلثوم الكبيرة في الموسيقى العربية. ومن أبرز المفاجآت التي شهدها الحفل هو العرض الفني باستخدام الذكاء الاصطناعي، والذي أتاح للحضور تجربة فريدة يشعرون خلالها وكأنهم يحضرون حفلًا تحييه أم كلثوم بنفسها. في هذا الإطار، أقامت دار الأوبرا المصرية برنامجا فنيا مكثفا تضمن فعاليات محلية ودولية للاحتفال بذكرى رحيلها. حيث أحيا (أوركسترا الموسيقى العربية) بقيادة المايسترو علاء عبد السلام، حفلًا في باريس، بينما بدأت الاحتفالات في مصر بحفلين بمسرح معهد الموسيقى العربية في فبراير ، كما تم تنظيم (مهرجان أم كلثوم للموسيقى والغناء) في مختلف المحافظات، حيث انطلقت أولى فعالياته من مسقط رأسها في الدقهلية. إلى جانب ذلك، تم فتح ابواب (متحف أم كلثوم) مجانًا للجمهور طوال الشهر، بينما قدم متحف نجيب محفوظ عرضًا وثائقيًا وندوات فكرية عن حياتها ومسيرتها. كما شملت الفعاليات حفلات موسيقية وورش فنية في كلا من القاهرة والإسكندرية.
وأخيرا رحلت أم كلثوم بعد ان حققت مكانة رفيعه في عالم فن الغناء،وحظيت بتقدير كبير وعظيم من كافة الوطن العربي على امتداده ،ويقولون أن العرب اختلفوا كثيرا في قضاياهم ،وأصبحو ا شيعا وفرقا واحزابا ومدارسا كثيرة ومتعددة ،الا انهم اتفقوا على هذا الصوت وأحبوه وبايعوه ،هذا الصوت الذي كان يجمع وحده أمة باسرها لكي تستمع اليه حين يبدأ الغناء . رحلت أم كلثوم ومازالت تنثر عطرها عبر تسجيلاتها فتطفئ نار الشوق اليها والحنين الى زمانها . انه الصوت العبقري الخالد .. صوت أم كلثوم.