انتصرت منظومة السياسيين الفاسدين في لبنان على شعبه، واستطاعت خنق طموح اللبنانيين الى نظام عادل، كما تغلبت على الضغوط الأميركية والاوروبية التي، بالاضافة الى اعتبارها “حزب الله” منظمة ارهابية، رأت في اقتلاع المنظومة من جذورها شرطاً لا بد منه لقيامة حقيقية لوطن الارز، لئلا يبقى في مواعيد دورية مع اقتتال أهلي تتسبب به وترعاه المجموعات الفاسدة المهيمنة على الاقتصاد والسياسة، بل على الثقافة أحياناً.
وها هي واشنطن وعواصم اوروبا، بالاضافة الى عواصم عربية واقليمية، تؤكد على انتخاب رئيس للجمهورية والعبور بلبنان من الفراغ السياسي الى بث الروح في النظام الموروث. هذا هو لبنان الذي لا تكتمل حروبه ولا يكتمل سلامه، ويرفع في آخر المعارك الحكمة العملية التي صاغها صائب سلام “لا غالب ولا مغلوب”. انها حروب اهلية صغيرة وكبيرة وصلت الى حدّ خطير جداً مع تفجيرات مرفأ بيروت التي تعادل في نظر كثيرين قنبلة هيدروجينية كتلك التي القيت على هيروشيما في نهايات الحرب العالمية الثانية.
وكانت الحرب الاهلية اللبنانية الاولى في دولة لبنان المستقل عام 1958، اثر الانقسام على الموقف من سياسة رئيس الجمهورية كميل شمعون الذي كان يلقب في فترة سابقة بـ”فتى العرب الأغر”. لكن الرجل كان يميل الى انظمة حلف بغداد المعادية للامتداد الناصري بعد حرب السويس عام 1956 والوحدة المصرية – السورية عام 1958. استغرقت الثورة ثلاثة اشهر خلال صيف ذلك العام رسا خلالها الاسطول الاميركي السادس على شاطئ بيروت، وانتخب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهو التقى جمال عبد الناصر عند نقطة الحدود اللبنانية – السورية وجرى التفاهم بينهما على سياسات الداخل اللبناني المستقلة وعلى الموقف المشترك من قضايا المنطقة العربية.
وسبق للسياسي اللبناني فيليب تقلا أن رصد الوضع الحساس للبنان داخلاً وخارجاً، فقال في محاضرة نظمتها “الندوة اللبنانية” في كانون الثاني (يناير) 1956:”ان لبنان واقع دوماً وابداً في محنة، فما يكاد يخرج من أزمة حتى يلج باب أزمة أخرى. ناضل اهله ثلاثة قرون حتى خلقوا ذاتية خاصة بهم في الامبراطورية العثمانية، وما ان خلقوها حتى مزقتهم المطامع الأجنبية فاصطبغت صخورهم بالدماء، واكتست قلوبهم برداء الضغائن القاتم، فلما ثابوا الى رشدهم ورست ذاتيتهم على نظام مكفول (نظام المتصرفية) تلفتوا فاذا بكيانهم قد تقلص وإذا بالباقي منه لا ينبت ما يعولهم. ولما توزعوا في الدنيا ووجدوا الرزق وارتفع عن صدورهم كابوس بني عثمان عانوا مباشرة ومداورة الاحتلال العسكري والحكم الأجنبي. وخيّل للكثيرين منا، يوم الاستقلال ويوم الجلاء، ان عهد المحن قد ولّى الى غير رجعة وان استقلال يرتب بحد ذاته واجبات ثقيلة ويلقي مسؤوليات جسيمة، لكن في هذا الوطن وفي هذا الشعب عللاً وأدواء قد تقتل الاستقلال نفسه، إن لم نسارع الى معالجتها ولم نغذّ هذا الاستقلال بما يجعله ينمو ويشتد ويرسخ”.
تتابع النخبة العربية انهيار لبنان بكثير من الأسف وقليل من الاعتبار، وأن الصورة الجديدة التي سيلبسها وتلبسه هي صناعة اقليمية ودولية لا صناعة وطنية، وهي بالتالي مرحلة بين اهتزاز واهتزاز ومأساة ومأساة. كان لبنان ومعه مصر منطلق تجربة التحديث العربية، مع فارق ان لبنان مجتمع متنوع وغير مستقر فيما مصر بلد راسخ وعريق. وقد انكسرت تجربة التحديث في البلدين بطريقتين مختلفتين، فقد تركت مصر مجتمعها المدني يتهمش فيما تتصدر حراكها السياسي والاجتماعي والاقتصادي ثنائيتا الجيش و”الاخوان”. ولا تزال ارض الكنانة غارقة الى الآن في هذه الثنائية، فيما يبقى مجتمعها المدني خارج الصورة وبعيداً من الفعل السياسي. أما التحديث اللبناني فتكسره الهجرة والتغير السكاني وضمور الذاكرة الجماعية. ومنذ بدء الحرب الأهلية الأخيرة عام 1975 والى اليوم، تتحكم بلبنان ميليشيات ذات أثواب متبدلة، وأحدثها الثوب المالي. فما هو الفرق في لبنان اليوم بين مالكي بنوك يبتلعون أموال المودعين بتحايل مفضوح أمام عيون العالم، وبين لصوص مسلحين يسطون على منازل الآمنين؟ ستتعزز الهجرة ويحل سوريون محل اللبنانيين، ويصبح وطن الأرز مجالاً لتكيف صعب يمارسه اللبنانيون الجدد.
يروي الكاتب المصري سلامة موسى في كتابه “تربية سلامة موسى” عن لقائه أربعة أعلام لبنانيين في مصر، هم: جرجي زيدان وفرح أنطوان ويعقوب صروف وأمين معلوف. يقول:” كانوا جميعهم كارهين للحكم العثماني وكان اليأس غالباً عليهم. وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب الكبرى الاولى، بقوا على شك في حقيقة الاستقلال المزعوم للدول العربية”. وفي هذا اشارة الى ان المغتربين اللبنانيين المثقفين كانوا يريدون نهضة أهلهم في الوطن الام وليس استقلالاً شكلياً يحمل إرث التخلف ويطوره في أشكال جديدة مبنية على فساد.