لم تنجح أي محاولة للقفز فوق عالم بات شديد الوطأة. القفز عاليًا وبعيدًا إلى عالم أقلّ استهلاكًا وخبثًا ومادّيةً.
لم تنجح محاولات التخيّل. الحلم. الاشتهاء. التمنّي، وحتى الفكرة.
باءت جميع محاولات استيلاد عالم جديد يتّسع لأحلامنا الصّغيرة وأحزاننا العظيمة. أحزان تختزن أعمارنا المهدورة على أرصفة الضجر، لحظة التيقّن من لا جدوى الأشياء، والحياة والزمن والوقت. لحظة مواجهة حياة لا نرى منها سوى ظلّها، كأننا نبحث عن سبب لها من خلف الظّلال، وهي ترشقنا بقبلةٍ ملعونة.
نضيع في سراب ما نرى، ونلهث خلف ما لا نرى، فيستعِرُ صراع الحواس والبصيرة. نطرق الأبواب الموصدة ونتجاهل بوّاباتٍ مشرعة، وننسى أن اليوم هو الغد الذي قلِقنا أمس عليه.
نبذّر حياتنا في البحث عن السّعادة، ويفوتنا أنها بسيطة جدًا وأقرب إلينا من حبل الوريد، وجلّ ما تبتغيه منّا أن نتصالح مع كبرياء وهميّة نترقّب معها سقوطنا الحرّ من غيمة مخادعة نعيش أبدًا عليها.
لم تنجح أي محاولة للنّأي والفرار. الكمائن تحاصر خطواتنا الثكلى. والفِخاخ منصوبة بإحكام على طريق وحيد رُصف خصّيصًا لأقدامنا المرصودة على الهرب، ونحن في صدد محاولة البحث مجددًا عن حلم خذلنا. كأننا نعيد صناعة الأحلام من أنقاضها، ونعرف أنها آيلةٌ للحطام.
باءت جميع المحاولات بالفشل. خسرنا الرّهان مرّات كثيرة. قامرنا بجميع ما نملك، الحب، الأمل، الحرّية، النّقاء، السّلام، الدهشة الأولى، حتى بوقفة عزٍّ لن تتسنّى لنا غير مرّة. غامرنا بما ملكتْ يُمنانا ودنيانا وما سوف يأتي وما ذهب، “لأنّ الذي سوف يأتي ذهب”.
ألأننا “محكومون بالأمل” نحاول مجدّدًا؟ أم لأن المحاولة هي ركيزة صراع البقاء؟ أم لأنّ “على الأرض ما يستحقّ الحياة”؟
ثمّة من يقول: “احذر أن تكون أهدافك مجرّد أمنيات، أو رغبات، فتلك بضاعة الفقراء”. وآخر يقول: “لو كنّا نقتصد في أحلامنا، لَما ذُقنا طعم الخيبة”.
ومع ذلك لم تنجح أي محاولة للقفز إلى عالم أقلّ خبثًا واستهلاكًا وماديّة، فصرنا أبناء الخيبة المنظّرين للعلاج بالأحلام، فيما لا نرى من الحياة سوى ظلّها.
تعبرنا الحياة وكأنها لم تحدث. نُدبة صغيرة في القلب تذكّرنا بأنّ جرحًا ما كان يومًا هنا، والبقيّة… إذا لم نتذكّره فهو لم يحدث.