في حوار مع الشاعر التونسي حامد محضاوي

ثمة اندفاع نحو الحبر لا يعرفه سوى الشعراء… لعلها الدعوة إلى الكتابة التي تأتي في نوع من الإلحاح الذي لا يترك الشاعر بل يخترق كل لحظة من لحظاته، ويُدخله في عملية بحث عن الذات في خضم هذا العالم المليء بالخراب

الشاعر التونسي حامد محضاوي

والضياع. وسط كل ذلك وفي أوقات تتحكّم فيها الحيرة والمعاناة، تأتي لحظة من الاعتراف والعودة إلى الذّات، وكأنّ القصيدة تدعو كاتبها إلى حمل أثقاله والانتقال إلى الضفة الأخرى من الحياة، إلى عالم الكتابة.

في هذه الدعوة إلى الكتابة والاستفادة من كل لحظة، يكتب الشاعر حامد محضاوي الشعر، وقد استطاع من خلال ديوانه الأول أن يبدع نصوصًا مستمدة من واقعه، هو الذي لا يرتب مواعيد مع قصائده. هذا الشاعر الذي لم تقف تجربته عند حدود الكتابة الشعرية، بل اهتم بالأدب والإبداع بشكل عام بالإضافة إلى المسرح، كما أنه قارئ ومثقف من الجيل التونسي الذي يقرأ الواقع ويكتب تفاصيله.

وحامد محضاوي بالإضافة إلى أنه شاعر، هو كاتب وناقد تونسي مهتمّ بالمجالات الإبداعيّة والفكريّة، له مساهمات في مواقع ومجلّات وصحف تونسيّة وعربيّة. وصاحب إجازة أساسيّة في الأدب واللغة العربيّة كما أنّ له مقالات في الرأي والتحاليل الثقافية والسياسية، والنصوص الإبداعية.

الحصاد تواصلت مع الشاعر والناقد حامد محضاوي وكان لها معه الحوار الآتي حول ديوانه الجديد وتجربته في الشعر والمسرح وأزمة المثقفين.

“الحصاد” ماذا عن بداياتك في الشعر والمسرح.

“حامد محضاوي” شهقة الخيال انطلقت بعد صفعة المعلّم لأنّي أجبت: ” لا شيء “، حول موضوع التعبير الكتابي: كيف أمضيت العطلة المدرسيّة؟ لم يصدقني حين قلت ذلك؛ رآها عطلة ومساحة مرح، ورأيتها مساحة شغل شاق لطفل لم يلعب. في كلّ خطوة أقول هذه هي البداية. في البدء كان النبض كرافعة وما المشوار إلّا أبعاد فرعيّة لهذا الأصل. البداية بدايات؛ نفسيّة، ماديّة، فنيّة… لا انفصال بينها؛ فهي اختلاجات الباطن الذي لا يفنى، وما الظواهر إلّا تعابير ورؤى للحضور الجامع. خلاصة أقول بما رأى نيتشه: ” لنا الفن كي لا تقتلنا الحقيقة ” حياتي الشخصيّة وتعاويذ المتاح الواقعي أفردتني كهامش مهزوم، وكان الفن خلاصًا لأراني حيّا. الفنّ بعمومه يعنيني ويأويني، لا أنتمي إلى نوع من دون آخر. أنا أبحث عنّي: شعرًا، مسرحًا، نقدًا، فرجة… في كلّ معنى أرسم بداية، في كلّ فكرة ألدني من جديد. البداية دائمة ونقطة الوصول موت. أنا في المطلق أزرعني، أرى الرصيد أمامي وليس خلفي.

“الحصاد”  يعدّ العنوان من أهمّ عتبات النصّ كما يقول جيرار جينيت. “أخلد لوسادة سيوران” ديوانك الجديد، حدّثنا عن علاقة العنوان بالقصائد وماذا تقول عن تجربة هذا الديوان الأول؟

“حامد محضاوي” « أخلد لوسادة سيوران » ممكن العنوان بشموليّته يفتح مآلا غامضًا في سياق المتداول للعناوين الشعريّة، رهان الغموض ليس أحاديًّا في ذاته أو جوهرًا صلدًا لدفع القارىء لاكتشاف الديوان. العنوان في ذاته هو عنوان لأحد قصائد الديوان ولكن في ثناياه هو بناء فكري وجمالي لاحجياتي في رهان كتابة كل الديوان. إميل سيوران الفيلسوف والكاتب الروماني لا يخفى على أحد جوهره الكتابي المأساوي والسوداوي والتشاؤمي، ولكن قلّة يبحثون في تفاصيل الاستثناء في تجربته التي لم تر في الانتحار خلاصًا أو العدم بواقعيّته حلًّا؛ فهو القائل: ” عشت في شبابي لحظات، يجد الكائن نفسه معها في امتلاء خارق، أو بالأحرى في خواء حماسي. كانت تجربة عظيمة؛ الكشف المباشر عن بطلان كلّ شيء. تلك الإشراقات فتحت لي مجال معرفة السعادة القصوى التي يتحدّث عنها المتصوفة “. في نبض رفضه هناك وميض إشراق دائم، في حمّى انتكاسته من الولادة كطارىء كان يتلو رجاحة مختلفة لصدى الحضور، يقول: ” أنا الآن وحدي، ماذا عساي أتمنّى أفضل؟ لا وجود لسعادة أكثر كثافة. بلى، سعادة أن أنصت، من شدّة الصمت، إلى وحدتي وهي تنمو “. وجدت في سيوران تعاويذ تمسّني وتكتبني، ما بين التضّاد والتقابلات، ما بين العزف والنزف، ما بين الضوء وأبعاده، ما بين الشيء والنقيض… هذه الحركيّة الحيّة التي تنتج المعنى ولو كان في الضدّ. هذا إلى جانب واقعي اليومي وظرفي الاجتماعي، في رحى لوثة المتاح في تونس كلّها معاول نحت أسّست لهذا الاشتغال؛ الذي امتدّ على سبعة سنوات تقريبًا، كي يصدر هذا الديوان في « 35 نصّا » تمثّل جملة إرهاصات واختلاجات الذاتي والموضوعي في سياق هذا الاحتدام التوليدي. الوسادة التي أخلد إليها تنتمي لذائقة التفكّر والعزلة وتقابل المتضادّات وفراغ المآلات، هي مسافة العود على بدء. ليست التكرار في ذاته بقدر ما هي تقشير لمسام الجماليّات والإنسان بحثا عنّي وبحثا عن الآخر… وفي هذا

– بعكس التأويل البسيط – بحث عن جدارة للحياة.

“الحصاد” لكلّ شاعر طقوس خاصّة في الكتابة. هل حقًّا هناك طقوس معينة للكتابة وهل تؤمن باللحظة الشعرية حيث تشرق القصيدة وتتجلى في أبهى وجوهها؟

“حامد محضاوي” ربّما يكتسي مفهوم طقوس الكتابة أهميّة في الرؤى الصحفيّة كما أنّ أسماء أدبيّة كبيرة تستوحي من هذه الطقوس مفاتيح إلهامها الفنّي. شخصيّا، لا تعنيني طقوس الكتابة، بل أعتبرها مجرّد تعاويذ.

أنا لا أضيع فرصة التمتّع بهمسة سعادة كي أكتب، لا أترك لحظات نزول المطر من أجل الكتابة، لا أدسّ مواقيت الفرح حتى أفتح مواعيد للكتابة، لا أترك خفقات الجمال – حسيّة كانت أو رمزيّة – وانشغل عنها بالكتابة. فقط، أكتب لأنّي حرمت من ذلك. أتقن التدخين وتجريح العبارة على محامل الحزن، الوهن والاعياء. ولا أحتاج إلى صفة مبدع ولا أيّ لون من ألوان الألقاب الباهتة. أهمّ هبة أن تمنحني الحياة الحدّ الأدنى من تجريب حواس أخرى.

كذلك لا أجهّز نفسي كي أكتب؛ أنطلق من وقائعي وأترجمني على مهل حتى ينفجر البوح: أصواتًا، اختلاجات، وشظايا… أنا أكتبني.

أرى اللحظة الشعريّة في تأجّج الاحتدام الداخلي، من هناك تنفجر الشهقة أو القصيدة كصدى خالد في المدى.

“الحصاد” كيف تنظر لمقولة أنّ الشعر يغيّر العالم في ظلّ الأزمات والعصر الذي نعيش فيه اليوم؟

“حامد محضاوي” لطالما مثّل موضوع أهميّة الشعر أو بعبارة أدقّ وظيفة الشعر مجال بحث وتساؤل دائمين لدى النقّاد والشعراء ذاتهم. ولئن اختلفت الرؤى في كثير منها فإنّها لم تختلف على وجود علاقة سببيّة توالديّة جدليّة بين القصيدة واللحظة الزمانيّة التي كتبت خلالها. أي أنّ نطاق الشعر متلازم مع اللحظة التاريخيّة ووجه أصلي للتعبير عن الذائقة العامّة. حيث اعتبر « بيرس بيش شيلي » أنّ الشعر آلية للتغيير الثقافي وللتأثير في القيم والمعايير الاجتماعية، وبعده ذهب الشاعر الإنجليزي  « تي إس إليوت » إلى أنّ وظيفة الشعر تختلف باختلاف العصر. هذا ما أراه شخصيًّا أنّ وظيفة الشعر ليست في إطلاقيّتها العامّة وقالبها الأوحد الممتدّ على المكان والزمان بقدر ما هي استرشاد مخصوص في مساحة وزمن معيّنين. وجه اغتراب الشعر عن القارئ العربي اليوم في جزء منه تمثّل في بقاء الشعراء ضمن نطاق تصويري ودلالي وجنس كتابي مقولب على رهان وأنموذج سقط حضوره المعاصر. ولئن أتّفق في نطاق حاضرنا اليوم أنّ الشعر لا يغيّر شيء فإنّي لا أرى أنّه مجرّد ترف في وقائع الحال. أرى الشعر اليوم في المكان الذي يجب أن يكون فيه وهو الإقامة بين الواقع والخيال، هذا هو التموضع الذي يمكّنه من المراوحة بين عزف المعنى ونزف المآل.

في هذا النطاق العولمي وتهاوي الشعارات واحتدام الاستهلاك أرى « ليست من أساسيّات الكتابة البحث عن واقع أفضل، يكفي أن نلاسن واقع الخراب ونعوي من داخل الحطام ». لو قلت لي في كلمة، أقول: رهان الشعر اليوم نسج مسام في ظلّ الانزياح الآلي والعولمي على الوجوه والجيوب.

“الحصاد” نعيش مرحلة ما بعد الحداثة حيث انفتحت القصيدة على أجناس أدبية عدة وعلى الفنون المعرفيّة. ما رأيك بذلك كونك ناقدًا مسرحيًّا مختصًّا في هذا المجال أيضًا؟

“حامد محضاوي” ارتباط الشعر ببقيّة الفنون والمعارف لم يرتبط بمرحلة أو سياق؛ حيث أنّ الشعر بما هو فرع وارف كان مترابطًا منذ القدم مع فروع وأغصان تعبيريّة أخرى في ظلّ الجذر الواحد وهو « الفن » مسألة تمييز أو بالأصحّ تفريق الأنماط الفنيّة هي قفز على جوهر الإنساني الجامع وحصر للذائقة لا أكثر. الأهم في نظري من سؤال مدى الحاجة إلى الشعر؟ مدى الحاجة إلى الموسيقى؟ مدى الحاجة إلى المسرح؟ هو مدى حاجة الإنسان والعالم للفنّ بكلّه. من هنا أقول أنّ مسألة الانفتاح بين الفنون هي موازنة واعية من أجل محاصرة قبح العالم بأسلحته الرمزيّة والماديّة. مرحلة ما بعد الحداثة سياق في إطار كامل لهذا التنوّع الفنّي وليس خروجًا عنه، فقط تتغيّر المواضيع والرؤى ويبقى الجذر. شجرة الفن روح مقاومة في غابة الوحشيّة العالميّة؛ فقيمة الفن في جوهر كفاحها من أجل تعريف آخر للعالم. يقول المخرج « أندريه تاركوفسكي »: ” الفن سيكون بلا قيمة لو كان هذا العالم كاملاً ومثالياً. الفن موجود لأنّ هناك خللاً في هذا الوجود “. تبعاً لهذا فإنّ القصيدة اليوم يجب أن تقيم مقارعة جريئة مع أضغاث المتاح، عبر سحب المآل الإنساني إليها وتفجير رؤاها الجماليّة والتعبيريّة الصلبة بعيدًا عن القولبة والأصنام الراكدة. هي مساحة حياة أو محاولة من أجلها تجمع صلبها مختلف المعارف والجماليّات والتصوّرات. من هذا تصير شهقة خالدة في صدى الإنسانيّة، لا تشيخ ولا تفنى وكما قال محمود درويش: قتلتك الفنون جميعها يا موت “.

“الحصاد” كيف تنظر إلى الفنون اليوم وخصوصًا المسرح؟ وهل ترى تراجعًا في ظلّ التكنولوجيات الحديثة أو أنّ الجمهور ما زال حاضرًا؟

“حامد محضاوي” الفنّ كما ذكرت سابقًا، يتمثّل في الآن والهنا كروح مقاومة لتشيئة الإنسان. منطق الآلة والتواصل البارد في أتون الافتراضي ووحشيّة الأقنعة لا يمكن أن يتقلّص انتهاكها واستبدادها ولو جزئيّا من دون الفنون؛ ولكن الفنون في اتّساقها وروحها الحيّة بعيدًا عن المآلات المكرّرة. في زمن التغوّل التكنولوجي نحن في حاجة لفنانين قادرين على إحياء المعنى الإنساني وتحرير الذائقة من القولبة… الفنّ دائم الحضور ولكن الفاعليّة تتطلّب فنانين وهياكل حيّة وراشدة، لا تبني من المتاح بقدر ما تصنع أملا من المستحيل. جميع المكوّنات حاضرة: الجمهور، المسارح، الوقت… لكن في حاجة لهذه الفاعليّة الخلّاقة.

“الحصاد” يواجه المثقف اليوم أزمة كبيرة في نشر منجزاته الإبداعيّة، إذ أنّ الأوضاع والأزمات السياسية والاقتصادية في بلادهم أثّرت في كل نواحي حياتهم. ما هي في رأيك الطريقة المناسبة للنشر وهل يمكن أن تتحول دور النشر إلى العالم الرقمي كحل؟

“حامد محضاوي” صعوبات المثقّف والمبدع دائمة – لا أقصد الأبراج العاجية وأنشطة الترف – خاصّة في مستوى مقارعة ضنك الحياة وصعوبات اليومي. هذا إلى جانب غياب هياكل واعية وممتدّة خارج المعادلات البارونيّة والصنميّة. الإرهاب ومختلف الآفات اليوم في دولنا هي نتيجة لغياب برامج وهياكل ثقافيّة وفنيّة وتربويّة واعية. التعامل الثقافي الذي لا يمتدّ إلى الذائقة العامّة تطويرًا ومجادلة وتجديدًا يبقى مجرّد شعارات مناسباتيّة. المشاريع الجادّة لا بدّ لها من مجهودات مشتركة، وللأسف، هذا التوجّه شبه غائب. الفنّان بذاته مهما كان نوع نشاطه يبقى قاصرًا في ظلّ ما ذكرت من صعوبات. النشر أحد هذه الصعوبات، ولكن قبل ذلك كما طرحت في بدء الإجابة غياب رؤية جامعة وهياكل تجعل المنجز قاصرًا عن أهدافه، إلى جانب تقهقر نسب المطالعة نتيجة غياب مشاريع توعويّة نافذة.

“الحصاد”  ما هي مشاريعك المستقبليّة؟

“حامد محضاوي” قبل المشاريع المستقبليّة، أودّ تقديم تحيّة للمهندسة والمناضلة الثقافيّة السوريّة « عفراء هدبا » على رهانها من أجل سوريا الحياة، في ضنك الحرب تمدّ أشرعة الفكر والفن عبر « دار دلمون الجديدة للنشر والتوزيع » في دمشق. وتقدير لإيمانها بمنجزي وفتحها الباب له كي يلاقي القرّاء.

بالنسبة إلى المشاريع المستقبليّة يمكن لأا توجد مخرجات واضحة، نتيجة غياب أي دعم أو تصوّرات عمليّة في تونس. لكن الأفكار تحتدم وتتشاكل في الذات دائمًا، على أمل إيجاد محامل لترى النور.

ختامًا شكرا لصحيفة « الحصاد » على مساحة البوح وللأستاذة والمبدعة الصديقة « ليندا نصّار » على ثراء الأسئلة والتعامل الاحترافي.