القاهرة تنفي العسكرة وأديس أبابا تحذّر من لهجة عدائية جديدة
تلعب القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة دورا مفصليا في تحديد الوجهات التي يذهب صوبها مستقبل النظام الدولي. وفيما ثابرت دول كبرى على توسيع وجودها ونفوذها في المنطقة، استفاقت دول أخرى على أوجاع الخسارة والتراجع وآمال الربح والتقدم. ومن يراقب أحوال القارة من شمالها إلى أقصى جنوبها مرورا بأحوال ساحلها وأعراض غربها، سيستنج بسهولة يابسةً مضطربةً تقوم على براكين، كثيرها خافت، وتطلّ على مياه تشهد الصراع الجديد بين الأمم.
ومصر في قلب هذا الصراع الكبير. تقاربه وتراقبه، سواء على حدودها المباشرة، أم داخل ما تعتبره فضاءها الاستراتيجي الأوسع، أم من خلال تماسّ مباشر وداهم في ما يتلعق بملفات ساخنة مثل ليبيا، والسودان، واُثيوبيا، والصومال، ومنطقة القرن الأفريقي. وإذا ما يبرز البحر الأحمر، منذ اندلاع حرب غزّة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وخصوصا منذ بدء جماعة الحوثي، في تشرين الثاني (نوفمبر) من نفس العام، استهدافها للملاحة الدولية “نصرة لغزّة”، كميدان أمني واقتصادي ضاغط على مصر وقناة السويس فيها، فإن أفريقيا المطلّة على هذا البحر باتت أولوية في استراتيجيات السياسة والأمن في أجندات الدولة المصرية.
ألغام “سدّ النهضة”
عُرف عن السياسة الخارجية المصرية الروية والهدوء والبعد من أي انفعالات متعجّلة. يكفي تأمل المقاربة المصرية الرسمية لأزمة “سدّ النهضة” الذي تشيّده أثيوبيا على نحو تعتبره القاهرة، في الشكل والأسلوب والمضمون والنتائج، مضرّا بمستوى حاجات مصر من المياه. استعاد الخبراء قولة هيرودوت الشهير، “مصر هبة النيل”، لاستشراف حتمية لجؤ مصر إلى القوة العسكرية للدفاع عن حقوق مائية هي أساس في اقتصاد البلد واستقراره ومستقبل وجوده.
ومع ذلك راحت القاهرة تستنفد سبل الدبلوماسية والقانون من دون أي توتّر قد يؤثر على سكينة أفريقيا. لسان حال القاهرة ما برح يردّد أن مصر ليست ضد “السدّ”، وليست ضد خطط أثيوبيا التنمية، لكنها ضد تجاوز القوانين الدولية التي تنظّم حصص الأنهار العابرة للحدود، وضد “سياسة جائرة” لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح دول المصبّ، مصر والسودان، ولا تداري أبجديات التعايش بين الدول وأصول العلاقات السويّة، التاريخية خصوصا، بين دول أفريقيا.
عملت أثيوبيا بالمقابل على شراء الوقت، مرحلة وراء أخرى. استغلت تناقضات المصالح الدولية، وضعف المؤسسات الإقليمية والأممية، وراحت تنفّذ خطط ملء السدّ على الرغم من اقتراحات تقنية قدمت من القريب والبعيد لتحقيق الأمر من دون الإضرار بمصالح مصر ومستويات تدفق المياه صوبها.
وفيما بدا أن الخيار العسكري المباشر مستبعدا، فإن الصراع أخذ أوجها متعددة معقّدة في أفريقيا، لا تتعلق بمستقبل المياه في مساراته، بل بالنظام الإقليمي في أفريقيا، بما هو صراع دولي أقليمي نجد مسارحه ناشطة في ليبيا والسودان ودول الساحل الأفريقي وبين دول القرن الأفريقي. وإذا ما كان الحراك العسكري هوجزء من مفهوم الدبلوماسية والعمل السياسي، فإن واجهات عسكرية بدأت تطل برأسها على المنطقة من نوافذ القاهرة من دون أن يكون في الأمر أي إعداد لصدام ومواجهة.
خلاف أثيوبيا والصومال
اندلع التوتّر بين أثيوبيا والصومال بسبب الاتفاق المبدئي الإطاري الذي أبرمته أديس ابابا مع حكومة “أرض الصومال” في أول العام الجاري،
وصولا إلى إعلان إثيوبيا، في 30 آب (أغسطس) 2024، تعيين سفير لها بـ “أرض الصومال”، وذلك لأول مرة منذ بدء العلاقات بين أديس أبابا والإقليم الانفصالي.
ويعود أصل الأزمة تاريخيا إلى حاجة إثيوبيا إلى منفذ بحري بعد أن فقدته بعد انفصال أريتريا عنها وإعلانها استقلالها عام 1993 بعد حرب دامت 30 عاماً. وقد اعتمدت إثيوبيا لاحقا على موانئ الدول المجاورة. هذه الحاجة، وفق المبرارات الأثيوبية هي التي دفعت أديس أبابا إلى إبرام هذا الاتفاق، في أول عام 2024 لتأمين ممر مباشر إلى البحر الأحمر عبر “أرض الصومال”.
و “أرض الصومال” هي منطقة أعلنت استقلالها عن الصومال منذ 30 عاما من دون أن تحظى باعتراف دولي. وتعتبر الصومال، “أرض الصومال” جزءاً من أراضيها. وتعتبر أن لا صفة قانونية لها للتفاوض بشكل مستقل على الاتفاقيات الدولية. وقد وصف رئيس الوزراء الصومالي، حمزة عبدي بري، الصفقة مع إثيوبيا بأنها عمل عدواني ضد سيادة الصومال وسلامة أراضيه وتهديد مباشر لموارده البحرية. وقال إن حكومته ستدافع عن حقوقها.
ورغم الوضع القانوني المثير للجدل لـ “أرض الصومال”، وقع هذا الإقليم اتفاقيات استثمار دولية، بما في ذلك مع شركة “موانئ دبي العالمية” لتوسيع مينائه الرئيسي ومع شركة “غينيل إنيرجي” (Genel Energy) ومقرها لندن لاستكشاف النفط.
وينص الاتفاق العتيد مع “أرض الصومال” على حصول إثيوبيا على إمكانية الوصول إلى خليج عدن عبر ممر تستأجره من لمدة 50 عاماً. ويمكن لإثيوبيا إنشاء قاعدة عسكرية ومرافق تجارية هناك. في المقابل، ستحصل “أرض الصومال” على حصة غير محددة في الخطوط الجوية الإثيوبية، أكبر شركة طيران في القارة. وقال رئيس “أرض الصومال”، موسى بيحي عبدي، إن إثيوبيا ستعترف رسمياً بأرض الصومال كدولة ذات سيادة.
إثر هذا الاتفاق طردت الصومال سفير إثيوبيا وأغلقت قنصلياتها، واستدعت سفيرها من أديس أبابا، وهددت بفرض عقوبات على الشركات التي تعامل “أرض الصومال” كدولة مستقلة. وكا ذكرنا سابقا، ووسط الحديث عن مخاوف بشأن احتمال أن تتمكن إثيوبيا، من خلال اتفاقها مع “أرض الصومال”، من الوصول إلى مضيق باب المندب الذي يربط خليج عدن بالبحر الأحمر، والذي يتدفق إلى قناة السويس، وقعت مصر اتفاقية مع الصومال تهدف إلى تعزيز التعاون الأمني صادقت عليها حكومة الصومال في 20 تموز (يوليو) 2024.
قوات مصرية إلى الصومال
فجّر وصول تعزيزات عسكرية مصرية إلى مطار مقديشو في الصومال في آب (أغسطس) 2024 غضب أثيوبيا لما يحمله هذا التطوّر من تداعيات على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة. وعُدّ الحدث تطوّرا لافتا في سياسة القاهرة ويعبّر عن مقاربة مختلفة لشؤون القرن الأفريقي. وفيما تستفيد الصومال، بعد اتفاقاتها العسكرية مع تركيا، من دعم عسكري مصري قد يتطوّر إلى وجود دائم أو طويل الأمد، أتت زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى تركيا في مطلع أيلول (سبتمبر) 2024 لتدفع بمياه جديدة باتجاه طاحونة الحراك باتجاه الصومال.
بدأت الحكاية في كانون الثاني (يناير) 2024 حين أُعلن عن توقيع أثيوبيا اتفاقاً مبدئياً مع إقليم “أرض الصومال” تحصل بموجبه أديس أبابا على مَنفذ بحري يتضمن ميناءً تجارياً وقاعدة عسكرية في منطقة بربرة لمدة 50 عاماً، مقابل اعتراف إثيوبيا بـ “أرض الصومال” دولةً مستقلةً. وكانت مصادر إثيوبية قد ذكرت أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، يعتزم نقل قواعد عسكرية إلى إقليم أوجادين في الإقليم الصومالي.
رفضت مصر هذا الاتفاق واعتبرته “مخالفاً للقانون الدولي، واعتداء على السيادة الصومالية”. رأى خبراء حينها أن جانبا من التحرك المصري مرتبط بالتهديدات التي تراها القاهرة ماثلة في احتمالات حصول أديس أبابا على منفذ بحري وقاعدة عسكرية في إقليم “أرض الصومال”، مما يلقي بظلاله على مصالح مصر في المنطقة وعلى حركة التجارة العابرة إلى قناة السويس أيضًا.
في 20 تموز (يوليو) 2024، أُعلن في مقديشو عن موافقة الحكومة الصومالية خلال “اجتماع استثنائي” لمجلس الوزراء، على اتفاقية دفاعية بين مصر والصومال. وفي 27 (آب) أغسطس 2024 كشفت مصادر إعلامية صومالية عن وصول طائرتين عسكريتين مصريتين من طراز سي-130 إلى مطار آدم عدي الدولي في العاصمة الصومالية مقديشو، تحملان معدات عسكرية ثقيلة وضباطا من الجيش المصري. وقالت هذه المصادر إن الأمر يندرج “ضمن إعادة تنظيم استراتيجي أوسع نطاقاً في منطقة القرن الأفريقي، حيث يسعى الصومال إلى تعزيز قدراته العسكرية من خلال الشراكات الدولية”.
ولشرح هذا التطوّر ووضعه في إطاره الدقيق، ، ثمّن سفير الصومال لدى مصر، علي عبدي أواري، في 28 آب (أغسطس) بدء وصول المعدات والوفود العسكرية المصرية إلى العاصمة الصومالية مقديشو “في إطار مشاركة مصر بقوات حفظ السلام”، موضحاً أن “مصر ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية”.
سجال مصر-أثيوبيا
وفق مصادر إعلامية صومالية، فإن هذا التطوّر يأتي في الوقت الذي تستعد فيه مصر للمشاركة في بعثة الدعم التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال (AUSSOM)، والتي من المقرر أن تحل محل بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية الحالية (ATMIS) بحلول يناير المقبل. وكان الرئيس المصري أعلن، في 14 آب (أغسطس)، في مؤتمر صحافي مشترك في القاهرة مع نظيره الصومالي حسن شيخ محمود، أنه “في هذا العام سيتم تجديد بعثة حفظ السلام في الصومال، وسنتقدم للمشاركة في هذه البعثة، والأمر متروك للدولة المضيفة (الصومال)، إن كانت ترغب أن نكون موجودين فسنكون”.
وكان بيان صادر عن الاتحاد الأفريقي أعلن في وقت سابق من نفس الشهر، عن عرض مصر للمساهمة بقوات في مهمة حفظ سلام جديدة ستنطلق العام المقبل في الصومال. كانت الصومال هددت في وقت سابق بطرد ما يصل إلى 10 آلاف جندي إثيوبي، موجودين هناك كجزء من مهمة حفظ السلام وبموجب اتفاقيات ثنائية لمحاربة متشددي حركة الشباب، إذا لم يتم إلغاء الصفقة بين إثيوبيا و “أرض الصومال”.
وأيا تكن معطيات هذا التطوّر، فإنه يؤشّر إلى تحرك عسكري مصري صوب الصومال يأخذ أبعادا مختلفة في شكله وطبيعه مهامه. فوفق مصادر إعلامية أفريقية فإن القاهرة وافقت على نشر 10 آلاف جندي مصري (5 آلاف في عداد Aussom و 5 آلاف سيكون مقرهم في منطقة هيران المتاخمة لإثيوبيا. غير أن الأمر أقلق أثيوبيا واعتبرته في ما صدر عنها من بيانات وما أسرته منابرها القريبة تطوّرا جديدا غير مسبوف وربما غير مألوف في مقاربات القاهرة للعلاقة مع أثيوبيا منذ اندلاع أزمة “سدّ النهضة”.
في هذا الصدد، وتعليقا على إرسال مصر معدات عسكرية إلى الصومال، أصدرت الخارجية الإثيوبية بيانا انتقدت فيه ذلك معلنة أن الصومال تتواطأ مع جهات خارجية تهدف لزعزعة استقرار إثيوبيا. وأعربت الحكومة الإثيوبية عن قلقها من التشكيل الجديد لبعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ الأمن في الصومال والذي جاء بعد إرسال مصر معدات عسكرية إلى الصومال تزامنا مع اتفاقية التعاون العسكري الموقعة بين مصر والصومال.
وذكر مكتب المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية، أن إثيوبيا لن تقف خاملة تجاه ما يهدد أمنها القومي، وأنها تراقب عن كثب التطورات في المنطقة، مضيفة أن إثيوبيا ظلت تتجاهل التصريحات العدائية، والمحاولة المستمرة لتقويض تضحيات قوات الدفاع الإثيوبية في حفظ السلام في الصومال. وذكرت أنها لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي بينما تتخذ الجهات الفاعلة الأخرى لم تسمها تدابير لزعزعة استقرار المنطقة.
ويرى مصدر أثيوبي مراقب أن أثيوبيا تلقت باستياء رسالة دعم مصر للصومال في خلافها مع أثيوبيا. واعتبر أن حساسية العلاقة المصرية الإثيوبية وتعقيدات ملف سد النهضة ومعارضة مصر لوصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر وقيامها بتحشيد جامعة الدول العربية ضد إثيوبيا عزز الفهم السلبي للتحرك المصري الأخير. وقد تحدثت مصادر أثيوبية عن تطوّر “اللغة العدائية” من قيادات مقديشو، و “تحركها في اتجاه التحشيد الديني
للمجموعات المتطرفة لاستخدامها في حل الخلاف مع إثيوبيا”، وهو ما دفع أديس أبابا للتخوف من “عدم انضباط” حكومة مقديشو في إدارة السلاح والمعدات المصرية، بحسبه.
بالمقابل، تمسّكت مصر بسردية رسمية تنفي بتاتا أي مقاربات عدائية عسكرية في ما هو معهود في علاقاتها القديمة مع دولة عربية مثل الصومال عضو في جامعة الدول العربية. وأوضح مصدر مصري مراقب أن تلك الخطوة جاءت في ضوء بروتوكول التعاون الأمني الذي وقعته مصر والصومال مطلع هذا العام، حيث تهدف القاهرة إلى أن تساعد الصومال في حفظ أمن مضيق باب المندب على البحر الأحمر والذي يعد أحد عوامل أمن قناة السويس المصرية.
ونفت مصادر مصرية متخصصة أن يعتبر الأمر تدخلا عسكريا مصريا مباشرا في الصومال، مذكّرة أن مصر لا تمتلك قواعد عسكرية هناك وأن الأمر لا يعدو عن كونه طلبا تقدمت به دولة عربية (الصومال) للمشاركة في قوات حفظ السلام. أضاف خبراء في الشؤون الأفريقية أن مصر تؤكد حضورها في الصومال مقابل تنامي دور دول مثل أثيوبيا وتركيا وتستجيب للحاجة إلى تحديث الجيش الصومالي وبعث رسالة جيوستراتيجية تتعلق بوقوف القاهرة إلى جانب مقديشو.
وقد أفتت مصادر مصرية أخرى أن الأمر جزء من متطلبات اتفاقية الدفاع المشترك لجهة دعم مصر للقوات الصومالية وتدريبها وتزويدها بالسلاح لمواجهة الإرهاب. وأضافت أن الصومال دولة استراتيجية بالنسبة إلى مصر وتعاون الدولتين يتّسق مع مواقفهما الرافضة للتحركات الإثيوبية الجديدة تجاه مقديشو أو الأمن المائي المصري.
سياسة مصرية جديدة في أفريقيا؟
الأمر ليس تفصيلا يتعلق بثنائية العلاقة بين مصر والصومال وثنائية الخلاف بين مصر وأثيوبيا. وكان المراقبون لشؤون السياسة الخارجية المصرية لاحظوا همّة مصرية جديدة حيال المنطقة، وأشاروا إلى أن جيبوتي ومقديشو كانتا أولى وجهات وزير الخارجية المصري الجديد، بدر عبد العاطي، وأن القاهرة أعلنت عن نيتها افتتاح مبنى جديد لسفارتها في العاصمة الصومالية مقديشو، بجانب إطلاق خطوط طيران مباشرة بين العاصمة المصرية وكل من جيبوتي والصومال.
ويلفت مصدر مصري مراقب إلى أن مصر تتجاوز مرحلة إرسال الرسائل إلى إثيوبيا وتعتمد حاليا “سياسة الأفعال لا الأقوال”. ولفت مع ذلك إلى أن خيار المواجهة المباشرة مع إثيوبيا ليس مطروحا لدى بلاده، وأن مصر تحرص على سياسة عدم الاعتداء.
ويلاحظ مراقبون أن القاهرة تستغل فرصة تاريخية لمحاولة تشكيل تحالف إقليمي بقيادتها يضم دول الجوار الإثيوبي، مستغلة حالة التوتر بين هذه الدول وأديس أبابا، وهو ما بدأت ملامحه بالظهور مع الأنباء التي ترددت مطلع هذا العام حول تزايد احتمالات تكوُّن تحالف مصري إريتري صومالي. وفيما من المبكّر المغامرة في استشراف سياسة مصرية جديدة لمصر في القارة السمراء، فإن المستقبل قد يفرج عن أعراض أخرى في هذا الاتجاه ممكن الركون إليها لرسم خارطة السبل التي ستنتهجها القاهرة لنسج تحالفاتها والمناورة داخل ميدان بدا يصبح ملعب العواصم البعدة والقريبة.
وعلى الرغم من عدم وضوح ما إذا كانت قمّة الرئيس المصري مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، قد أثمرت عن تفاهمات مشتركة بشأن القرن الأفريقي والصومال، غير أن بديهيات التقارب المنجز خلال الأشهر الأخيرة بين القاهرة وأنقرة يفرض شكلا من أشكال التكامل والتقاطع في منطقة المصالح المشتركة.
ومعروف أن اتفاق التعاون العسكري بين الصومال ومصر يأتي بعد إبرام الصومال اتفاقية مع تركيا. وتحدثت الأنباء عن استعداد تركيا لإرسال دعم من قوات البحرية إلى المياه الصومالية بعد أن اتفق البلدان على أن ترسل أنقرة سفينة استكشاف قبالة سواحل الصومال للتنقيب عن النفط والغاز. وجدير هنا التذكير بأنه في تموز (يوليو) 2024، أوردت وكالة الأناضول التركية الرسمية أن الرئيس التركي قدم اقتراحا إلى البرلمان يطلب فيه الحصول على إذن لنشر قوات من الجيش التركي في الصومال، بما يشمل المياه الإقليمية الصومالية. الجدير بالذكر أنه في عام 2017، افتتحت تركيا أكبر قاعدة عسكرية خارجية لها في مقديشو، توفر تركيا التدريب للجيش والشرطة الصوماليين.
يأتي التحرّك المصري على نحو مغاير ومربك للاعبين في المنطقة. وحتى بعد أن أطلّ حلٌّ ما من جيبوتي، فإن أمام القاهرة مروحة واسعة من الخيارات. فبهدف نزع فتيل التوتّر، قال وزير الخارجية الجيبوتي، محمد علي يوسف، في 30 آب (أغسطس) الماضي، إن بلاده، التي تشترك في الحدود مع إثيوبيا وأرض الصومال، ستقترح على إثيوبيا طريقاً بديلاً إلى خليج عدن من خلال إدارة بنسبة 100 في المائة لميناء في الشمال، وهو ممر جديد تم بناؤه بالفعل” في تاجورة، وأن الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر جيلة، طرح الاقتراح “لإيجاد طريقة للحوار” لوقف التصعيد في التوترات في منطقة القرن الأفريقي.
وليس واضحا ما إذا كان الاقتراح من جيبوتي هو وحيّ يوحى أم أنه جاء بمبادرة ذاتية. ومع ذلك فإن هواجس مصر من إطلالة أثيوبية على البحر الأحمر من منافذ ” أرض الصومال” قد لا تبدّدها إطلالات من ميناء في جيبوتي. وعلى الرغم من أن اقتراح جيبوتي لا يشمل تواجدا لقاعدة عسكرية تديرها أثيوبيا من هناك، غير أن مصر أبلغت من يهمه الأمر أنها ستدرس المقترح الجيبوتي وتقوّم أبعاده لتبني على الشيء مقتضاه.
عُرف عن السياسة الخارجية المصرية الروية والهدوء والبعد من أي انفعالات متعجّلة. يكفي تأمل المقاربة المصرية الرسمية لأزمة “سدّ النهضة” الذي تشيّده أثيوبيا على نحو تعتبره القاهرة، في الشكل والأسلوب والمضمون والنتائج، مضرا بمستوى حاجات مصر من المياه. استعاد الخبراء قولة هيرودوت الشهير، “مصر هبة النيل”، لاستشراف حتمية لجؤ مصر إلى القوة العسكرية للدفاع عن حقوق مائية هي أساس في اقتصاد البلد واستقراره ومستقبل وجوده. ومع ذلك راحت القاهرة تستنفد سبل الدبلوماسية والقانون.
يعود أصل الأزمة تاريخيا إلى حاجة إثيوبيا إلى منفذ بحري بعد أن فقدته بعد انفصال أريتريا عنها وإعلانها استقلالها عام 1993 بعد حرب دامت 30 عاماً. وقد اعتمدت إثيوبيا لاحقا على موانئ الدول المجاورة. هذه الحاجة، وفق المبرارات الأثيوبية هي التي دفعت أديس أبابا إلى إبرام هذا الاتفاق، في أول عام 2024 لتأمين ممر مباشر إلى البحر الأحمر عبر “أرض الصومال.
يلاحظ مراقبون أن القاهرة تستغل فرصة تاريخية لمحاولة تشكيل تحالف إقليمي بقيادتها يضم دول الجوار الإثيوبي، مستغلة حالة التوتر بين هذه الدول وأديس أبابا، وهو ما بدأت ملامحه بالظهور مع الأنباء التي ترددت مطلع هذا العام حول تزايد احتمالات تكوُّن تحالف مصري إريتري صومالي.
الوجه الآخر لصراع “سدّ النهضة”
تصف مصادر عسكرية مصرية التحركات المصرية في القرن الأفريقي بأنها “استباقية” لحماية الأمن القومي المصري في إقليم ذي أهمية إستراتيجية للقاهرة، ويشهد العديد من المهددات الأمنية كالنزعات الانفصالية والجريمة العابرة للحدود والتنافس الدولي والتوتر في جنوب البحر الأحمر الذي يؤثر بشكل مباشر على قناة السويس. ورغم السرية التي أحاطت بنود الاتفاقية الدفاعية بين مصر والصومال، فإن مصادر أرى تشير إلى أنها تتضمن تعزيز التعاون العسكري والأمني والدفاع المشترك بين البلدين، بما يشمل التعاون في المجال العسكري والاستخباراتي ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وتبادل المعلومات.
ويضيف المصادر أن الاتفاقية تتضمن تدريب عناصر صومالية في القاهرة أو إرسال خبراء لتدريبهم في الصومال، وتدريب الجيش الصومالي على مواجهة التهديدات المرتبطة بحماية وسلامة أراضيه، وتدريب مجموعات على مكافحة الإرهاب، ولا سيما بالنظر إلى تنامي الإرهاب في الصومال نتيجة نشاط حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة.
وتحيط بالصومال العديد من المهددات الأمنية أهمها أنشطة حركة الشباب المجاهدين التي تصاعدت أعمالها في الأشهر الأخيرة، ورغم العديد من الجهود المبذولة لمواجهتها، فإن القوات الصومالية عجزت عن دحرها منفردة، مما أدى إلى وجود بعثة أفريقية لدعم الجيش الصومالي منذ 18 عاما، ولعبت القوات الإثيوبية فيها دوراً بارزا على الدوام، حسب هذه المصادر.
وفي مطلع يونيوالماضي، نقل موقع “صوت أميركا” تصريحا لمستشار الأمن القومي الصومالي حسن شيخ علي، أكد فيه أن “القوات الإثيوبية لن تكون جزءا من القوات التي يقودها الاتحاد الأفريقي” والتي ستعمل في الصومال لمدة عام ابتداء من يناير 2025.
وفي وقت لاحق تقدمت مقديشو بمذكرة إلى مجلس السلم والأمن الأفريقي مطالبة بتشكيل بعثة أفريقية جديدة، وهو ما فسره مراقبون بأنه سعي صومالي لإخراج القوات الإثيوبية من البلاد وتمهيد الطريق لحلول قوات مصرية وجيبوتية محلها.
التفاهمات المصرية الصومالية أتت في خضم أزمة ممتدة عاشتها العلاقات الإثيوبية المصرية على خلفية سد النهضة، وفشل الأطراف في التوصل إلى حلول مرضية في ما يتعلق بإدارة السد وتقاسم الحصص المائية. آخر تطورات هذا الملف تمثلت في إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مقابلة مع التلفزيون المحلي توقعه اكتمال أعمال بناء سد النهضة بحلول ديسمبر من هذا العام، الأمر الذي يصفه مراقبون بأنه نجاح أديس أبابا في كسب الوقت لإكمال بناء المشروع الضخم ووضع جميع الأطراف أمام الأمر الواقع.
وضمن هذا الإطار، يرى محللون أن الاتفاقية المصرية الصومالية ليست مرتبطة بالتوتر الذي تشهده علاقات بلاده وإثيوبيا، معتبرا أنها امتداد طبيعي للحضور المصري في الصومال منذ دخوله في نفق أزماته الممتدة منذ تسعينيات القرن الماضي. وهو رأي يخالفه فيه رأي قريب من وجهة النظر الأثيوبية يشير إلى أن التحرك المصري ليس بعيدا عن التنافس المصري الإثيوبي أو “بالأحرى الصراع حول ملف سد النهضة”. وترى بعض المصادر المتخصصة أن الصومال تحوّل بالفعل إلى ساحة حرب بالوكالة للبلدين وإن كانت في مراحلها الأولية، ,ان ما يدور من تنافس وحضور على شتى المستويات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية ربما يؤكد ذلك.