لو انهم يستمرون في رقص و غناء

تزاحموا فملأوا إطار المكان وأنا وراء المصور واقفا بلا دعوة. أرى الصورة على الحائط. أذكرهم واحدا واحدا و لا يذكرونني حين ينظرون اليها في بلادهم الجديدة المتباعدة.

الياقات المنشاة و ربطات العنق المناسبة لبزات من الجوخ الإنكليزي أنجزها خياط واحد يثقون به في بناية العازارية . يقفون في الحديقة الصغيرة لأستوديو “فاهيه” مابين أوامر المصور في طريقة الأبتسام و وجهة العيون ، الى أن يبهرهم الضوء و يتم التأكد من إنجاز الصورة.

وتكاد المعارك العربية، تنحصر في اللغة لا في الجبهات ، وإذا أتيح لها الخروج فإلى الغرائز حيث مقاتل أهل يتكلمون اللغة نفسها .و يصر صديقي الذي نال  الجنسية البريطانية على إستخدام لغة المعارك العربية حين يهاتفني من لندن،   و من ذلك حوارية يرددها :”لماذا انسحبت من المعركة؟ حين الجبان يكر و الشجاع يفر فتأكد أن في الأمر خيانة” . وردا على حواريته أخبرته عن لوحة كتبت عليها الأية “أن ينصركم الله فلا غالب لكم ” معلقة في أحد المطاعم الكبرى على الطريق الصحراوية بين الإسكندرية و القاهرة ،فدهشت لاستحضار معنى حربي في مطعم، وقلت للسائق:اليس الأجدر تعليق لوحة تضم الآية “كلوا من طيبات ما رزقناكم” ام أن لغة الحرب في مطعمنا لا في الجبهات؟ لم يستطع صديقي اعتماد لغة ترضي عقله و تسمح بالحضور في مجتمعه العربي في الوطن والمهجر . يتمسك بلغة السبعينات لعدم وجود بديل ،لكنه في أحيان كثيرة يضجر من نفسه حين يرى لغته موزعة على حوالي ٦٠ عربيا في حوالي ٤٠٠ فضائية يمارسون الطنين ، الطنين و لا شيء آخر،  باعتبارهم خبراء في الشأنين السياسي والاجتماعي ، لا أحد منهم يقول جديدا ، و الجميع يكرر الألفاظ /الطنين . قال صاحبي : حالتنا النفسية نتاج ما نشاهد و ما نقرأ.

قلت له انني اخترت الانسحاب ، وحتى إذا لم أنسحب فأن الطنين سينفيني فلا دور لي و لأمثالي في شؤون الفكر و السياسة حيث يروج التنازل عن القيم .

نمشي على خط الدائرة فنصل إلى نقطة البدء ، ثم نعاود المشي حتى الدوار ، و نقول اجتهدنا فلم نحقق نفلة في المسار. و يتحقق الدوار حين يطردنا الحب من ملكوته لكننا نصر على الارتباط به لأنه الدفء و الحياة .

وهناك متسع الرمل عند الشاطئ ، من زبد الماء إلى أول التراب والعشب و الشجر، نمشي فلا يميزنا الواقفون على الشرفات ، مجرد كائنين صغيرين نتحرك بين الأخضر و الازرق .

و مثل اتساع الرمل المتصل بالماء المالح، لا نصل إلى رواء و لا إلى نبات خصيب. لذلك نقف في مكاننا و نحرك الأقدام دون أن نمشي . لا جدوى من حركتنا نحن اللبنانيين حين نتشابه أمام الموائد و أثناء الرقص و الغناء فلا يصدق أحد أننا نتصارع عند حافة حرب، ثم نسقط في اتونها كل عشر من السنين

لو ان اللبنانيين يستمرون في رقص و غناء و في الأكل من مطبخهم الواحد. لو انهم يصمون الآذان عن خطب الايدولوجيين  التجريديين،  لكان لبنان أكثر جمالا، و الكون كذلك،

“انتهت الحرب” إعلان يطوي يوميات الموت و الدمار، و حين يسمعه الناس تسقط عن ظهورهم المتعبة  اثقال و ترفع من وجوههم أسئلة القلق و توقع الأخطار.

في بلادنا لا نسمع أبدأ هذا الإعلان.  سلامنا هدنة بين حربين ، و حربنا لا بداية لها و لا نهاية.

و نحن العرب و ليس اللبنانيون وحدهم، تؤنسنا الهزيمة فنتوحد من حولها مستسلمين أو متمردين أو ناقدين .

أما نصرنا، وهو القليل النادر ، فيحمل إلينا الخلاف، و قد يوصلنا الى حروب اهلية.

يا اهلا بالهزائم . و منتهى الهزائم ما حدث اخيرا في سورية ، نحن أمام وطن اقدم على الانتحار أو أن قوى كبرى في العالم نحرته لأسباب مجهولة.

و نعرف الشعب السوري ، او نزداد معرفة به ، حين نشاهد الفيلم الوثائقي “كم لنا”.مخرجة الفيلم الشاعرة السورية هالا محمد كشفت في وقت محدود مشاهد و أغاني ورقصات شعبية و شهادات عن ثوار ضد الاحتلال الفرنسي :يوسف العظمة و صالح العلي و ابراهيم هنانو و سعيد العاص و عز الدين القسام الذي استشهد و سعيد العاص لاحقا في فلسطين ، إشارة إلى تلازم في مواجهة الانتدابين الفرنسي و البريطاني (و الأمر أكثر تعقيدا في فلسطين لتفاقم الاستيطان الصهيوني و مليشياته المسلحة).

كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيها غبار التعب، تغنيها نجاح سلام ، و منها يقتطف عنوان الفيلم : بيت العائلة انطلق منه يوسف العظمة إلى مصيره في ميسلون، و بيت صالح العلي تقف ابنته عند بابه و على وجهها دوائر ضوء من خلال شجرة وارفة، بيت الثائر السوري الجبلي واسع و خاو ألا من كرسيه. نسمع صوت الغناء الشعبي شجيا ، ثم مملوءا بالحماسة “يا فرنسا خبزك مالح ، و الدولة للشيخ صالح “.

أما بيت إبراهيم هنانو فيبدأ من حديقة تتوسطها فسقية ماء يظللها نبات بلا عناية ، و عند المدخل صور معلقة لهنانو ورفاقه . يروي أحد الأقرباء عند محاكمة الثائر و تضامن سعد الجابري معه و مهارة محاميه الحلبي فتح الله السقال . ولدى ذكر سعيد العاص نرى أزقة حماه وقد استعادت التظاهرة القديمة ، مجموعة تحمل على الأكتاف شابا واقفا (المشهد مثل لوحة لماغريت):”وإن هلهلتي هلهلنا لك”. و يروي حفيد عز الدين القسام حكايات نضال جده الشيخ ما بين سورية و فلسطين . أما سلطان الأطرش فيتحدث عنه أقرباؤه ، ويصطف شيوخ في رقصة حرب ، و يغني شيخ آخر :”من الشيخ للطفل الرضيع ، كار الحرايب كارنا”… مع انهاء بالجولان و أهله المصرين على الانتماء إلى وطنهم سورية.

الثوار الذين تناولها الفيلم أصدقاء و رفاق درب تعاونوا لتحرير وطنهم وهم حاضرون في وجدان الشعب السوري ،يتوحد من حول ذكراهم بعواطف متشابهة.

يحاول فيلم هالا محمد ، بجماليته اللافتة، تقديم روح الحرية لدى الشعب السوري معبرا عنها بالغناء و حكايات أبطال يستمرون في الذاكرة.

روح الحرية من أطفأها في سورية؟