مدينة الشّمس العابقة بالتّاريخ والآلهة

 “قمرٌ بعلبك” بات مصبوغاً بلون الدم

عندما نقول بعلبك، نفتح كتاب التّاريخ على مصراعيه. فهي ليست مجرد مساحة على خارطة لبنان.

إنّها المدينة  التي أغوت آلهة الخمر والجمال، وأيقظت معابدها بخورالعالم، حيث اختلطت فعلياً الهندسة المعمارية بالدين، كوحيّ سماويّ ممزوج بالأساطير القديمة.

فكيف لمدينة ساحرة تنتظرها الشّمس لتشرق من سهلها ومن قلوب سكانها الطيّبين أن تُقصف أمام العدسات اللاصقة للمستقبل الوقح؟

وكيف للذكاء الاصطناعيّ أن يصنع تاريخاً بحجم أعمدتها الخيالية، ونهراً فضفاضاً يزيّن ضفاف رأس العين؟

أتى بعض المؤرخين على القول بأن هياكل بعلبك بُنيت قبل طوفان نوح، وبأن حجارتها نقلت على ظهر الحوت الذي انقرض بالطوفان، وهو يكبر الفيل بعشر مرات”.

وقسم آخر اعتبر أن “مردة سليمان هم من شيّدوا الهياكل لأنه لا يمكن أن تكون من صنع البشر”.

أمّا ديودورس الصقليّ، فقد نقل عن حوريات الفينيقيين بأن شيثن ابن الإله الشّمس والآلهة روديا ابنة نبتون، أسّس مدينة بعلبك إكراماً لوالده، ومعبداً يزيّنه تمثال اله الشّمس”.

أمّا العالم لاجرست، فرأى أن “بناة بعلبك هبطوا من الفضاء ليعلموا أهل المدينة كيفية البناء، قبل عودتهم إلى كواكبهم”.

” بعلبك أنا شمعة على دْراجك / أنا نقطة زيت بسراجك..”

” هون نحنا هون/ لوين بدنا نروح/ يا قلبي يا مشبك/ بحجارة بعلبك..”

هذا ما كتبه الأخوين رحباني للسيّدة فيروز التي أطلّت مراراً وتكراراً  في مهرجانات بعلبك الدولية، هذه المهرجانات التي بدأت أثناء فترة الانتداب بطريقة غير رسميّة.

فجمعت المعابد الثلاث نخبة من الأسماء الكبيرة والتي لا تتكرر من مختلف الأقطار.

وكانت  السيّدة  مي عريضة،رئيسة المهرجانات وسبباً في اعتبارها عالمية، وكان قد عيّنها الرئيس كميل شمعون مع باقة من المهتمين بالأمور الثقافية والفنيّة لإحياء عظمة التّاريخ على كل من معبدي باخوس وجوبيتر، وقد استطاعت عريضة نسج علاقات مع كبارالفنانين.

وكان لمهرجانات بعلبك حصة الأسد من العروض الخيالية، فصدحت بين أعمدتها أهم الأصوات، بالإضافة إلى أفخم عروض الموسيقى الكلاسيكيّة والرقص الفولكلوريّ والمسرح والأوبرا، لتشهد المدينة نهضة سياحية وثقافية لا مثيل لها، شكلّت جزءاً من ذاكرتها الفنيّة والحضاريّة،قبل أن تهزمها قظائف الحرب وعنفها المستشري.

تقع بعلبك شمال سهل البقاع وشرق نهر الليطاني في لبنان، وهي أحد أبرز المواقع التّاريخية، ومحط أنظار السيّاح وعلماء الآثار.

كانت تاريخيّاً نقطة التقاء القوافل التّجارية القادمة من روما والأناضول وسوريا وغيرها.

عرفت خلال فترة الانتداب الفرنسيّ مشاريع تطويريّة، واهتماماً خاصاً بآثارها التي شهدت نشاطاً سياحياً، امتد حتى العام ١٩٤٣،وهو تاريخ استقلال لبنان من الوصاية الأجنبية.

كانت تتميز أيضاً بوجود محطة قطار تصلها بأوروبا مروراً بحمص وحلب، كما بالشام وبغداد وصولاً إلى الحجاز، ولا زالت بقايا سكة الحديد شاهداً على النهضة التي كانت تميّز شوارعها العابقة بالحضارة والهندسة العمرانية غير المسبوقة.

لقد اختلف المؤرخون حول تسمية مدينة بعلبك، فمنهم من اعتبر أن الاسم يعود إلى كلمتي  بعل و بك، و بعل هو أحد آلهة السريانيين والكنعانيين.

أمّا كلمة بك فتعني مدينة، أي مدينة بعل.

وقد ذكر أنيس فريحة في كتابه ” أسماء المدن والقرى اللبنانية”، أن أصل تسمية المدينة يعود إلى كلمة بعل وتعني مالك أو سيّد أو رب، وكلمة بق وتعني البقاع.

وبهذا يكون معنى بعلبك أيضاً، اله وادي البقاع.

أطلق الرومان عليها اسم  هليوبولس أي مدينة الشّمس، وسمّوها كذلك اهراءات روما، وهي تعني مخازن الحبوب، وذلك بسبب وفرة محاصيلها الزراعية.

يبدو أن روايات كثيرة يتم تداولها حول قيامها فيؤكدالبعض منها أن أول من أنشأها هو قابيل وبذلك تكون أول مدينة في العالم. وقد أسماها على اسم ابنه أخنوع.

 وهناك معالم تدل على أنّها المدينة الوحيدة التي نجت من الطوفان على عهد النبي نوح.

ويُعتقد أيضاً أن جبل سعيد، هو الجبل الذي كانّ النبيّ إبراهيم سيذبح فيه ابنه إسماعيل.

وتّشير قصص أخرى إلى أن بعض آثار المدينة تعود إلى قصر النبي سليمان والنبي إلياس.

وأعتبر بعض المؤرخين إلى أن النقوش المحفورة على جدران المعابد القديمة في بعلبك تشير إلى وجود حياة في المدينة قبل أكثر من خمسة عشر الف عام .

وقد ذكر بعضهم أن المدينة بُنيت على أيدي الفينيقيين عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، واليهم يعود بناء أول هيكل لعبادة إله الشمس، إضافةً إلى المجمع الأثري الذي يضم المعابد الرومانية وآثاراً لبعض الحضارات الإسلامية القديمة ومن أهم هذه المعالم،  الجامع الأمويّ الكبير، ويقال إن صلاح الدين الأيوبيّ كان قد درس فيه، وهو يقع إلى جانب قلعة بعلبك، وقد تعرض هذا الصرح للإهمال على مدى سنوات طويلة، حتى سميّ بالجامع الخربان، وقد أعيد ترميمه في وقت لاحق من قبل مركز إحياء تراث العمارة الإسلامية ليستعيد من جديد دوره التاريخيّ.

وفقاً للمؤرخ اسطفان الدويهي فإن قلعة بعلبك هي من أقدم ما بناه البشر في العالم أجمع، إذ أن قلبين بعد أن شعر بالارتعاش أمر ببنائها ولقبها باسم ابنه أخنوخ.

بالنسبة للأب مارتين اليسوعي فإن الشيطان اسمودي، هو المهندس الفعليّ لهذا البناء العظيم، وأسّسها قايين بن آدم، بعدما قتل أخاه.

إن معبد باخوس والذي يعتبر جزءاً من المشهد التاريخيّ، فهو يعود إلى الحقبة الرومانية، وهو يتميز بنقوشه الحجريّة والمتقنة وأعمدته الضخمة والمزخرفة بنقوش نافرة ودقيقة الصنع.

يتميّز معبد جوبيتر الذي لم يتبق من أعمدته الأربعة والعشرين  سوى ستة أعمدة ضخمة، تزيّن ليل المهرجانات بظلالها، بزخارف جدرانه ونقوش من الأساطير الرومانية.

بالنسبة  لمعبد فينوس فهو مختلف من حيث تصميمه الدائريّ وأعمدته الغرانيتية، وهو الأصغر حجماً بين المعابد الثلاثة.

أمّا معبد ميركوري، فلم يتبق منه سوى جزء من الدّرج المؤدي إليه على هضبة الشيخ عبدالله.

وقبل الولوج إلى عبق التاريخ حيث المعابد القديمة، يطالع القادمين إلى القلعة  بهواً مسدساً مشرعاً لأشعة الشمس، ومزيّناً بأعمدة من الغرانيت وأروقة رومانية ضخمة وساحتين، تفتح أسئلة في الذاكرة حيث تأوي الطبيعة  ويجري النهر قريباً منها سالكاً طريقاً آمناً إلى حيّ البساتين، تاركاً مياهه تتنزه ببطء قبل الوصول إلى المصب.

وعند المدخل الجنوبيّ للمدينة يتواجد الحجر الأضخم  في التّاربخ وهو حجر الحبلى، وكذلك  مقام السيدة خولة بنت الحسين، وبقايا جامع أم عياد، الذي بُني على أنقاض كنيسة مار يوحنا التي كان قد شيّدها البيزنطيون.

وتقع في المدينة  أكبر مغارة سكنها الإنسان في الشرق وتدعى مغر الطحين، هذا عدا عن المقالع الرومانية في منطقة الكيال ووادي الشعب وتلّة الشيخ عبدالله.

ونذكر في السياق فندق بالميرا الأثريّ ومتحفه الذي يحكي تاريخ بعلبك، والذي استقبل كبار شخصيات العالم كالجنرال ديغول والكاتب جان كوكتو وأراغون وشارل أزنافور.

وتضم المدينة مجموعة من المباني التاريخية العريقة، المشيدة على الطراز العثماني.

ولا يُخفى على أحد أن بعلبك كانت حاضنةً للثقافة، ومدينة للعلماء والأدباء ومن أشهرهم الامام الأوزاعي، الشيخ البهائي، الشاعر خليل مطران، طلال حيدر، عبد الحليم كركلا وآخرين.

 مع العلم أن شاعر المحكية ميشال طراد كان حارساً لقلعة بعلبك على مدى سنوات عدّة.

فهل من أمين على هذا الصرح أجمل من شاعر شرّدته القصيدة إلى القلعة القصيدة؟

لا بحر في بعلبك، فقط نهر فضفاض يزيّن مقاهي المدينة وسهل تنيره القلعة الواثقة من مجدها، والمتربعة على عرش التراث العالميّ، والكثير الكثير من الحفريات التي لا تكف عن الدهشة في حضرة النوواويس والجران الحجريّة والكنوز الدفينة.

لا بحر فيها، بل بساتين تحيط بسوقها القديم، وكنائس تاريخيّة وسكة حديد لا زال صدى العربات وصيحات التّجار يتردد بالقرب منها.

إضافة إلى مغاور وكهوف تتصف بالتّداخل والاتّساع والعمق وطابعها الجيولوجيّ الواحد.

لا بحر في المدينة بل ظلال للسفن والبواخر، والكثير من سادة التاريخ يتأملون شروق الشمس من مغرب المدينة المطلة على دهاليز الماضي وأطلاله وخباياه.

لا بحر في بعلبك، لأن الشمس تختال في الأفق، ولا تحتاج أن تغيب.