مقاربة المستقبلات المتكاملة واستشراف مشاهد المستقبل

   توطئة

في الاعداد السابقة على العددين الماضيين من مجلة الحصاد تم تناول ثمة مقاربات منهجية واسعة التوظيف ومن ثم الانتشار ضمن دراسات المستقبلات سبيلا لنشر الوعي بأهمية دور هذه المقاربات في انتاج استشراف مبدع يتماهى والمشاهد الممكنة و/او المحتملة للمستقبل . وبهذا الصدد، لنتذكر أن التمكن العلمي العميق من إحدى أو بعض هذه المقاربات يُعد، وباتفاق الراي، أحد الشروط الأساسية التي تفضي على الباحث العلمي في استشراف المستقبلات خاصية الاحتراف وبالمخرجات العلمية الناجمة عنها.

 ومنذ توظيف التفكير العلمي في استشراف المستقبل نحو منتصف القرن الماضي ودراسات المستقبلات تعمد إلى توظيف ثمة مقاربات تنطلق أما من التفكير الاستطلاعي/الكمي، أو التفكير المعياري/الكيفي. بيد أن هذه الدراسات بدأت، ومنذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي في الأقل، تتجه نحو تحقيق تكاملها المنهجي. في ادناه سنتناول تطور هذا الاتجاه، ومن ثم نتناول مقاربة المستقبلات المتكاملة، كنموذج للنزوع نحو التكامل بين مقاربات هذه الدراسات.

  1. تطور التكامل المنهجي في دراسات المستقبلات

في دراسته ، الصادرة عام 1994، عمد المستقبلي الامريكي، تيودور غوردون (Theodore J. Gordon)، الى تصنيف المقاربات التي كانت دراسات المستقبلات تستخدمها في وقته. ولهذا الغرض، أنطلق من معيار مركب تتأسس على السمة العامة لهذه المقاربات: استطلاعية أو معيارية، وكذلك على طبيعة الياتها: كمية أو كيفية. وقد افضت مخرجات دراسته إلى توزيع مجمل هذه المقاربات كالاتي:

  • (12) مقاربه ذات سمة استطلاعية بالمقارنة مع ( 11) مقاربة ذات سمة معيارية .
  • (8) مقاربات ذات طبيعة كمية ( 8 ) مقاربة بالمقارنة مع عدد تلك ذات الطبيعة الكيفية الذي كان ( 9 ) مقاربات.
  • إما عدد المقاربات الاستطلاعية أو المعيارية، التي انطلقت من اليات ذات طبيعة كمية وكيفية في أن، فقد كان (7) مقاربات.

وتشير هذه المخرجات إلى أن نسبة الاخذ بكل من المقاربات الاستطلاعية/ الكمية، والمعيارية/ الكيفية كانت متقاربة في وقته. أما نسبة الاخذ بالمقاربات ذات الطبيعة الكمية/الكيفية، فهي وإن كانت أقل منهما ، إلا أنها كانت، مع ذلك، قريبة عنهما.

وبالمقابل، يُشير المستقبلي العربي، وليد عبد الحي، إلى أن الدراسة التي قام بها المستقبلي الامريكي، غوردون وزميله جيروم غلين، في عام 2004 لاستطلاع سمات وطبيعة (24) مقاربة مستخدمة في دراسات المستقبلات، افادت بمخرجات مختلفة، عن تلك التي ذهبت إليها دراسة المستقبلي, تيودور غردن, وكالاتي:

  • لقد بلغ عدد المقاربات ذات السمة الاستطلاعية (21) مقاربة. إما عدد المقاربات المعيارية فقد كان (12) مقاربة.
  • إما عدد المقاربات ذات الطبيعة الكمية فقد كان (9) مقاربات. إما عدد المقاربات الكيفية فقد بلغ (18) مقاربة.
  • وإما عدد المقاربات الاستطلاعية والمعيارية، التي انطلقت من اليات كمية وكيفية، فقد بلغ (10) مقاربات.

وتفيد مخرجات دراسة عام 2004 بالمقارنة مع دراسة عام 1994 بأمرين مهمين: أولهما، تصاعد توظيف المقاربات الاستطلاعية وكذلك الكيفية. أما ثانيهما، فهو استمرار نمو الاتجاه بين المستقبليين نحو الاخذ بالتكامل المنهجي في دراساتهم للمستقبلات.

 وقد دفعت ثمة مدخلات مهمة إلى هذا التكامل. فإضافة إلى تأثير مخرجات الخصائص التي استمر العالم يتميز بها منذ عقود، ولاسيما خصائص التغيير، ومن ثم اللايقين والتعقيد، ادت مخرجات التجربة الممتدة لدراسات المستقبلات إلى دعم هذا التكامل لغرض مهم يكمن في توليد تلك المعرفة التي تسهل عملية استشراف مشاهد المستقبل بيسر وكفاءة. وبصددها قال المستقبلي الامريكي، ويندل بل: ” إن معرفة المستقبل هي المعرفة الاكثر فائدة…لأنها تساعدنا على الإبحار عبر الزمان باطمئنان”. وبدورها تؤكد جمعية مستقبل العالم الامريكية على جدوى تكامل المقاربات المنهجية لغرض إنجاز استشراف مستقبلي أكثر دقة.  وتكمن مخرجات هذه التجربة في الاتي:

  • أولا، إن تركيز الاهتمام على تأثير مجموعة متغيرات محددة كالتكنولوجية والاقتصادية وتجاهل سواها ينطوي علي تعطل انجاز دراسة مستقبلية ذات مصداقية، لا سيما وإن المستقبل يُعد حصيلة لتأثير تشكيلة متعددة ومتنوعة من المتغيرات. ومن هنا يتكرر التأكيد على جدوى الانطلاق من حزمة شاملة من هذه المتغيرات لإنجاز مثل هذه الدراسة. فمثلا يقول ، وليد عبد الحي: إن “…المنهج التجزيئي (Reductionism) الذي يسعى لفهم…الظواهر المعقدة وتطورها المستقبلي استنادا إلى بعض المتغيرات يشكل …منهجا قاصرا (وهو الامر الذي) …عزز الانحياز إلى المنهج الكلاني  (Holism)) …”
  • ثانيا، إن توظيف الإجراءات المنهجية لإحدى المقاربات لا يُعد ضمانة كافية لتأمين استشراف دقيق لمشاهد المستقبل.

فالمقاربة التي تتأسس مثلا على رؤية تفيد أن الحقائق التي تحكمت في انتاج صورة الماضي ستستمر لاحقا ثابتة في ايقاعها واتجاهها وستفضي الى صورة للمستقبل تتماهى وصورة الماضي، هي رؤية غير دقيقة في الاقل. ومرد ذلك أنها تتناسى ببساطة أن الماضي لا يُكرر ذاته، وإن مسيرة الحاضر نحو المستقبل قد تقترن بمفاجئات تجعل مخرجاتها من صور المستقبل مختلفة كليا عن تلك الصور، التي اقترنت بها أزمنة الماضي والحاضر.

 وقد تكمن هذه المفاجئات في تأثير تلك المتغيرات التي تبدوفي وقت محدد ضئيلة الاحتمال، ولكنها تكون عالية التأثير عند حدوثها لاحقا. وفي دراسات المستقبلات يُطلق على هذا النوع من المتغيرات تسمية البطاقة المتوحشة (Wild Card) و/أو البجعة السوداء ) Black Swan).

لذا، ومن اجل الاستعداد المسبق لمثل هذه المفاجآت، ومن ثم الاستشراف الدقيق لمشاهد المستقبل، يتكرر القول بجدوى الاخذ بالإجراءات المنهجية للعديد من المقاربات في ان. فمثلا يقول، وليد عبد الحي، أن: “…المزج بين التقنيات الكمية والكيفية لفهم ألية تحول الظواهر لرصد مسارها المستقبلي، (هو) أمر مبرر من الناحية العلمية…”

 وقد ادى الاتجاه نحو التكامل المنهجي بين مقاربات دراسات المستقبلات إلى ابتكار مقاربة تتيح اجراءاتها المنهجية الارتقاء بهذا التكامل إلى أفاق أرحب واوسع، هي مقاربة المستقبلات المتكاملة (Integral Futures).

  1. مقاربة المستقبلات المتكاملة

وعلى الرغم من أن الاتجاه نحو التكامل بين المقاربات الكمية والكيفية في دراسات المستقبلات كان أحد مداخل تطورها المنهجي عبر الزمان، بيد أنه لم يُؤد إلى بلورة مقاربة تكاملية (متكاملة)، إلا بعد دعوة المستقبلي الاسترالي الاصل ريتشارد سلوتر( (R.Slaughter ، في بداية القرن الحالي، إلى الاخذ بمقاربة المستقبلات المتكاملة في دراسات المستقبلات.

على أن ما تقدم لا يلغي أن لهذه المقاربة جذور تمتد إلى نهايات العقد السادس من القرن الماضي، وتحديدا إلى عام66 19، عندما اقدم المستقبلي الامريكي، اريخ جانتشErich Jantsch) )، على طرح ما اسماه بالاستشراف المتكامل (Integrative Forecasting) الذي تضمن الاخذ بمتغيرات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وتكنولوجية، ونفسية، وأنثروبولوجيا، اثناء اعداد السياسات والتخطيط واتخاذ القرار.

 وعلى الرغم من جذورها التاريخية إلا أن المقاربة المتكاملة تتأثر، وعلى نحو خاص، بمضمون النظرية التي ابتكرها الفيلسوف الامريكي، كين ويلبر (Ken Wilber)، في ثمانينيات القرن الماضي، والتي أطلق عليها تسمية النظرية المتكاملة (Integral Theory). وبها اراد الجمع بين العديد من المقاربات في مقاربة واحدة سبيلا لتامين فهم ادق وأشمل لموضوع الاهتمام. وتجد هذه النظرية تطبيقات عملية واسعة في حقول معرفية كثيرة، كعلم النفس، والقانون، والسياسة، وإدارة المنظمات …الخ

تتأسس المقاربة المتكاملة في دراسات المستقبلات على منظور مركب قوامه التأثير المتبادل بين الذاتية الفردية والجماعية، بمعنى العلاقات النفسية ( الذاتية) بين أفراد الجماعة من ناحية، وبين تأثير الموضوعية الفردية والجماعية، بمعنى الافعال الهادفة للجماعة من ناحية أخرى. وقد تم الانطلاق من هذا المنظور لبناء النموذج، الذي تمت تسميته بنموذج المربعات الاربعة

(The Four Quadrant Model)، والذي تم استخدامه كخارطة تؤشر الطريق إلى المستقبل.

وكما تُفيد تسميته ، يقوم هذا النموذج على أربع مربعات متفاعلة تتوزع أفقيا إلى يسار ويمين، وعموديا إلى أعلى وأسفل. وكذلك على ربط هذه المربعات العمودية بالأفقية ببعض، وعلى نحو يفضي، من الجهة العليا للنموذج، إلى مربعين أحدهما على اليسار والاخر على اليمين. وإلى الشيء ذاته من الجهة السفلى للنموذج ،علما  أن جميع هذه المربعات تشكل وحدة متكاملة، بمعنى أن كل مربع يكمل سواه.

وكذلك يتأسس هذا النموذج على مستويين متفاعلين من التحليل، ينطلق كل منهما من صعيدين: داخلي وخارجي. فإما عن المستوى الاول فهو يتناول الفرد، ويبحث في نواياه المقصودة، وهذا هو الصعيد الداخلي. وإما عن المستوى الثاني فهو ينصرف إلى البحث في تأثيرات العالم الخارجي الذي يتحرك الفرد بداخله، ولاسيما التأثير الثقافي، وانعكاساته على أنماط سلوك هذا الفرد.

ولأن هذا النموذج يربط بين المربعات العمودية بالأفقية، يُفيد كل مربع بمعنى محدد.

 فالمربع الاعلى الايسر Upper Left))، الذي هو المربع الذاتي، فإنه يُفيد بكيفية إدراك المرء لمعطيات عالمه الداخلي وانماطه السلوكية الناجمة عن هذا الادراك. وينصب الاهتمام هنا على الدوافع الذاتية للفرد، والتغيير في قيمه، ومدركاته، واهدافه، والمعنى المعطى للحياة من قبله. وعادة تتم الاشارة إلى هذا المربع بالحرف الانكليزي (I)، وبمعنى أنا.

إما المربع الاعلى الايمن (Upper Right)، فهو المربع الموضوعي، الذي يدل على الجانب الموضوعي للعالم الخارجي للفرد والانماط السلوكية التي يتبناها الفرد داخل عالمه الخارجي وعلى الصعد المتعددة. وعادة تتم الاشارة إلى هذا المربع بكلمة (IT) الانكليزية وبمعنى: هو، او هذا.

وإما المربع الاسفل الايسر (Lower Left) فهو يشير إلى كافة المعطيات الثقافية للعالم الداخلي للفرد، وباهتمام ينصب على تأثير القواسم المشتركة لهذا العالم، كاللغة والثقافة والمؤسسات. وتعبر كلمة (WE) الإنكليزية، أي نحن، عن هذا المربع.

وأخيرا يعبر المربع الاسفل الايمن (Lower Right)، عن كافة المعطيات الاجتماعية القابلة للقياس التي يتميز بها العالم الخارجي للفرد وهياكله الفرعية. وتعبر كلمة ((IT’S الإنكليزية عن هذا المربع.

 وفي ضوء ما تقدم، يتميز نموذج المربعات الاربعة، ومن ثم النظرية التي ينطلق منها، عن سواه في أنه يسعى إلى تحقيق التكامل بين أربع عمليات ذات مضامين ذاتية وموضوعية واجتماعية وثقافية تُعبر عنها الكلمات الانكليزية بالتتابع (I, IT, WE, IT’S).

وجراء الخصائص التي تتميز بها هذه المقاربة، أكد، سلوتر، أنها تنطوي على فوائد مهمة. ومثالها أنها تتضمن الدعوة إلى بلورة رؤية عميقة وثرية وشامله لعالم مترابط، وكذلك التأكيد على ان انتاج المعرفة يكمن في الانطلاق من سبل متعددة، هذا فضلا عن أنها تلقي الضوء، وعلى نحو جديد، على دور الإنسان في صناعة مستقبله، سيما وإنها تؤكد أن ما يقوم به الفرد في العالم الخارجي Out There)) أنما هو محصلة لتأثير مرجعيات عالمه الداخلي (In There).

ولهذه الخصائص دعا، سلوتر، إلى الاخذ بنموذج المربعات الاربعة سبيلا لتامين استشراف أكثر دقة وأعمق تكاملا لمشاهد المستقبل، ومؤكدا على أن الانطلاق من تأثير المتغيرات الموضوعية كأساس وحيد للتفكير في المستقبل لا يعد كافيا، وانما الانطلاق أيضا من تأثير المتغيرات الذاتية. وبهذا، فانه يؤكد ضمنا على جدوى التكامل بين المقاربات الموضوعية والذاتية لبناء إطار نظري متكامل يتم استخدامه كخارطة طريق لاستشراف مشاهد المستقبل.

وعلى الرغم من القول إن سلبيات هذه المقاربة تكمن في إطارها الواسع، نرى أنها، وعلى العكس من ذلك، تُقدم استشرافا ابداعيا لمشاهد المستقبل يتأسس على مخرجات تفاعل متغيرات داخلية وخارجية على المستوى العمودي، وأخرى فردية وجماعية على المستوى الافقي. ولهذا تتكرر الإشادة بها.  فمثلا  قيل إنها دعمت عملية التكامل المنهجي بين مقاربات دراسات المستقبلات بمقاربة شاملة وعالية الكفاءة، وكذلك قيل إنها تُعد مدخلا مهما للإبداع في إنتاج دراسات مستقبلية غير تقليدية، سيما وإنها، كما يؤكد سلوتر، قد أفضت إلى احتواء نقص أساس، تتميز به ثمة مقاربات تستعين بها دراسات المستقبلات، يتمثل في سطحية تناولها لطبيعة العلاقة بين الإنسان والمستقبل.

ولعل أبرز المخرجات الايجابية لهذه المقاربة هو إنها افضت إلى عدد من التحولات في القواعد الرئيسية لمقاربات التحليل المستخدمة في دراسات المستقبلات، ويحدد، وليد عبد الحي، نقلا عن سواه، هذه التحولات بالآتي:

  • العلاقة بين الجزء والكل. فبعد أن كان فهم الكل يتطلب فهم خصائص الجزء، “…أصبح التفاعل وشبكة العلاقات بين الاجزاء هي نقطة الانطلاق لفهم الظاهرة، لان خصائص الاجزاء ايست منفصلة عن “النسيج” الذي يضمها.”
  • الانتقال من “… البحث على اساس البنية إلى البحث على اساس العملية. فالبنية ليست إلا تجليا (لهذه ) العملية…”
  • “نهاية فكرة الموضوعية وانفصال الباحث عن ظاهرته.”
  • إن “…مفهوم الوحدة الاساسية أو المتغير الرئيس ليس منفصلا عن المتغيرات الاخرى، لان خصائص المتغير الرئيس ( لا)تكون بمعزلٍ عن تأثير المتغيرات الاخرى…”
  • “الانتقال من الحقيقة العلمية التي سادت المنهج الوضعي إلى المعرفة التقريبية”’

وحسب معلوماتنا، يعد المستقبلي العربي، فؤاد بلمودان, أول من تناول هذه المقاربة على صعيد دراسات المستقبلات العربية ولكن بصيغة لغوية يشوبها قدر من التعقيد وذلك في مؤلفه: الدراسات المستقبلية :الأسس الشرعية والمعرفية والمنهجية لاستشراف المستقبل, الصادر عن المركز الثقافي العربي في بيروت عام 2013.