اشجانه واحزانه .. ضفرت البهجة في اعماله
هو عميد الكوميديا في الوطن العربي بلا جدال ،وهو الزعيم الحقيقي للبهجة بامتياز، وكل الذين خلفوه في رسم البسمه على الشفاه ،لم يصلوا الى عمق معالجاته . انه الباسم الساخر الذي لم يجعل الضحكه هدفا ،وانما سخرها في الكشف عن مثالب المجتمع وامراضه.حياته في تضاريسها قد اعتصرتها الآلام والأحزان،وهي التي شكلت له هذا المخزون ،الذي اغترف منه لكي ينسج اعماله، ويطرز بها نصوصه . ضميره الاجتماعي اعطى اعماله نكهة الصدق وطعمه،واستخدم السخريه تعبيرا عنها،ولذلك فان اعماله تمتزج فيها البسمة بالدمعه،والضحكه بالآهة.يروي الموسيقار الأشهر محمد عبدالوهاب واقعة معه اثناء تصوير فيلم ( غزل البنات ) وهو الفيلم الذي جمع اقطاب فن التمثيل في مصر نجيب الريحاني ومحمد عبدالوهاب ويوسف وهبي وانور وجدي مع ارق الأصوات التي عرفتها السينما المصريه بل واعذبها ليلى مراد. يقول عبدالوهاب : كان المشهد الأخير في الفيلم ،وكنت اغني فيه اغنية ( عاشق الروح ) وفيها مقطع ( لقيتك في السما عالي وأنا في الأرض مش طايلك ،حضنت الشكوى في قلبي وفطمت الروح على حبك ) وكان الريحاني يقف بجوار ليلي مراد ،وهي في الفيلم ابنة الباشا الذي يشتعل قلب الريحاني بحبها،ووجد كلمات الاغنية تصور حاله،فينهمر في البكاء،ويتركها وينطلق خارجا من المشهد ،وحين قال له انور وجدى وهو مخرج الفيلم استعد يا استاذ نجيب للمشهد،وسوف نضع الجليسرين في عينيك حتى تنسكب منها الموع ويتم تصوير المشهد بذلك ،ولكن نجيب رد قائلا (استعد انت يا استاذ للتصوير ،وسوف ابكي انا حقيقة وليس بفضل الجليسرين). يقول عبدالوهاب واندهشت
انا لذلك حيث البكاء بالطلب وليس بالأنفعال وسألته ( كيف يمكنك يا استاذ نجيب ان تبكي بدون انفعال حقيقي يدعوك للبكاء؟) ويرد نجيب الريحاني قائلا:ان في حياتي الكثير من الأحزان،ويكفي ان اتذكرها لكي انفعل حقيقة وابكي بدموع حقيقيه ).هكذا الريحاني كان اوجاعا وهموما جعلته يختزن الكثير منها ، لكي يضعها امام الجماهير بشكل ساخر ،فتتناثر الضحكات من المفارقات الحقيقية التي نعايشها في الحياة ،وكأن الحياة كما قال يوسف وهبي في فيلم غزل البنات (نقلا عن شكسبير بالطبع) (ما الدنيا الا مسرح كبير). ثم قبل ان ندلف الى فن نجيب الريحاني وتراثه علينا ان نتعرف ابتداء على مسيرة حياته .
نجيب الريحاني في سطور
( نجيب الياس ريحانه ) ذلك هو الاسم الكامل لهذا الفنان ،وهو يرجع في اصوله الى اب ( عراقي كلداني) من مدينة الموصل ،وكان والده يعمل في تجارة الخيل . هاجر الى مصر ،وتزوج من امرأة مصرية قبطيه وعاش في حي ( باب الشعرية) في القاهرة .انجب منها ثلاثة ابناء ،كان نجيب الأوسط .
كان مولد نجيب عام 1889 . التحق في مرحلة الدراسة الابتدائية بمدرسة الفرير حيث تفتحت ميوله الفنية للتمثيل. ومع وفاة الأب انقطع الريحاني الابن عن الدراسة، بعد نيل الشهادة البكالوريا ،ليشترك مع شقيقه الأكبر (توفيق) كاتب المحكمة،في اعانة العائلة فعمل كاتب حسابات في إحدى شركات السكر في صعيد مصر، ولكن مالبث ان عاد منها إلى القاهرة ، فقد طرد من العمل ، لكثر غيابه وعدم مواظبته،وعنفته أمه ،فترك المنزل وهام في الشوارع ،وصادف ظروفا صعبه،وكان احيانا ينام في الأزقة والحواري ،الى ان تفتح المقاهي ،فيتردد عليها ،وحين يبتسم الحظ احيانا يلتحق بالعمل في احدى الفرق المسرحيه الكوميدية ويشارك في عروضها التمثيلية، فعمل مع عزيز عيد وعمل مع جورج ابيض وتنقل فيما بينهما، حتى تمكن في النهاية من تكوين فرقته الخاصة والتي كرس نفسه لها ممثلاً ومخرجاً، وكان يكتب له مسرحياته الكاتب ( أمين صدقي ) والد الفنانه ( لولا صدقي) .جالت فرقة الريحاني بعروضها

المسرحية في مواسم الصيف أو الأعياد، العديد من الدول العربية كسوريا ولبنان والجزائر وتونس، إضافة لرحلتها إلى أميركا الجنوبية. نالت الفرقة زخما اضافيا ، بوجود الراقصة بديعة مصابني (1892-1974)، التي تزوجها نجيب الريحاني بعد زيارته لمنطقة الشام ثم انفصل عنها لاحقاً. لكن جدير بالذكر ان بديعه مصابني حققت نجاحا كبيرا في القاهرة ،وكان لها ( كازينو) شهير ،عمل فيه فريد الأطرش ومحمد فوزي وتحية كاريوكا وساميه جمال ، وخرجت من مصر هاربه من تسديد الضرائب المستحقه عليها . استثمر الريحاني ايضا موهبة الفنان سيد درويش (1892-1923) في تلحين عدد من الأسكتشات وبعض الأوبريتات الفكاهية ، كما عمل معه عبدالوهاب لفترة من الزمن لم تطول .
تراث الريحاني في السينما
ترك الريحاني تقديرا ومكانه وسيرة يتم تداولها ،أكثر مما ترك تراثا حيا من الاعمال يشهد على عبقريته ،فلم تكن هناك اجهزة تصوير وماكينات تسجيل ترصد وتحصي ما يقدمه وتعرضه على الاجيال اللاحقه ،بالأضافة ان رصيده من السينما ،وهو الشئ الباقي منه ليس سوى عدد ضئيل من الافلام . بدأ السينما عام 1931 بفيلم ( كشكش بك) عمدة قرية ( كفر البلاص ) وهي شخصية ابتدعها وسجلت نجاحا كبيرا ونالت شهرة واسعه، ومن فرط نجاحها على المسرح قدمها للسينما ،ولكن هذا الفيلم مع بعض اّخر من تراث الريحاني لم يصمد امام عوامل الزمن والتلف ،ولذلك توارى مع افلام اخري قدمها اعوام 1934،35، 36 ،ولم يبق من افلامه سوى تلك المجموعة ابتداء من فيلم ( سلامه في خير) مع روحية خالد وراقيه ابراهيم و( سي عمر) مع ميمي شكيب و(لعبة الست) مع تحية كاريوكا و ( أحمر شفايف ) مع سامية جمال ،وهذا الفيلم يختلف عن كل افلامه لأنه يصنف فيلم تراجيدي أكثر منه فيلم كوميدي ،وكان الريحاني يفضل التراجيديا ،ولكنه لم ينجح جماهيريا في ذلك ،ولكنها اقبلت عليه حين امتهن الكوميديا واحترفها ،وفيلم (ابو حلموس) مع زوزو شكيب ،وأخيرا درة افلام السينما فيلم (غزل البنات) الذي سجل نجاحا عظيما ولا يزال حتى الآن من الأفلام النادرة التي تحتفظ باقبالها الجماهيري،وللأسف فان هذا الفيلم لم يشاهده الريحاني ،فقد توفي بعد الأنتهاء من التصوير،ولم يطل به العمر حتى يراه معروضا الشاشة . ويذكر ان هذا الفيلم قد تم اعداده بناء على رغبة الريحاني ،فقد كان يقطن في عمارة ( الأيموبيليا) في الدور الثاني ،وكانت ( ليلى مراد) تقطن مع زوجها انور وجدي في نفس العمارة في الدور الثامن ،والتقيا ذات يوم في المصعد فقال لها ( يا بنتي نفسي امثل معاك فيلم قبل أن أموت) وتمنت له ليلي مراد السلامة وطول العمر،وصعدت الى شقتها ،وروت لأنور وجدي ما حدث ،ولم يدخر انور وجدي وسعا في تحقيق ذلك ،فعمل فورا على اعداد الفيلم وقام بكتابة القصة والسيناريو وترك للريحاني وبديع خيري كتابة الحوار ،وكان حوارا بالفعل جذابا الى ابعد الحدود .
تراث الريحاني في المسرح
المسرح هو ميدان الريحاني، وقد نسج مع ابداعاته اسمه العريض في فن الكوميديا ،فالمسرح هو الملعب الذي سدد من خلاله كل ضرباته ،وتربع على خشبته كزعيم حقيقي لفن الكوميديا . كون مع عزيز عيد فرقة ( الكوميديا العربيه )وقد بدأت اعمالها بعرض مسرحيات مترجمة كان من بينها مسرحية ( خللي بالك من ايلي )ولم تحقق نجاحا ، وترك الريحاني الفرقه عام 1916 لتبدأ المرحلة الثانية من سيرته الفنية ويبتكر في ما يعرف باسم كوميديا (الفرانكو-آراب) . كما ابتكر شخصيته المشهورة (كشكش بك) عمدة القرية العجوز والشهواني. ولكنه المحبوب لطيبته وسذاجته ومرحه وحبه للحياة. وبرزت في شخصية (كشكش بك) براءة الريفيين وطرافتهم الفطرية خاصةً مع اندماجها بشخصية (أم شولح) والدة زوجته سليطة اللسان التي تثير له المتاعب. من بين الشخصيات المحبوبة الأخرى خادم يدعى (زعرب) يشغل منصب خفير القرية و(شولح) شقيق زوجة العمدة وهو صبي ساذج. أما (قواد) وهو غالباً ما يكون يوناني الأصل فتنحصر شخصيته ومهمته في إحضار الحسناوات ل( كشكش بك) لكنه يحتال عليه ويسلبه أمواله فضلاً عن شخصيات أخرى كالمرأة الأوروبية التي تغري كشكش بفتنتها. وفي العام 1916 قدم الريحاني أربع مسرحيات جديدة راعى في تأليفها تقليد (الفارس) الفرنسي اي الكويديا المبالغ فيها والبعض يصفها بالتهريج وهي (خليك ثقيل) و(هزي يا وز) و(إديلو جامد) و(بلاش أونطة)ووصفت تلك المسرحيات أنها ذات فصل واحد وتحوي

نجيب الريحاني بين ليلي مراد وانور وجدي
كوميديا مبتذلة نوعاً ما. في هذه الفترة، اتجه الريحاني إلى تقديم استعراضات فنية رفيعة وطلب من أمين صدقي كتابة استعراض (حمار وحلاوة) التي دام عرضها فترة طويلة وحققت نجاحاً كبيراً. وعلى إثرها، طلب (أمين صدقي) من الريحاني أن يعطيه نسبة من الأرباح فرفض فاستقال الأخير ليستعين الريحاني بشاعر ومدرس شاب يدعى (بديع خيري) الذي أصبح صاحب الفضل في نجاح استعراضات الريحاني بأزجاله التي تأسر الأسماع برنينها الوطني، وأصبح ( بديع خيري) هو رفيق رحلة الريحاني الحياتيه ،الى ان توفي الريحاني ،وحمل ( بديع خيري) رسالته ،وخلفة في ادارة المسرح ،وتولى ابنه ( عادل خيري) تمثيل أدوار الريحاني . ومع بداية العام 1920 خمدت الاضطرابات السياسية التي رافقت ثورة 1919 ،وكانت تغذي الاستعراضات بأحداثها اليومية ووهجها الفوار ،فتحول الريحاني إلى مجموعة من (الأوبريت) التي تعتمد على روايات (ألف ليلة وليلة) وتخلى عن شخصية (كشكش بك) وعن كوميديا (لفرنكو-آراب). واستعان المسرحي المصري اللامع بشخصيات من نماذج شعبية مثل صانع الأحذية ومصمم الملابس والموسيقار في وقتٍ شهد جمهور المسرح تحولا في نوعيته الى الطبقة المتوسطة الصاعدة من موظفين وطلبة ومهندسين ومثقفين واصبحت هي عماده . وفي العام ذاته، قدم الريحاني باكورة إنتاجه للمرحلة الجديدة مسرحية (العشرة الطيبة) وعهد إلى ( بديع خيري) بكتابة أزجالها وإلى الفنان الذي الهب المشاعر الوطنية (سيد درويش) بتلحينها ،ولكنها مع ذلك لم تحقق النجاح المطلوب ،مما ترك أسوأ الأثر في نفسه. فطفق إلى سوريا حيث عرض هناك مسرحيات (كشكش بك) ولكنها للأسف أيضا حققت خسائر كبيرة ماديا ومعنويا . عاش الريحاني بين عامي 1926 و1931 فترة مضطربة من المتاعب المادية والأزمات العاطفية بعدما قرر هجر الكوميديا والاتجاه إلى الميلودراما من جديد مستغلاً افتتاح يوسف وهبي هذا الخط المسرحي العام 1923. كان الحديث عن يوسف وهبي يثير الريحاني، إذ كان يعتقد أنه قادر على تمثيل الأدوار التراجيدية بإتقان يوازي يوسف وهبي ان لم يفوقه. ولما علم بوقوع خلاف بين يوسف وهبي و أعضاء فرقته وانسحابهم منها اغتنم الفرصة وتعاقد معهم ورفع أجورهم ثم افتتح مسرحاً له العام 1926 وجهزه تجهيزاً حديثاً وسماه «مسرح الريحاني»، وكانت (المتمردة) هي الرواية التي افتتح بها عهد مسرحه الجديد. ورغم التعليقات السلبية التي سمعها من النقاد قدم مسرحيتين أخريتين كان الجمهور يسخر خلالهما منه علناً أثناء العرض،مما أحزن الريحاني وجعله يخلو الى نفسه وينهمر في البكاء في حجرة الملابس، وخرج من تلك التجربة مفلساً واضطر لاقتراض مبالغ كبيرة للإنفاق على مسرحيات جديدة. وفي أواخر العشرينات تراجعت اسهم النشاط المسرحي، وانتقلت حماسة الجمهور إلى لأفلام الصامتة فارتأى الريحاني أن يعود مرة اخرى إلى الكوميديا واستعادة شخصية (كشكش بك) بعد أن حلّ فرقته وألف فرقة جديدة بمشاركة عدد من ألمع الممثلين. وفي الأول من شهر فبراير من العام 1927 افتتحت الفرقة الجديدة موسمها باستعراض بعنوان (ليلة جنان)، ثم (مملكة الحب)و(الحظوظ) وقد لاقت تلك الاستعراضات نجاحاً أثلج صدر الريحاني ،ودفعه للأستمرار.
رحيل نجيب الريحاني
حقق الريحاني نجاحا لافتا وملحوظا ، وانتصر في منافسته للفنان الكوميدي الذي عاصره وهو ( علي الكسار) وكبرمسرحه وازدهر،وتقدمت صناعة السينما،وحققت افلامه الأخيرة ارقاما قياسية سواء في العائد المادي أو حجم المشاهدين ،ولا شك في الترابط بينهما ،وحقق فيلمه الأخير الذي لم يشاهده فقد عرض بعد رحيله اقبالا جماهيريا كاسحا،ومع ذلك هناك ناقدا لما قدمه قدم رؤية مختلفة لفن الريحاني وهو الروائي الكبير ( يحيي حقي) فقال عنه لا شك ان الريحاني يمتلك حضورا كبيرا في شخصه ولكني مع ذلك اقول ( أنني أخجل حين أقول أن المصريين عند

اعضاء فرقة نجيب الريحاني ومنهم ماري منيب
وزوزو وميمي شكيب وسراج منير ومعهم عادل خيري
مسرح الريحاني قوم طيبتهم بلاهة، وغزلهم تلعيب حواجب، يحبون الحكم والمواعظ الفارغة، سريع غضبهم لا يتمالكون أعصابهم، يثورون للتافه من الأمور، فلو ألقيت على أحدهم تحية الصباح لانحدر عليك سيل من الردح والتشليق. حرام أن يدمغ الشعب المصري النبيل الأنوف الكريم الودود بمثل هذه الصورة البشعة، ولن تكون هذه النظرة إلى شعب مصر إلا نظرة أجنبي تخدعه بعض المظاهر فينساق في الترويج لها، والإلحاح بتبيانها كأنها كل شيء ولا شيء هناك غيرها، وشأنه في ذلك شأن الزائر المتعجل أو المقيم الذي لم يندمج.
ولماذا نلوم الريحاني وحده ولا نقول أنه كان من مظاهر عهد بائد اختلطت فيه القيم وأحيط الشعب المصري بحملة ضخمة من التدليس والخداع .. فليس من العجيب أن تكون فرقة الريحاني من قلائل الفرق المصرية التي مثلت في قصر عابدين، وليس من الغريب أن فاروق كان ينتقل إلى مسرحه، ويرى الجمهور جانب شاربه المعقوص في البنوار الملكي، إلى أن تنتهي المسرحية. ومن الأسى والأسف أن رئيس الديوان الملكي، يقف ليقدم الريحاني إلى مولاه، وقد سمعته مرة يصف الريحاني قائلاً: (هذا رجل يأكل عنده جمع من الناس على مائدة واحدة، ولكنه يتجشأ للفقراء بصلاً، وللأغنياء ديكاً رومياً). اي انه يقدم بضاعة حسب المشتري. توفي الريحاني العام 1949 بعد إصابته بمرض (التيفوئيد)، وكان لنبأ وفاته وقع أليم في كل أنحاء مصر فقد كان علما له جمهور كبير فأمرت الحكومة بإطلاق اسمه على أحد الشوارع. وبعد ثلاثة أعوام خصصت جائزة باسمه لأحسن طالب في معهد الفنون المسرحية. واليوم، وبعد مرور عقود عدة على وفاته، لا يزال اسم الريحاني يشع بين من ارتبط تاريخهم بفن التمثيل سواء على المسرح او في السينما والتلفزيون في مصر.
أمين الغفاري
العدد 133 / تشرين الاول 2022