بعد أن فضحت حرب غزة فشلها الذريع
“إن المنظمة الدولية تعارض تهديد ومضايقة جميع المسؤولين الدوليين، بمن فيهم موظفو المحكمة الجنائية الدولية”..تصريح رسمي جاء على لسان ستيفن دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، تعقيبا على تصويت مجلس النواب الأميركي على مشروع قانون بأغلبية 247 صوتا مقابل 155، حيث أيده جميع النواب الجمهوريين و42 ديمقراطيا لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إثر تحركها لإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. وقد بلغ تدخل الدولة الأمريكية في عمل المؤسسة القانونية الدولية وتهديدها للموظفين الدوليين، إلى الدرجة التي أثارت مخاوف النجم الأمريكي الشهير جورج كلوني وقلقه على مصير زوجته المحامية الحقوقية أمل كلوني التي استعان بها مكتب المدعي العام للمساعدة في التحقيق، وطلب منها مراجعة الأدلة على جرائم الحرب المشتبه بها وتقديم تحليل قانوني. وكشفت مصادر صحفية أمريكية عن قيام النجم الشهير بالاتصال بأحد كبار مساعدي الرئيس بايدن للإعراب عن استيائه من انتقادات الإدارة الأمريكية للإجراءات التي اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية ضد القادة الإسرائيليين وهي القضية التي عملت عليها زوجته المحامية. ولاشك أن هذا الخبر على إثارته كونه يكشف كواليس العلاقة بين الفن والسياسة، إلا أنه يعكس الوضع السئ الذي تعانيه الأمم المتحدة وما آل إليه حالها وحال مختلف المنظمات الدولية التي تنبثق عنها أو تدعم عملها في حفظ السلم والأمن، وينعكس سلبيا على فاعليتها.
عندما زار الرئيس الأوكراني زيلينسكي ضاحية بوكا في مدينة كييف التي كانت ساحة للقتال مع روسيا ووجد بعض الجثث على الأرض، بدا متأثرا وهو يتساءل عما إذا كان العالم مستعداً لإغلاق الأمم المتحدة، وذلك تعبيرا عن شعوره بافتقاد دورها. فمابال الأمر بما يجري في فلسطين من مجازر بشعة وجرائم حرب يومية جعلت رائحة الموت تنبعث من كل مكان تحت سمع وبصر العالم دون أي دعم وتحت وطأة الحرمان والتجويع، مع الأخذ في الإعتبار أن الفلسطينيين يقاومون الإحتلال الصهيوني الجاثم على صدورهم منذ عشرات السنين، ومع ذلك لم تستطع الأمم المتحدة ولا منظماتها أن تخفف عنهم وطأة التعذيب والمعاناة التي يعيشونها ولا أن تعيد لهم حقوقهم المسلوبة، فهل أصبح من الأفضل حقا أن تغلق المنظمة الدولية أبوابها!
حرب غزة وضعف المنظمة الدولية
لقد فضحت حرب غزة وما تشهده فلسطين من جرائم بشعة، ارتكبها الإحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، مدى ضعف المنظمة الدولية وتهميشها أمام سطوة تأثير الدول الكبرى وتطاولهم على القواعد الدولية المتفق عليها بشأن عمل هذه المنظمات بصورة فجة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تكف عن تجاهلها للقوانين الدولية وتضرب بها عرض الحائط حينما يتعلق الأمر بإسرائيل بينما تحرص على استصدار الأحكام الرادعة التي تتيح لها التدخل في شؤون الآخرين إذا كانت لها مصالح عليا.
في ظل هذه الإزدواجية الظالمة والتدخل السافر في عمل المؤسسات الأممية وتعمد إبطال مفعول قراراتها، أصبحت فاعلية المنظمات الدولية على المحك ليثور التساؤل: هل فقدت الأمم المتحدة دورها الذي قامت من أجله وانتهت صلاحيتها، وحان الوقت لتلحق بسابقتها “عصبة الأمم ” لتحل محلها منظمة جديدة أخرى أكثر قدرة على تحقيق السلام وإرساء قواعد العدل الإنساني في العالم؟!
حينما اشتعلت الحرب العالمية الثانية واستمرت لسنوات طويلة راح خلالها ملايين الضحايا، كان ذلك قرينة وشاهدا على فشل عصبة الأمم المتحدة مما دفع المجتمع الدولي وقتها إلى الإعلان عن حلها في إبريل 1946 لتحل محلها مؤسسة دولية جديدة ورثت بعض أنظمتها القديمة وهي الأمم المتحدة التي لازالت تمارس عملها بشكل روتيني حتى اليوم.
لقد اختفت عصبة الأمم خلف الكيان الجديد الذي بني على أنقاضها لتستمر نفس المشكلات المرتبطة باعتماد تنفيذ القرارات وتطبيق العقوبات على إرادة القوى العظمى وتأثيراتها الدولية. وهو الأمر نفسه الذي نراه حاليا، فكم من قرارات دولية تم استصدارها وكم من أحكام رادعة تم الإعلان عنها في مواجهة مجرمي الإنسانية وطواغيت الحروب المدمرة ولكنها لم تنفذ جميعا إلا عندما تعمل الدول الكبرى على تفعيل الإرادة الدولية لتنفيذ الأحكام والقرارات بالقوة حيث تكون اعتبارات المصالح والأجندات الخاصة المحرك الأكبر.
لقد ظهر ذلك بصورة فجة ومثيرة للإشمئزاز خلال الحرب الصهيونية التي تدعمها الولايات المتحدة على غزة حاليا، فرغم صدور أحكام قانونية من أعلى جهتين قانونيتين في العالم هما ا لمحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية بإدانة إسرائيل، إلا أن الأخيرة لم ترتدع بل تمادت في جرائمها ضاربة بها عرض الحائط في صلف وغرور وإصرار على عدم احترام هذه المؤسسات واختراق قواعد القانون الدولي المتفق عليها. وإمعانا في الاستهتار بهذه المنظمات الدولية العريقة وتماديا في الاستخفاف الصارخ بها، أعلنت أمريكا أنها ستعاقب قضاة المحكمة بسبب هذه الأحكام!
ليس هذا فقط فقد كشف تحقيق لصحيفة الجارديان البريطانية أشار إليه الكاتب البريطاني جوناثان كوك، أن إسرائيل تدير حربا سرية وتقوم بعملية تجسس معقدة لاختراق قاعدة بيانات المحكمة لقراءة رسائل البريد الإلكتروني والوثائق بدعم أمريكي ضد بعض المنظمات الدولية ومنها المحكمة الجنائية الدولية وذلك منذ أن أصبحت فلسطين طرفا فيها عام 2015 خاصة بعد أن بدأت المدعية العامة السابقة للمحكمة فاتو بنسودا تحقيقا أوليا في جرائم الحرب الإسرائيلية.
تحدي سافر لقرارات حبيسة الأدراج
منذ زراعة الكيان الصهيوني في المنطقة العربية وقد ألفت الدول الكبرى واعتادت إسرائيل على عدم احترام القرارات الدولية ودأبت على عدم الامتثال لأي حكم يصدر في حقها. وقد تأكد ذلك مع بشاعة الصورة والمشاهد التي يعيشها أهل غزة تحت نيران الحرب الإسرائيلية دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا لإجبار المعتدي على التراجع والتوقف عن جرائمه، وذلك على الرغم من القرارات التي صدرت بوقف الحرب ومنع الاجتياح البري في غزة ومحاسبة نتنياهو كمجرم حرب وغيرها من القرارات العديدة المحبوسة في أدراج مكاتب المنظمة الدولية العالمية التي قامت من أجل حفظ السلم والأمن في كل أرجاء العالم.
لم يكن قرار المحكمة الجنائية وحده الذي تتم مقاومته من قبل حلفاء إسرائيل إنما هناك أيضا قرارات محكمة العدل الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، والتي صدرت على خلفية قيام دولة جنوب إفريقيا برفع دعوى أمامها بخصوص المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وانتهت بإصدار المحكمة أوامرها لإسرائيل بتجنب العمليات التي قد تفرض على الفلسطينيين في غزة ظروفاً يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، والوقف الفوري لهجومها العسكري على مدينة رفح وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع، وكذلك ضمان وصول أي لجنة تحقيق أو تقصي حقائق بشأن تهمة الإبادة الجماعية. ولكن إسرائيل اعتبرت أن القرار لا يقيدها في شئ!
المثير في الأمر أن إسرائيل تذرعت في ردها على قرار المحكمة بالموقف الروسي في حربها على أوكرانيا. فقد علق آفي هايمان المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية أنه :”لا توجد قوة على وجه الأرض ستمنع إسرائيل من حماية مواطنيها وملاحقة حماس في غزة”. كما أشارت صحيفة الإندبندنت البريطانية إلى تصريحات لمسؤولين إسرائيليين بأن إسرائيل لن تلتزم بأي قرار تتخذه المحكمة في لاهاي! على الرغم من أن أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة، لكنها لا تتمتع بسلطة إنفاذها. فقد أمرت، على سبيل المثال، روسيا بوقف غزوها لأوكرانيا، ومع ذلك لم يتوقف الغزو ولم تنته الحرب. وهو أمر يؤكد الأزمة التي تعانيها منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، والعوار الذي أصاب فاعلية عملها وأعجزها عن القيام بالدور المنوطة به بسبب خضوعها لتاثير الدول الكبرى والتي تفرض إرادتها بمنطق القوة بشكل يهدم الفكرة التي قامت الأمم المتحدة عليها من أساسها.
عجز شديد
لم يقتصر الأمر على صعوبة تنفيذ القرارات الصادرة وإنما تجاوزه إلى درجة العجز عن استصدار القرارات المهمة لوقف الحرب أو منع العدوان من طرف على آخر في بعض الأحيان، وذلك بسبب طبيعة النظام القانوني الذي قامت مؤسسات الأمم المتحدة على أركانه وأهمها مجلس الأمن الذي يفترض أنه يعمل على إرساء السلم والأمن الدوليين والحيلولة دون اشتعال الحروب والصراعات ومنع تكرار مآسي الحرب العالمية، وهو ما لم يحدث وفشل في الحفاظ عليه. إن من أخطر مناطق الضعف التي شابت عمل هذا المجلس هو تفعيل نظام الفيتو الذي يمنح ميزة خاصة لخمس دول لتعطيل صدور أي قرار مطلوب في حالة اعتراض أي منها وذلك ارتباطا بالوضع المميز للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ولكنه لم يعد مناسبا للتغيرات الدولية الطارئة والتحولات الكبيرة التي شهدتها أطراف وكتل دولية ذات وزن يستلزم أخذها في الاعتبار في مثل هذه المواقف وعدم تجاهلها وترك الأمر في أيدي الدول الخمس فقط لتفعل بشعوب العالم ما تريده وفق مصالحها.
المثير في الأمر أن أمريكا نفسها طالبت بإصلاح مجلس الأمن لغضبها واستيائها من التمسك الروسي بحق الفيتو، ففي بداية المواجهات بين روسيا وأوكرانيا دعت المندوبة الأميركية ليندا توماس غرينفيلد، إلى “إصلاح مجلس الأمن”، منتقدة ما اعتبرته “إفراطا من روسيا في استخدام الفيتو وهو ما آثار غضب نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، والذي شدد على أنه “لن يتمكن أحد من نزع حق النقض من روسيا بمجلس الأمن. ولاشك أنه لا يمكن أن تدار الأمور في منظمات دولية يفترض أنها ترعى مصالح الشعوب، في إطار من الصراع والتنافس المحموم بين خصمين سياسيين.
على مدار الشهور الماضية ومنذ بدء عملية “طوفان الأقصى” عجز مجلس الأمن أكثر من مرة عن استصدار قرارات لمجرد توجيه الإدانة لإسرائيل بسبب قيام كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا باستخدام الفيتو باعتبارهما حلفاء لإسرائيل. كما تستخدمه روسيا والصين لتعطيل قرارات مهمة أيضا نكاية في المعسكر الغربي الذي يدعم أوكرانيا في حربها معها وهو الواقع الذي تضيع معه حقوق شعوب العالم التي ليس لها صوت وغير ممثلة بأوزانها في هذا المحفل.
تقول الباحثة الروسية لانا بدفان المتخصصة في العلاقات الدولية أن قارتي إفريقيا وأميركا الجنوبية لا وجود لهما في قائمة الدول الدائمة العضوية بالمجلس، مما يخل بالعدالة ويطعن في شرعية تمثيل المنظمة الأممية لمختلف شعوب العالم وقاراته ومن ثم فهي تطالب بتعديل الأوضاع لإصلاح هذا القصور ولكنها لا ترى أهمية لحل المنظمة الدولية في الوقت الحالي.
فاعلية مرهونة بطبيعة العلاقة بين الكبار
لقد أصبحت الأمور في الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة- مجلس الأمن- تدار وفق الأهواء والمصالح السياسية وطبيعة العلاقات بين الأطراف الأعضاء بصرف النظر عن القواعد الأساسية المنظمة لعمل المؤسسة.
وهو ما يؤكده الخبير الاستراتيجي والعسكري، محمد الحربي الذي يرى بأن الممارسة العملية منذ نشأة الأمم المتحدة أثبتت أن غالبية قرارات مجلس الأمن الدولي لا يمكن تطبيقها عمليا، وأنها ليست ملزمة، بسبب خضوع المجلس لتجاذبات الدول الخمس!
إن الوقائع الحقيقية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن طبيعة العلاقة ودرجة التوافق بين الدول الخمس دائمي العضوية بمجلس الأمن هي المحرك الأساسي لتفعيل قرارات المنظمة الدولية وكياناتها التابعة لها وهو ما بدا واضحا في حالة إعلان الحرب على العراق أثناء حكم الرئيس صدام حسين حيث تلاقت إرادات الدول وشحنت المجتمع الدولي كله ضده لإعلان حرب الخليج حينما قام باحتلال الكويت عام 1990 وهي تعد من الحالات الاستثنائية التي سعى فيها العالم كله لمواجهة الاستخدام غير المشروع للقوة واحتلال أراضي الغير، وهو ما لم يكن يحدث لولا تحسن العلاقات الأمريكية الصينية وقتها وضعف الاتحاد السوفييتي قبيل انهياره آنذاك. ولكن في المقابل لم يحدث نفس الحراك الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة في حالة احتلال إسرائيل لفلسطين وارتكابها لأبشع الجرائم ضد شعبها عبر عقود طويلة وصولا لحربها الحالية في غزة وإبادتها للشعب الفلسطيني. كما فشلت نفس المنظمة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين والتصدي للعنف في حالات أخرى عديدة منها في سوريا وليبيا واليمن والسودان وغيرها من المناطق المشتعلة بالحروب والمجازر في أفريقيا وأسيا.
هل تجدي الإصلاحات؟!
وهو أمر يردنا لنفس السؤال الخاص بأهمية الأمم المتحدة ومؤسساتها المنبثقة عنها أو المنظمات التي تعمل في إطارها لحفظ السلم والعدل.
هناك من يطالب بضرورة تعديل الأوضاع وإجراء إصلاحات جوهرية داخل الأمم المتحدة لزيادة تفعيلها ومن بين هذه الإصلاحات المقترحة زيادة عدد الدول الدائمة داخل مجلس الأمن وعدم الإقتصار على الدول الخمس حتى يكون هناك توازن في المصالح بين جميع الشعوب. ولكن هذا الأمر لا يبدو سهلا ولا فعالا لأن تحقيقه يستلزم موافقة كل الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن وفقا للميثاق كما أنه بافتراض النجاح في تحقيق ذلك يظل تنفيذ القرارات مرتبطا بحالة الإجماع المشروطة.
كان داغ همرشولد، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة يقول أن ” الأمم المتحدة لم يتم إنشاؤها لقيادة البشرية الى الجنة، بل لحمايتها من الجحيم” فهل لازالت المنظمة الدولية قادرة على تحقيق هذا الهدف؟!