اللجوء السوري في لبنان: جدل العقل والعصبياتّ
يدور جدل في لبنان، سواء بين التيارات السيايسة أو بين بيروت والمؤسسات الدولية وعواصم القرار بشأن قضية اللاجئين السوريين في البلد. ويرتفع الصخب حول هذه المعضلة بناء على أسباب موضوعية لها علاقة بأعباء المال والأمن والمجتمع، أو بناء على أجندات سياسية شعبوية تذهب إلى التنافس في المزايدة لكسب الرأي العام الداخلي في مناسبات ومواقيت ملتبسة ومغرضة. وعلى الرغم من أن اللجوء السوري قضية دائمة منذ تفجّر الصراع في سوريا في عام 2011، إلا أن الضجيج بشأن هذا الأمر ليس دائما، بل يثور ويخبو وفق حسابات أخرى، محلية وإقليمية ودولية.
الاقتصاد والديمغرافيا

تشعل قضية اللاجئين السوريين سجالا داخل لبنان بشأن ما تمثل من خطر على أمن واقتصاد البلد من جهة، وما تُحدثه من خلل ديمغرافي يربك التوازنات الطائفية في لبنان. وتفتح القضية باب الاجتهادات الرسمية والحزبية بشأن سبل التعامل مع هذه القضية سواء في إدارتها أو بحث طرق التخفيف من وقعها على بلد يعاني أزمته التاريخية الكبرى. تحاول هذه الورقة رصد مفاصل ملف اللاجئين السوريين في لبنان في بعدها المحلي وفي أبعادها الخارجية المرتبطة بأزمة سوريا نفسها.
يضيف تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 أثقالا على الاقتصاد اللبناني. ولا يمكن إلا إقحام معضلة اللاجئين هذه في كل السجالات الداخلية اللبنانية سواء على المستوى المالي الاقتصادي المتعلّق بكلفة هذا اللجوء على الخزينة اللبنانية، أو على المستوى السياسي لجهة استخدام قضية اللجوء وقودا داخل الصراع على تقاسم السلطة والثروة في لبنان. ويسهل على الجدل المحليّ، المتسرّع والمغرض، تعليق مشاكل البلد على مشجب “السوري” في لبنان، وصولا إلى تحميل اللجوء السوري وزر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. غير أن الاتحاد الأوروبي يرفض هذا التقييم، فيما تكشف بعض الدراسات عن أن الأزمة الاقتصادية في لبنان لا توفّر أحدا بما في ذلك اللاجئين السوريين في البلد، وترفض وجود علاقة مباشرة بين اللجوء وأسباب انهيار الهيكل الاقتصادي في لبنان.
ومع ذلك فإن ظاهرة اللجوء السوري في لبنان تشكّل أزمة حقيقية داخل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يعيشها لبنان. وتنخرط مسألة اللاجئين السوريين أيضا في سياق آخر له بعدٌ تاريخي في العلاقات الحساسة دائما بين لبنان وسوريا وفي الموقف الداخلي اللبناني بين المكوّنات السياسية من سوريا بلدا وشعبا ونظاما ومعارضة. ووفق هذا السياق المعقّد وجبت مقاربة الموقف من “السوري” داخل الوعيّ الجمعي ومخيلته الاجتماعية-السياسية والطائفية. وهذا الجانب يفسّر تفاوت مواقف اللبنانيين من اللجوء عامة (بما في ذلك الفلسطيني) واللجوء السوري بالذات. وينخرط الجدل الهوياتي في لبنان داخل نقاش إقليمي أوسع في المنطقة وفي داخل سوريا نفسها حول ما تحدثه الحرب في سوريا من فوضى وتحوّلات هوياتية.
الهوية والطائفية
يتّسم لبنان بطابع طائفي متعدد لا مثيل له في عالم اليوم ولا وجود لحالة فسيفسائه الطائفية في التاريخ. وإذا ما شهد العالم حروبا دينية وطائفية تقليدية شهيرة وتخلّصت أوروبا بشقّ النفس من حروب دموية طويلة بين الكاثوليك والبروتستانت، فإن لبنان المنبسط على مساحة 10452 كلمترا مربعا، أي أصغر من مساحة سوريا بثمانية عشر مرة، يحتضن 18 طائفة دينية على نحو قلّما توفّر في بلدان أخرى. ووفق هذا الواقع يقوم “نموذج” لبنان على توازنات ديمغرافية حسّاسة لا تحتمل اختلالا يؤثّر على مواقع الطوائف وأدوارها، وهو ما يؤدي آليا إلى انقسامات سياسية قابلة للإنفجار.

ولم يغبّ الطابع الديمغرافي عن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). ولئن قدّم “الجانب المسيحي” للحرب مخاوفه من خطورة اللجوء الفلسطيني وثقله الديمغرافي (والطائفي ضمنا) على توازنات البلد، فإن “الجانب المسلم” لتلك الحرب احتضن اللجوء الفلسطيني الذي أنتجته حرب عام 1948 في فلسطين وما بعدها فتمسّك بالخيارات السياسية من دون الإيمان بهواجس المسيحيين في هذا الصدد. وقد لحظ اتفاق الطائف لعام 1989 رؤى الجميع في النصّ الذي صار جزءا من الدستور اللبناني.
وعلى الرغم من أن الطابع الديمغرافي الطائفي الذي يشكّله اللجوء السوري يحرّك دوافع الرفض التي تتقدم بها تيارات مسيحية (التيار الوطني الحرّ خصوصا مثالاً) بما في ذلك البطريركية المارونية، غير أن المعضلة تمثّل هاجسا لبنانيا عاما وإن كان لسان حال تيارات أخرى بقيت هادئة في تحفّظها وعقلانية في البحث عن حلّ يأخذ جيدا بالاعتبار رؤى المجتمع الدولي والأسباب التي تحول عن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. لكن حزب الله أثار مع ذلك مشكلة اللاجئين محذرا من خطط للتوطين في لبنان.
الأعداد الرسمية وغير الرسمية
تتحدث تقديرات موثّقة عن أن عدد اللاجئين السوريين يصل إلى حوالي 1.5 مليون نسمة فيما تتحدث تقديرات أخرى إلى عدد يصل إلى مليونين. وبغضّ النظر عن الأسباب التي تدعو أصحابها إلى تضخيم العدد والتهويل بخطورته، فإن الإحصاءات الرسمية للمنظمات الدولية التي تعتمد عليها لصرف معوناتها للاجئين في لبنان تتحدث عن أكثر 850 ألفاً. ويُرجع متخصصون الفرق في الأرقام إلى تباين في أعداد المسجّلين رسميا وأولئك غير المسجلين ولا يدخلون في أي سجلات رسمية.
ومع ذلك، فإن عدد اللاجئين السوريين في لبنان يمثّل حجما وازنا بالنسبة إلى عدد سكان لبنان الذي يتدهور افتصاده مقارنة بما تمثله كتل اللجوء في تركيا والأردن مثلاً. ومع ذلك فإن عمان وأنقرة عبّرتا عن شكوى موجعة من هذه المعضلة على مستوى اقتصادي واجتماعي وأمني، وهي تمثّل مشكلة سياسية كبرى في تركيا تستخدمها أحزاب البلاد في سجالها التقليدي وخصوصا داخل الحملات الانتخابية المحضّرة للاقتراع الذي سيجري في مايو 2023.
وقد رفع لبنان على المستوى الرسمي الصوت عاليا على لسان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مهددا بإعادة اللاجئين “بالطرق القانونية”. وخاطبت بيروت المنابر الدولية لاستجرار مواقف دولية سياسية ومالية داعمة لإدارة شؤون اللاجئين في لبنان بما في ذلك تنظيم مؤتمر دولي في هذا الصدد.

على الرغم من حدّة الخطاب الرسمي الصادر عن حكومات بيروت واستخدامه لأغراض سياسية شعبوية داخلية، إلا أنه بقيّ منسجما مع القواعد التي تنظّم علاقات البلد مع المنظومة الدولية والمؤسسات المالية والدول المانحة. فيما ذهب الخطاب الحزبي بعيدا في المطالبة بعودة اللاجئين وجعل هذا الهدف من الأولويات. بالمقابل أظهرت حكومات بيروت توترا وتخبطا في التعامل مع قضايا اللاجئين المعيشيىة لا سيما في مجالات التعليم وصلت إلى حد اتخاذ وزارة التربية قرار بوقف تعليم اللاجئين السوريين في المدارس اللبنانية. كما عملت تلك الحكومات إلى عدم تسهيل أي قوانين أو إجراءات من شأنها دمج اللاجئين في الحياة الاقتصادية اللبنانية خوفا من التوطين الذي يرفضه لبنان في دستوره بالنسبة للاجئين الفلسطينيين.
إعادة اللاجئين
تدعو أحزاب سياسية لبنانية إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من خلال الاتفاق مع النظام في سوريا والحكومة في دمشق. غير أن المسألة ليست بهذه البساطة بسبب الخلاف اللبناني الداخلي بشأن مسألة التطبيع مع دمشق التي لا تتفق بشأنها التيارات المتحالفة مع حزب الله القريبة من دمشق والتيارات المعارضة للحزب وللنظام السوري ولا تشجع على تطبيع علاقات بشكل رسمي وكامل بين بيروت ودمشق رافضة العودة إلى عهد “الوصاية” السورية في لبنان.
وقد أدخل حزب الله وحلفاؤه ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية في لبنان من بوابة قربه من النظام السوري والصداقة التي تربطه بالرئيس السوري بشّار الأسد. وتعتبر القوى القريبة من الحزب والداعمة لهذا الترشّح أن فرنجية بمواصفاته هذه قادر على فتح هذا الملف والحصول على تعاون في هذا الصدد من الجانب السوري. ويسعى المدافعون عن خيار فرنجية إلى إغراء اللبنانيين بما يمتلكه مرشحهم من علاقات شخصية مع النظام السوري قد لا تكون متوفّرة في رئيس غير قريب من دمشق.

ويكشف هذا الأمر أيضا أن أحد الأسباب الأساسية التي تحول دون عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم تعود إلى عدم حصول بيروت على موافقة واسعة من قبل الحكومة السورية لاستعادة اللاجئين إما لأسباب سياسية أمنية يرفض بموجبها النظام في سوريا لعودة اللاجئين، وإما لعجز حكومة دمشق ماليا وموضوعيا على توفير البنى التحتية لإسكان العائدين وسط غياب برامج لإعادة أعمار البلد وبالتالي إعمار مساكن للعائدين، وإما لأن الأمر بالنسبة لدمشق يتعلّق أيضا بشروط وقواعد ومعايير ومكاسب لا يمكن توفّرها إلا بتسوية يعترف بها المجتمع الدولي. بالمقابل تعترف الأمم المتحدة بوجود هذه العوائق وتَعد بالعمل على إزالتها.
وقد استطاع تواصل بين جهات رسمية لبنانية وزارية وتنفيذية تنظيم موجات إعادة للاجئين سوريين جرت برعاية “المديرية للعامة للأمن العام اللبناني” في الفترة التي كان يتولى إدارتها اللواء عباس إبراهيم. غير أن هذه الموجات، التي ضخّمت أجندات بعض سياسيي البلد وقائعها، بقيت تجريبية محدودة تخضع لمعايير أمنية دقيقة من قبل الأجهزة السورية للتحقق من هوية العائدين، ناهيك من تعرضها لانتقادات من قبل المنظمات الإنسانية والحقوقية. ولا يمكن اعتبار هذه العملية ناجحة بالإمكان التعويل عليها لتوفير حلّ شامل ولو طويل الأمد لقضية اللاجئين السوريين في لبنان، خصوصا أن لبنان اعترف رسميا بإعراض السواد الأعظم من اللاجئين السوريين عن العودة إلى بلادهم في غياب أي ضمانات سياسية ومعيشية وأمنية.
الحل الشامل
تحتاج أزمة النازحين في داخل سوريا واللاجئين خارج سوريا إلى حلّ سياسي شامل يعترف به المجتمع الدولي برمته لتوفير التمويلات اللازمة لإعادة الأعمار وإعادة اللاجئين. وعلى الرغم من تبني روسيا إدارة الشأن السوري في جانبيه العسكري والسياسي بالتحالف مع إيران والتفاهم مع تركيا، غير أنه لم يصدر عن موسكو أو طهران وبكين وغيرها من العواصم الحليفة أي أعراض لخطة مالية بشأن سوريا من دون مشاركة المنظومة الغربية ودولها المانحة.
وما زال لبنان الرسمي يتبنى موقف المجتمع الدولي بشأن التعامل مع قضية اللاجئين. وتفرض العواصم الغربية والمنظمات الدولية المختصة معيار العودة الطوعية والآمنة وهو أمر تعتبره غير متوفّر في وضع سوريا الراهن. وتتمسك المنظومة الغربية، لا سيما الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بقرار مجلس الأمن الدولي 2254 كقاعدة لتسوية سياسية في سوريا تكون المعارضة جزءا منها كشرط أساسي للانخراط المالي في برامج إعادة الأعمار وإعادة اللاجئين في هذا البلد.
بالمقابل تقوم سياسة الدول المانحة إضافة إلى مقاصدها الإنسانية على تخصيص ميزانيات لدعم اللاجئين السوريين والدول المضيفة لهم، خصوصا في لبنان وتركيا المشاطئيْن للبحر الأبيض المتوسط، على أسباب أخرى هدفها عدم تكرار تجربة اندفاع اللاجئين باتجاه أوروبا على غرار ما حصل عام 2015 وسبب إرباكا أمنيا واجتماعيا وسياسيا لدى دول الاتحاد الأوروبي. ولطالما تمّ التحذير من أن أي تراجع للمساعدات الدولية سيؤدي إلى تدفق اللاجئين صوب أوروبا كملاذ آمن يحظى ببيئة قانونة ودستورية واقتصادية حاضنة.

وفق هذا الانسداد في شأن سوريا واحتمالات حلحلته في الأجل الطويل يعيش لبنان أزمة اللجوء السوري من ضمن قضايا أزمته الاقتصادية التاريخية. وفيما تنخرط المنظمات الدولية والدول المانحة في التخفيف من وقع اللجوء السوري على الاقتصاد اللبناني وتخفيف معاناة اللاجئين، فإن هذا الجانب أثار أيضا حساسيات شعبية وحكومية داخلية تقوم على جدل بشأن مداخيل نقدية تقدمها تلك المنظمات للاجئ السوري لا يستفيد منها المواطن في لبنان. كما أن الجدل يدور أيضا بشأن استفادة بعض اللاجئين السوريين في لبنان من معونات دولية على الرغم من أنهم يزورون سوريا من دون أي مانع من سلطات سوريا.
الخارج والداخل
بغضّ النظر عن دقّة هذه الوقائع، غير أنها مواضيع تُثار بشعبوية مفرطة من قبل تيارات لبنانية تسعى للاستفادة من السجال من أجل تعظيم موقعها داخل بيئاتها. يُضاف الأمر إلى الهواجس الأمنية التي تسببها تجمعات اللجوء والتي سبق أن احتضنت مجموعات تعتبر إرهابية. وأيا كان السجال الداخلي، فإن لبنان يعوّل على تفاهمات خارجية لحلّ أزمة الشغور الرئاسي في البلاد، لكنه يعوّل أيضا على توافقات دولية تنهي الحرب في سوريا والعبور نحوحلّ سياسي يفتح الطريق لإعادة اللاجئين وإعادة الإعمار.
وفي غياب هذا التوافق، خصوصا في ظرف الحرب في أوكرانيا، فإن الأمل معقود على التطوّر الحديث للعلاقات السعودية الإيرانية بعد إبرام اتفاق بكين في 10 آذار (مارس) 2023، وعلى خطوات التقارب التي قامت بها بعض الدول العربية مع دمشق وصولا إلى قرار إعادة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية في 7 أيار (مايو) الماضي. يضاف إلى ذلك خطوات التقارب التي تتحقق بين أنقرة ودمشق، من أجل خلق بيئة قد تكون حاضنة لتسويات محدودة في غياب المنظومة الغربية، لكنها قد تشكل مدخلا لحلّ ما يخفف من وزر مأساة اللجوء على اللاجئين السوريين والدول المضيفة بما فيها لبنان.
وقد انخرطت مسألة اللاجئين السوريين في لبنان داخل السجال التقليدي بين التيارات السياسية اللبنانية، واستخدمت لتعظيم شعبية وموقع بعض القوى السياسية داخل بيئاتها، وسعّرت الحساسيات الطائفية حول هذا الصدد. وسعت منابر رسمية وغير رسمية إلى تحميل اللاجئين وزر الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، مقابل مواقف دولية تكرر أن أزمة لبنان سابقة على أزمة اللاجئين وليست نتيجة لها.
حراك جديد
يمثّل اللجوء السوري في لبنان ضغوطا على التوازنات الديمغرافية والطائفية التي يقوم عليها لبنان، وضغوطا أخرى على الهياكل الأمنية والاجتماعية. وينقسم موقف اللبنانيين بشأن هذه المعضلة وفق انقسامهم بشأن الموقف من سوريا ومن الأزمة في هذا البلد. غير أن كافة المكوّنات الرسمية والسياسية تعتبر أن الأمر يشكّل خطرا هوياتيا واقتصاديا لكنها تختلف وتتباين في اجتراح المقاربة المثلى لهذه المعضلة.
ولا يمكن للبنان حلّ أزمة اللاجئين السوريين باتفاقات ثنائية مع حكومة دمشق من دون تغطية دولية ما زالت تشترط تسوية سياسية وفق القرار 2254 لتمويل إعادة الأعمار في سوريا وإعادة اللاجئين. غير أن تدفق التحولات الإقليمية المتعلقة بالتقارب السعودي الإيراني ومساعي التقارب العربي التركي مع دمشق قد يكون مدخلا محتملا لحلّ مسألة اللجوء من بوابة أي تسويات سياسية ولو جزئية في سوريا.
والواضح أن حراكا إقليميا دوليا قد بدأ باتجاه تحريك ملف الحلّ في سوريا. وكان لافتا أن المبادرات العربية المتفرقة، سواء تلك التي قامت بها مصر والسعودية والإمارات والبحرين والأردن، أو تلك التي تناولتها الاجتماعات العربية الاستشارية التي ضمت وزراء دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى نظرائهم من العراق ومصر والأردن في جدة في 15 نيسان (أبريل) الماضي، أو مع هذه المجموعة بحضور وزير الخارجية السوري في عمان في الأول من أيار (مايو) الماضي، ركّزت كلها على المسائل الإنسانية وفي مقدّمها عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
صحيح أن المسألة معقّدة مرتبطة بالحلّ السياسي الشامل، لكن مقاربة جديدة تُقدّم الإنساني على السياسي من شأنها توفير مناخ جديد بإمكانه فتح ملفّ اللاجئين السوريين في لبنان على قواعد وازنة وجدية وواعدة. مع العلم أن الخوض في نقاش مسألة على هذا الدرجة من الأهمية، يحتاج من اللبنانيين أنفسهم ترتيب بيتهم الداخلي من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ذلك أن تحقيق هذا الاستحقاق من شأنه إعادة تشكيل السلطة في البلاد وإعادة وصل حكومتة بيروت ومؤسساتها مع العواصم والمؤسسات والمنابر العربية والإقليمية والدولية من أجل وضع خريطة طريق تحظى برعاية دولية لمعالجة أزمة اللاجئين ومحاصرة الشطط في تناولها.
يضيف تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان أثقالا على الاقتصاد اللبناني. ولا يمكن إلا إقحام معضلة اللاجئين هذه في كل السجالات الداخلية اللبنانية سواء على المستوى المالي الاقتصادي المتعلّق بكلفة هذا اللجوء على الخزينة اللبنانية، أو على المستوى السياسي لجهة استخدام قضية اللجوء وقودا داخل الصراع على تقاسم السلطة والثروة في لبنان. ويسهل على الجدل المحليّ، المتسرّع والمغرض، تعليق مشاكل البلد على مشجب “السوري” في لبنان، وصولا إلى تحميل اللجوء السوري وزر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. غير أن الاتحاد الأوروبي يرفض هذا التقييم، فيما تكشف بعض الدراسات عن أن الأزمة الاقتصادية في لبنان لا توفّر أحدا بما في ذلك اللاجئين السوريين في البلد، وترفض وجود علاقة مباشرة بين اللجوء وأسباب انهيار الهيكل الاقتصادي في لبنان.
على الرغم من حدّة الخطاب الرسمي الصادر عن حكومات بيروت واستخدامه لأغراض سياسية شعبوية داخلية، إلا أنه بقيّ منسجما مع القواعد التي تنظّم علاقات البلد مع المنظومة الدولية والمؤسسات المالية والدول المانحة. فيما ذهب الخطاب الحزبي بعيدا في المطالبة بعودة اللاجئين وجعل هذا الهدف من الأولويات. بالمقابل أظهرت حكومات بيروت توترا وتخبطا في التعامل مع قضايا اللاجئين المعيشيىة لا سيما في مجالات التعليم وصلت إلى حد اتخاذ وزارة التربية قرار بوقف تعليم اللاجئين السوريين في المدارس اللبنانية. كما عملت تلك الحكومات إلى عدم تسهيل أي قوانين أو إجراءات من شأنها دمج اللاجئين في الحياة الاقتصادية اللبنانية خوفا من التوطين الذي يرفضه لبنان في دستوره بالنسبة للاجئين الفلسطينيين.
تحتاج أزمة النازحين في داخل سوريا واللاجئين خارج سوريا إلى حلّ سياسي شامل يعترف به المجتمع الدولي برمته لتوفير التمويلات اللازمة لإعادة الأعمار وإعادة اللاجئين. وعلى الرغم من تبني روسيا إدارة الشأن السوري في جانبيه العسكري والسياسي بالتحالف مع إيران والتفاهم مع تركيا، غير أنه لم يصدر عن موسكو أو طهران وبكين وغيرها من العواصم الحليفة أي أعراض لخطة مالية بشأن سوريا من دون مشاركة المنظومة الغربية ودولها المانحة.
تقوم سياسة الدول المانحة إضافة إلى مقاصدها الإنسانية على تخصيص ميزانيات لدعم اللاجئين السوريين والدول المضيفة لهم، خصوصا في لبنان وتركيا المشاطئيْن للبحر الأبيض المتوسط، على أسباب أخرى هدفها عدم تكرار تجربة اندفاع اللاجئين باتجاه أوروبا على غرار ما حصل عام 2015 وسبب إرباكا أمنيا واجتماعيا وسياسيا لدى دول الاتحاد الأوروبي. ولطالما تمّ التحذير من أن أي تراجع للمساعدات الدولية سيؤدي إلى تدفق اللاجئين صوب أوروبا كملاذ آمن يحظى ببيئة قانونة ودستورية واقتصادية حاضنة.