متى ينزل وطن الأرز من الأراجيح؟

أمامي  كتاب لصديقي وجاري جان ملحة سفير لبنان السابق في دولة قطر، رحمه الله، عنوانه: “البيانات الوزارية”، جمع الرجل فيه البيانات الوزارية ل حكومات لبنان في 62 سنة أي منذ رياض الصلح رئيس حكومة لبنان الأولى الى رئيس الحكومة ال 22 فؤاد السنيورة.

لن يجد قاريء هذه البيانات أو متصفحها أو متابعها، سوى نصوصٍ مستنسخة متكررة تعد بالمنجزات، ويتصوّر قارئها أنّها تُقارب دولةً فريدة أو عظمى، لكنها في نهاية المطاف لا تقول جديداً، أو كأنها الشاهد التاريخي على جمود لبنان وحكّامه ودورانهم كما أحجار المطاحن الصخرية .

مثال واحد على ذلك:

 وقف أوّل رئيس حكومة رياض الصلح من صيدا في العام  1943 مع حكومته من خمسة وزراء أمام برلمان لبنان قائلاً:” نحن لا نريد لبنان للإستعمار مستقراً، وهم لا يريدونه للإستعمار اليهم ممراً، فنحن وهم إذن نريده وطناً عزيزاً، مستقلاً، سيّداً، حراً”.

 وبعد 62 عاماً، وقف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة من صيدا أيضاً في العام 2005، عقب إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخلفه دزّينتين من الوزراء ليقول أنّ:

” لن يكون لبنان ممراً أو مستقراً لأيّ تنظيم أو قوة أو دولة تستهدف المساس بأمنه وأمن سوريا تأكيداً على مبدأ أنّ أمن لبنان هو من أمن سوريا وبالعكس”. قال هذا بينما يرقد الشهيد رفيق الحريري وحوله لبنان في ساحة الشهداء التي أسماها “الداون تاون”، المدينة العريقة للمستقبل، بعدما جهد لإخراج وطنه  من ماضيه واللبنانيين المتقاتلين من خرائبهم نحو مستقبل الإنماء والإعمار قاطعا تلك العلاقة المرضيّة بين الأفعال الناقصة أعني “كان وأخواتها”، لكن اغتياله بدّد أحلام الغد وعدنا إلى الكوارث الموصولة بأبواب الجحيم.

لبنان. يا وطن الأزمات والماضي الدموي السحيق؟

نعم هو الحال والمُحال. ليس السبب في التعثر المألوف والتشظّي الوطني عند انتخاب رؤوساء الجموريات أو تأليف الحكومات وتحرير بياناتها، بل لأنّ شعوب لبنان معلّقون في الفضاء فوق أراجيح تمزّقت تدفعهم رياح الطوائف نحو جهات الكرة الأربع، وأدمن سياسيوه علاقات وإنقسامات وتفسّخات جذرية مرضية طائفية حادّة يطوون الزمان والتاريخ لم يطوهم:

فريق يشحذ شاهراً كلّ أصناف المعارضة والفعاليات الإعلامية وأسلحتها ومرجعياتها الدينية والعربية والإقليمية كلّها وفريق آخر يشهر سلاح التشفّي والسجون والمحاسبة والمساءلة، وفريق ثالث يُطرح مصيره ومصير سلاحه وصواريخه فوق الطاولات الحوارية والإقليمية والدولية، بينما الفرقاء الأعظم الذين لا يُعدّون من الشعوب اللبنانية يشحذون  اللقمة ونقطة الماء ومصباح الكهرباء ، متلهّفين اللحظة التي يرسون فوق أرض بلدهم الدوّار بعيداً من الثورات والإحتجاجات  والتدخلات القريبة والبعيدة وغموض المصير وقلق الأجيال.

ماذا يعني هذا الفراغ غير إنتفاء السلطة؟

لا يعني الإنتفاء السقوط  بقدر ما هو عيش اللبنانيين فوق الحفافي وتبعثرهم بين الحروب وردهات المطارات وعواصم العالم ومدنه. يقيمون في وطنهم على رأس السطوح لكنّ عيونهم وقلوبهم وأحلامهم في الخارج  هرباً من العواصف الهوجاء المتمكّنة منهم ترميهم الى تحت وتُذريهم  فوق المواقد الطائفية الدائمة الإشتعال.

تاريخ حكم مقيم بين الفراغ والتعثّر. إنتظرنا الفراغ لعامين ونصف تقريباً في كرسي رئاسة الجمهورية حتّى إنتخاب الجنرال ميشال عون الذي تنبّأ لنا بالجحيم. هلّل اللبنانيون إذ وجدوا بعدها رئيس حكومتهم لكنّ العائلات والمذاهب  تعثّرت أمام تأليف الحكومة. هكذا عاش لبنان في ال”قد”:  قد تتألّف الحكومة وما فات زمن الإنتظار المعتاد عليه بالنسبة للبعض وقد لا تؤلّف بالنسبة للبعض الآخر وليكن ما كان لأنّ الكيديات والمحاصصات والأمراض الطائفية والمذهبية تقبض على النفوس والكيانات.

إن سمح الله والخارج وتمّ تأليف الحكومة ولنقل تشكيلها، يقع  لبنان واللبنانيون مجدداً في تعثّر جديد مألوف، هو إنجاز البيان الوزاري المُشار إليه في مقدّمة هذا المقال والذي يتمّ تناسيه فور أن ينطق به رئيس الحكومة أمام البرلمان ويخرج بحكومته إلى القصر. يجب الإعتراف جهاراً أنّ البيانات الوزارية وحتّى الدستور اللبناني الجديد المنبثق من إتّفاق الطائف بعد 150 ألف قتيل في لبنان ال1975، تحوّل وجهات نظر وإجتهادات طائفية ومذهبية ومصلحية. يتقاتل “الزعماء” هم هم على الوزارات والثروات والسرقات وألقاب أصحاب المعالي الذين يبدون متنقلين من مكانٍ الى آخر في السياسة، وكأنّهم مالكو هذه البقعة الجميلة البائسة منذ ما قبل الميلاد بقرون.

ماذا يفعل اللبنانيون بالمقابل؟

يتلهّون حكّاماً ومحكومين بتقبّل التهاني ، مع أن التهنئة الحقيقية لرئيس جمهورية أو حكومة أو لوزير لا تكون عندما يتبوأ أحدهم المقام، بل إذا كان الأسف والحزن على فراقه وتركه للمقام أشدّ من السرور عند تبوئه إيّاه. هكذا يسعى الرؤوساء والوزراء والمدراء في العالم وفي كلّ زمانٍ ومكان للحصول على هذا التأسّف عند تركهم “المؤقّت” لمناصبهم، بدلاً من الحصول على سرور الناس المذهبيين وتملّقهم عند قعود أسيادهم فوق الكراسي أو في الشاشات وكأنّهم يحكمون بالكلام المنفوخ والإدّعاءات الفارغة والأكاذيب. يجتهدون في طرح منجزاتهم الشفاهية التي لا جذور لها في واقع اللبنانيين وعجزهم المُزمن في التبديل والتغيير والتحديث.

لا تتجاوز شعبية السلطات أكثر من 20 ألف لبناني حزبي يدورون في صالونات أصحاب القرار وحولهم ويقدّمون أنفسهم وقوداً لأحزاب زعمائهم مصادري لبنان العتيق أبّاً عن جد وقد تخطّى عمره المئة سنة. هؤلاء هم لبنانيو سلطات الطوائف ببساطة يتجذّرون في دوائر الدولة ويتقاسمون غلالها، أمّا الشعوب الأخرى فلا يعنيها كثيراً، ماذا يكتب أو يقال في البيان الوزاري أو في العلاقات السورية اللبنانية أو السعودية اللبنانية أو الإيرانية السعودية أو السين سين أي السورية والسعودية أو مقولة الشعب والجيش والمقاومة أو عدمها، بل الأكثر أهمية بالنسبة إليهم إمّا الشكوى والنقيق لحفظ الأمن وإقامة العدالة وصيانة الحريات وتأمين الماء والكهرباء وتدنّي الرواتب وتفاقم البطالة وتأمين الدواء والتعليم والفساد وغيرها من دون نتيجة والتي جعلت أعداد اللبنانيين المهاجرين في أرجاء العالم أضعاف أضعاف بقايا المُقيمين في “لبنان الأخضر”.

عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات البرلمانية قي لبنان

أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه