نبدأ من مدينة أولى حيث:
الفقر هناك خلف البنايات العالية، نغطيه بأوراق الموز لئلا يفقد ماء الحياة ويجف تحت شمس قاسية.
هناك الفقراء خارج الصورة، وحين يأتي الغرباء من بعيد لن يروهم، فيبدو كل شيء كما الرسم على الورق، مدينة على ورق وناسها بالأبيض والأسود، يتهيأون للألوان جميعا حين تحدد مصائرهم.
ولا حدود للفلوات خلف البنايات العالية. نسمع الغناء طالعا من كوخ وحيد. الصوت ينساب ناعما مثل غطاء الدفء لنائم يهنأ بأحلامه.
خلف البنايات العالية فلوات واسعة وفقراء كثيرون وأشجار قليلة. فقراء يؤلفون “شعوب العالم”، فكرة كانت تعم الدنيا بأحلام وكتابات وموسيقى وتظاهرات، وهي الفكرة التي انقضت. خلف البنايات العالية حطام شعوب تتوهم اليقظة، تمشي نائمة وتناضل نائمة وتموت نائمة لا تستيقظ، حطام لا يني يحطم نفسه بحماسة إيمانية حتى يتحول ذرات، يتحول ترابا.
هذه الفلوات كانت بشرا من لحم ودم فصارت حقولا بلا زرع، مع الاستثناء: أشجار قليلة شاهدة.
ونصل الى مدينة ثانية حيث المرأة تحرسها قطة شقراء في أعلى السلم، وأصص الأزهار على حافة النافذة، وموسيقى الحنان في الغرفة.
المرأة المدهشة في تشيلسي، في غرفتها المعلقة عند طرف بناية كبيرة وحيث تبدأ الحديقة العامة – البارك.
المدهشة هناك تقرأ روايات الحب، مرتاحة لما تبقى من ثيابها ومن شمس بلادها الأولى على جسد مشتاق.
تواجه القضايا الثقيلة بمزاح خفيف عابر:
الحياة أبسط من أن نتهيأ ونتهيب، والرغبة مزيج حطام وغفران.
المدهشة لا تزال في تشيلسي.
أتينا وأقمنا ورحلنا الى غير بلد وإلى غير خطر، وهي وحدها هانئة في حراسة قطتها وأزهارها… المدهشة.
وفي نافذة على الأدب الألماني لا ننسى شخصية الماجستر، بطل رواية هيرمان هيسه “لعبة الكريات الزجاجية” حيث عالم الرواية منظومة فكرية – ولنقل أكاديمية – موازية لمنظومة الكنيسة. كأن التأمل يبقى عصيا على رجال الدين ويحتل حيزا من حياة الإنسان ومنظومة تندرج فيها نخبة المتأملين.
هيرمان هيسه (1877-1962) الألماني/السويسري، حائز جائزة نوبل للأدب عام 1946، نقل فؤاد رفقة من الألمانية عددا من قصائده مع مقدمة من ثيودور ذيولكوفسكي وخاتمة من الشاعر/ المترجم، صدرت عن دار نلسن (لبنان/السويد) في عنوان “هيرمن هسه – قصائد مختارة”.
هذا الشاعر الذي خبر تركيب الرواية وتعقيدها يكتب قصيدته في مناخ آخر / الإيقاع الموسيقي والبساطة والرومنسية الذاهبة الى التأمل. كأن القصيدة لديه راحة بعد عناء، ونافذة على أفق فسيح بعد مغامرة في التشريح المكاني والبشري / جسدا ونفسا / تتطلبه الرواية، بل هناك من يذهب الى اعتبارها علاجا نفسيا، خصوصا في ترجمة فود رفقة العربية، ويرى “مصادفة سعيدة” أن يأخذ رفقة على نفسه واجب الوساطة بين الحضارات، كونه شاعرا عربيا موهوبا ومطلعا على شعرية العالم الأوروبي وفكريته، خصوصا العالم الألماني ومن القصائد المختارة “أحيانا”:
“أحيانا عندما عصفور يدعو
أو ريح تعبر الغضون
أو كلب ينبح في أقصى المزارع،
علي أن أصغي طويلا وأصمت،
عائدة الى ألاف السنين المنسية”.
ويبقى صديقنا حبيس البيت في الذكرى السنوية لاعتقاله.
هكذا عاهد نفسه قبل سنوات في ذلك اليوم المشؤوم حين اعتقل وهو عائد من المدرسة الجبلية، فرحا بتعليم الفلسفة العربية لشبان خاضوا حربا أهلية لمناهضة العروبة. كان يعرض صورة حضارية تناقض بشاعات الحرب والقتل المجاني بحسب هوية القتيل أو القاتل.
لكن الهوية أوقعته في المعتقل، لا هوية الدين أو الطائفة بل الاسم. كان الجندي المستعار من وراء الحدود من (سورية) يحمل لائحة أسماء، فاعتله وصادر سيارته وأرسله مخفورا الى طابق سفلي في قصر مصادر.
هناك التقى من يحملون اسمه، كان المعتقل يضم حوالي خمسين شخصا يحملون ستة أسماء فقط.
سبعة عشر يوما تنقل خلالها في ثلاثة أماكن مصادرة ولم يوجه اليه سؤال. كان واثقا من براءته لكنه يخاف من أمر واحد: أن ينسوه في تلك الأمكنة حيث لا سجلات ولا محققون ولا قضاة. ولم يحمه الأمل من الشعور باللاجدوى وبلعنة الإقامة في وطن تعبره الجيوش بلا مواعيد محطمة أهله وشجره وزهوره، وكم راوده حلم أن يكون شخصا هامشيا يعيش في جزيرة معزولة.
في اليوم السابع عشر أطلقوه. لم يتسلم سيارته ولم يسأل عنها. أحس أنه ولد من جديد، فهو اعتقل بلا سبب وأطلق بلا سبب في ما يشبه مصادفات وأقدارا لا يعرف أحد مشيئتها.
في ذكرى اعتقاله السنوية لا يغادر بيته. يتذكر من المعتقلات أولئك الذين يحملون اسمه ولم ير وجوههم في ما بعد. ويتذكر زميلا له يغمره الأمل دائما بالنجاة بفضل الله. رأى فيه نموذجا للمؤمن لا يخطئ الرجاء في أحلك الظروف. ويتذكر من هناك فرحا وحيدا مشوبا بالخجل حين أعطى بعض المال واستحم في غرفة الحراسة. وقف عاريا أمام الحراس يصب الماء الساخن من وعاء الصفيح، تتفتح خلايا جلده، هو السجين النظيف في أمكنة الحشر حيث يتراكم اليأس واحتمالات المرض.
وفي تعريف العطش يكتب من بعيد:
صانع الخبز لا يستسيغه، يفضل مأكلا بديلا. وصانع الثياب يلبس أبسطها. وصانع الحلوى يرغب بالفاكهة.
المغني يفضل الموسيقى والعازف يتمنى الغناء. أما ساكن البيت الضيق فيرغب بقصر، فيما صاحب القصر يحس بالبرد والخواء الى أن يضمه بيت صغير يشعره بالحنان.
وحده صاحب البئر لا يمل شرب الماء، والكاتب يأنس دائما بلعبة الكلمات قراءة وكتابة.
للعطش اسم آخر… الابتعاد عن الكتاب.
أبتعد عن الكتاب، لا أقرأ، لكنني اكتب من مهجري الكندي:
الثلج والأصدقاء هناك ولا مجال للتسكع، فيلتقون في بيت ضيق راسمين أحلامهم على الجدران.
الكرَم هو ما يبقى وعيون الدهشة وقليل من العنصرية تحت الثياب، كمن يخبئ مخدرات في جيب معطفه.
الشارع الصغير باسم صائد الثعالب والكبير باسم صائد الدببة. والطريق السريع باسم قاتل الهنود الحمر.
وهناك الثلج، والأصدقاء ما بين إقامة وإقامة. ولا عودة.
يحتفلون بالرموز، بأمثال من الأهل نسيها الأهل. كلماتهم فوق ثلج غريب. ألوان غريبة فوق ثلج ناصع.