التعافي الاقتصادي العالمي رهن تسريع التلقيح واستمرار التحفيز

 حذار “التباعد الكبير”

هلا صغبيني

في الاجتماع الافتراضي الأخير لوزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية في “مجموعة العشرين”، كان مصطلح “التباعد الكبير” نجم الصف الأول، على رغم إشاعة جو من التفاؤل الحذر بشأن استعادة التعافي العالمي، خصوصا مع بدء توزيع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا الذي كشف عن محنة الفقراء والتفاوت الكبير الّذي يسود في العالم.

هذا المصطلح يعيد الى الذاكرة ما شهدته أوروبا في قرون سابقة (خلافات بين المؤرخين حول تحديد القرن الذي حصل فيه التباعد الكبير) من نمو اقتصادي كبير وتضاعف في الموارد وذلك على حساب أجزاء أخرى من العالم، ويرسم بألوان فاقعة حجم الفجوة في الدخول التي كانت قائمة بين أوروبا وبين بقية دول العالم. ولأن البطلة كانت

الاجتماع الافتراضي لوزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية في “مجموعة العشرين”

أوروبا، فقد أطلق على هذا المصطلح أيضاً تسمية “المعجزة الأوروبية”، وأشاعه المؤرخ كينيث بوميرانز في كتابه عام 2000.

ما هي أسباب إعادة إحياء هذا المصطلح وإثارة المخاوف مما هو آت؟

منذ أكثر من عام، يواجه المجتمع العالمي تحدياً تاريخياً من الأزمات الصحية والاقتصادية المزدوجة التي تسببت فيها جائحة كورونا التي لا تحمل جنسية، ولا تحترم الحدود، والتي لا نزال نلمس تأثيرها المدمر على صحة الشعوب وعلى رفاهيتها واقتصاداتها، وعلى النسيج الاجتماعي للمجتمعات. ولا يوجد أفق لنهاية هذا الكابوس الذي يؤرق العالم.

التلقيح دواء التعافي

لاشك أن دول العالم تبذل جهوداً كبيرة من أجل الخروج من أزمة كورونا بعد الضرر الكبير الذي ألحقته باقتصاداتها، وفي سبيل محاولة القضاء على أسوأ ركود شهدته منذ فترة “الكساد الكبير”. بعض قليل منها بدأ بتحقيق نجاحات محدودة في هذه المعركة، فيما البعض الآخر يواصل مسيرة الصعود من أغوار هذا الركود.

إنّ أي انطلاقة فعلية للدول جميعها على طريق التعافي تكون عبر تسريع حصولها على اللقاحات، وإحراز تقدم في تلقيح العدد الأكبر الممكن من الشعوب، توازياً مع استكمال الاجراءات التحفيزية التي كانت اتخذتها على صعيد سياساتها النقدية والمالية العامة لمساعدة المواطنين والنشاطات الاقتصادية على مجابهة تداعيات كورونا وعلى الصمود. ولذلك، فهي مطالبة اليوم بالمزيد من توجيه الإنفاق لمواجهة أزمة العصر.

لا شك أن هذه التدابير التحفيزية المالية والنقدية تفاوتت بين دولة وأخرى لأن البلدان ذات الدخل المرتفع لديها قدرة أكبر على حشد الموارد لدعم اقتصاداتها. وهذا ما تبينه الأرقام. فالاقتصادات المتقدمة مثلا طبقت العام الماضي إجراءات مالية عادلت نحو 24 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 6 في المئة في الأسواق الصاعدة وأقل من 2 في المئة في البلدان منخفضة الدخل.

لقد كان وقع هذه “التدخلات” ايجابيا على توقعات نمو الاقتصاد العالمي. فصندوق النقد الدولي حسّن أخيرا توقعاته في شأن نمو الناتج المحلي الاجمالي العالمي، متوقعاً أن يبلغ 5,5 في المئة هذا العام و4,2 في المئة عام 2022.

لكن في المقلب الاخر، هناك عوامل عدة قد تبدد هذه الايجابية وتبطئ مسيرة الصعود وتجلعها طويلة ومحفوفة بعدم اليقين للوصول الى الاهداف المنشودة. أول هذه العوامل بلا شك بطء نشر اللقاحات التي قد تصبح قليلة – إن لم يكن معدومة- الفاعلية مع استمرار انتشار سلالات متحورة جديدة من الفيروس. وثانيه عدم العدالة والمساواة في الحصول على لقاحات بين البلدان، ما يجعل آفاق التعافي بين الاقتصادات وداخلها أكثر تباعداً على نحو “خطير”. وهو التعبير الذي استخدمته رئيسة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا خلال اجتماع “مجموعة العشرين”. وذهبت الى أبعد من ذلك بتوقعها تسجيل خسائر في البلدان الصاعدة والنامية (ما عدا الصين) في نصيب الفرد التراكمي من الدخل تصل إلى 22 في المئة بحلول عام 2022، في مقابل 13 في المئة في الاقتصادات المتقدمة. وحدها البلدان التي كانت تشهد تقلصاً في فجوات الدخل بينها وبين الاقتصادات المتقدمة، هي التي ستواصل المضي في هذا المسار على مدار الفترة 2020-2022. أما داخل البلدان، فقد كان الشباب ومحدودو المهارات والنساء هم الفئات الأكثر تأثرا بخسائر الوظائف، بحسب جورجيفا.

والى ما تقدم، تتعزز المخاوف من أن يصبح ملايين الأطفال الذين يواجهون اضطرابات في التعليم، جيلاً ضائعاً.

سيناريو متشائم؟

ماذا يعني ذلك؟ السيناريو واضح جدا. اذا لم تتم مواجهة الأزمة الصحية بالشكل المناسب والسريع غير المتسرع، فستشهد الاقتصادات المتقدمة وبضع أسواق صاعدة تعافياً سريعاً، بينما ستتأخر الدول النامية وذات الدخل المنخفض عن ذلك. وبسبب محدودية مواردها وضيق حيزها المالي، قد تقع هذه الأخيرة في عملية اختيار صعبة جداً بين الحفاظ على استقرارها الاقتصادي الكلي وبين معالجة أزمتها الصحية وتلبية حاجات مواطنيها الأساسية.

كما يعني ذلك أنّ تنبوءات صندوق النقد الدولي بامكان تقلص الفجوة بين الاقتصادات المتقدمة و110 من البلدان الصاعدة والنامية في الفترة بين 2020 و2022، قد يصبح أمراً صعب التحقق، على الأقل على المدى القريب.

ومن شأن هذا السيناريو أن يفاقم المعاناة الانسانية والاقتصادية التي تعيشها الفئات الأكثر هشاشة في المجتمعات من جهة، وأن يعزز الفجوة العميقة أصلاً بين الاغنياء والفقراء في العالم. فأرقام الفقراء الى ارتفاع بعدما سقط العديد من الاشخاص في براثن الفقر المدقع نتيجة تفشي كورونا. توقعات البنك الدولي في هذا الصدد أن ما بين 88 مليونا و115 مليون شخص سيسقطون في براثن الفقر المدقع في عام واحد، ليصل مجموعهم إلى ما بين 703 ملايين و 729 مليون شخص.

خطوات منسقة

إلا أن هذا الواقع قد لا يصبح ثابتاً في ما لو اعتُمدت خطوات منسقة ومشتركة لدرء المخاطر ووضع حد لمخاوف “التباعد الكبير”، على نسق:

– قيام تعاون دولي من أجل تسريع نشر اللقاحات في البلدان النامية والفقيرة، وتوفير تمويل إضافي لتأمين الجرعات المطلوبة وتحقيق زيادة كبيرة في طاقة إنتاج اللقاحات.

-مواصلة توفير الدعم الملائم للمؤسسات، وخصوصا الصغيرة والمتوسطة، وللعائلات، إن من خلال المالية العامة للحكومات أو من خلال مصارفها المركزية، الى حين ايجاد حل نهائي للأزمة الصحية الراهنة. فكلما حققنا تقدماً في إنهاء الأزمة الصحية كلما ارتفع الدخل العالمي. وفق صندوق النقد الدولي، سيساهم هذا الامر في رفع الدخل العالمي بقيمة 9 تريليونات دولار أميركي تراكمياً بين 2020 و2025، ما من شأنه أن يعود بالنفع على كل البلدان، بما في ذلك نحو 4 تريليونات دولار تحصل عليها الاقتصادات المتقدمة أي ما يتجاوز بكثير أي مقياس للتكاليف ذات الصلة باللقاحات.

-الاستمرار في تطبيق مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين (DSSI) التي كانت أطلقتها من الرياض “مجموعة العشرين” العام الماضي والتي تسمح للدول المخولة للاستفادة من تعليق مدفوعات خدمة الدين للجهات المقرضة الثنائية الرسمية، ودعم أبحاث وانتاج اللقاحات.

توصيات

على أي حال، فان وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية في “مجموعة العشرين” اتفقوا خلال اجتماعهم الافتراضي برئاسة ايطاليا، على تجنب أي سحب مبكر للدعم المالي والنقدي ومواصلة سياسة التحفيز الرامية إلى مساعدة الاقتصادات على اجتياز تداعيات كورونا، وتعهدوا تعزيز التعاون بهدف تسريع تعاف ما زال هشاً وغير متكافئ. كما أكدوا الالتزام بتعزيز التنسيق الدولي لمعالجة التحديات العالمية الراهنة عن طريق اعتماد نهج أقوى متعدد الأطراف والتركيز على مجموعة من الأولويات الأساسية. واتفقوا على تمديد مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين إلى منتصف العام الحالي 2021.

إشارة الى أن هذا الاجتماع هو الأول منذ أصبح جو بايدن – الذي تعهد إعادة بناء التعاون الأميركي مع المنظمات الدولية – رئيساً للولايات المتحدة.  ويجب التنويه بحجم التقدم الذي أحرزه هذا الاجتماع في قضايا شائكة كانت قائمة مع ادارة الرئيس السابق دونالد ترامب، مثل فرض الضرائب على الشركات متعددة الجنسيات، وخصوصاً شركات عمالقة مثل “غوغل” و”أمازون” و”فايسبوك”.

فواشنطن، وعلى لسان وزيرة خزانتها جانيت يلين، أبلغت المجموعة سحب اقتراح إدارة ترامب السماح لبعض الشركات بعدم الخضوع لقواعد ضريبة رقمية عالمية جديدة، وهو ما أثار الآمال في إمكان التوصل إلى اتفاق شامل على ضرائب الشركات متعددة الجنسيات خلال اجتماع المسؤولين الماليين لدول مجموعة العشرين بمدينة البندقية في تموز (يوليو) المقبل. كما تبلغت المجموعة من يلين عزم واشنطن على إصلاح اللوائح الضريبية الأميركية، بما يتماشى مع اقتراح من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وفي المقابل، يتوقع أن يصدر صندوق النقد الدولي حقوق سحب خاصة جديدة للدول الأعضاء، متجاهلاً مقاومة الهند، بعد أن قررت يلين الموافقة على اقتراح مجموعة العشرين، خلافاً للموقف الذي كانت اتخذته إدارة ترامب. وستساعد هذه الخطوة الدول الفقيرة على محاربة التداعيات الاقتصادية لتفشي فيروس كورونا.

ختاما، كلنا يعلم أنه لن يكون بمقدور أي دولة أن تعلن النصر بمفردها على جائحة كورونا. وكلنا يعلم أن كورونا لن تنتهي في أي مكان إلى أن تنتهي في كل مكان. كما أن كلنا يعلم أن لا خيار أمام اجتناب “التباعد الكبير” سوى مد يد العون الى الدول الفقيرة بهدف تقليص فجوة عدم المساواة. وغير ذلك سيشكل تهديداً كبيراً على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي العالمي.

العدد 115 / نيسان 2021