لبنان محكوم بالتوافق لكن المستحيل… ما الحل؟

بيروت – غاصب المختار

برزت في المشهد اللبناني مؤخراً تعقيدات سياسية جديدة تُضاف إلى تعقيدات وإشكاليات تشكيل الحكومة والوضع الاقتصادي والعيشي والنقدي المتهاوي تحت ضربات التلاعب بسعر الدولار الاميركي، وحيث ان نسبة 80 في المئة واكثر من الاقتصاد اللبناني باتت “مدولرة” ولم يعد لليرة اللبنانية قيمة تذكر، خاصة بعد ارتفاع نسبة التضخم نتيجة طبع كميات كبيرة من العملة الورقية ورميها في السوق من دون تغطية فعلية.

التعقيدات الجديدة تجاوزت الخلاف السياسي التقليدي والطبيعي في بلد التوازنات السياسية والطائفية الهشّة. فبين دعوة الكثير من الاطراف إلى مؤتمر وطني او مؤتمر تأسيسي او طاولة حوار وطني موسعة بما يؤسس لنظام حكم جديد، وبين دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى تدويل الازمة اللبنانية وطرق معالجتها عبر رفع القضية اللبنانية الى مجلس الامن الدولي، إنقسم لبنان مجدداً بين محورين كبيرين موافق ومعارض، وبينهما محور وسطي يبحث عن حل معقول يمثله بعض الحقوقيين.

وعلى الهامش، عاد ايضاً موضوع البحث في ثغرات اتفاق الطائف بعد الخلافات حول الميثاقية والتوازن الطائفي وصلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة المكلف تشكيل الحكومة، ما يطرح إمكان اعادة النظر ببعض مواده الدستورية. لكن ثمّة خشية غير مبررة يعبر عنها بعض الأطراف السياسية من تحويل صيغة دستور اتفاق الطائف من المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب والحكومة والتعيينات الادارية في مناصب الفئة الاولى، إلى صيغة مثالثة بين المسيحيين والمسلمين السنّة والمسلمين الشيعة! وهي عمليا صيغة مطبّقة منذ سنوات عبر توقيع وزير المال الشيعي على المراسيم والقوانين التي تصدر، وبعدما باتت حقيبة وزارة المالية من حصة الطائفة الشيعية بموجب العرف وبموافقة كل الاطراف. إذ ان نحو 80 في المئة من القوانين والمراسيم التي تصدر عن المجلس النيابي والحكومة يجب ان تقترن بتوقيع وزير المالية إلى جانب رئيسي الجمهورية والحكومة والوزير المختص، لا سيما وان اغلب هذه المراسيم والقوانين بحاجة الى إنفاق مالي لا يتم من دون المرور بموافقة وتوقيع وزير المالية.

المؤتمر التأسيسي وطاولات الحوار

واذا امكن تجاوز مسألة الخلاف على تحقيق المثالثة والخلاف على إعادة النظر ببعض بنود اتفاق الطائف ودستوره في الوقت الراهن، فمن الصعب تجاوز الخلاف المستعر حول دعوات التدويل والحياد وقرار الحرب والسلم وسلاح المقاومة بوجه الاحتلال الاسرائيلي، والدعوات إلى ألمؤتمر التأسيسي او مؤتمر الحوار الوطني. لأن جدول اعمال هذين الموضوعين مدار خلاف عميق وله ابعاد استراتيجية لا تتصل فقط بوضع لبنان الداخلي، بل بالوضع الاقليمي المتفجر وبالصراع العربي – الاسرائيلي، عدا علاقته بموضوع التوازنات الدقيقة الطائفية والمناطقية.

يرى البعض ان هذه الدعوات انطلقت لأسباب سياسية شعبوية آنية،  بينما يرى البعض الآخر انها ضرورة لحل الخلاف على دور لبنان وتوجهه. فأن يدعو رئيس الجمهورية ميشال عون الى حوار وطني حول القضايا الوطنية الكبرى، فهذا يعني حسب اوساط القصر الجمهوري أنه يستشعر خطراً محدقاً بلبنان، وخشية من تطورات مقلقة آتية تدعو الى العمل على إقفال النوافذ والفجوات، والى عملية تحصين داخلية استباقية.

وقد سبقه في مثل هذه الدعوة قبل اشهر قليلة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وتلاه عدد من الزعماء السياسيين، لكن خصوم الرئيس عون وحزب الله وحلفاؤهما رفضوا هذه الدعوات، لأنهم اعتبروها من باب البحث عن تغيير صيغة النظام وفرض معادلات جديدة للسيطرة عليه.

أول طاولة حوار عقدت في العام 2006 في عهد الرئيس إميل لحود في مجلس النواب برعاية الرئيس نبيه بري. وتخللتها سبع جلسات متتالية تم خلالها التوافق على: ميثاق شرف لتخفيف الاحتقان السياسي، وعلى نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات خلال ستة أشهر، فيما وافق الفرقاء على انتخاب رئيس جديد يحظى بالتوافق، وتم تأجيل البحث في الاستراتيجية الدفاعية عن لبنان بما يتضمنه من بحث سلاح المقاومة.

وفي تموز 2007 عقدت جلسة حوار في مدينة سان – كلو في ضواحي باريس، شارك فيها 14 ممثلاً من قيادات الصف الثاني، ولكن من دون التوصل إلى نتيجة.

طاولة الحوار الثانية عُقدت في 16 أيلول 2008 في عهد الرئيس ميشال سليمان، وفي العام 2012 جدد الدعوة لعقد جلسة حوار بهدف بحث ملف الاستراتيجية الدفاعية والسلاح المنتشر على الأراضي اللبنانية، وأفضت إلى صدور “إعلان بعبدا” في 11 حزيران 2012، والذي شدّد على النأي بالنفس وتحييد لبنان، الأمر الذي لم يُطبّق على وقع الحرب السورية، وبسبب الخلاف على مندرجاته ولم يتم التوافق الكلّي عليه.

اليوم ثمّة كلامٌ عن عقد طاولة حوار في ظل الخلاف السياسي والحديث عن تعديل الدستور وتغيير النظام وغيرها من مشاريع وصيغ لنظام سياسي جديد. وسط إقرار اغلبية القوى السياسية “أنّ النظام اللبناني فشل، ومن هنا ضرورة البحث في تطبيق ما تبقّى من اتفاق الطائف، وخصوصاً تحقيق اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، وذلك من خلال عقد طاولة حوار”.

فما هي المواضيع والملفات التي ستُثار مجدداً ومن سيحضر بعد التجارب الفاشلة السابقة؟

ثمة هواجس كثيرة متبادلة تمنع عقد اي مؤتمر حواري او تأسيسي لصيغة نظام جديد للبحث في كيفية تجاوز الازمات التي تتوالى عند كل منعطف سياسي. هناك هواجس لدى الاطراف المسيحية المعارِضة من تكريس غلبة الأكثرية الاسلامية في المجلس النيابي، وهواجس لدى الاطراف الاخرى من طرح مسائل تتعلق بتعديل الدستور لجهة استعادة بعض صلاحيات رئيس الجمهورية، التي باتت مُكرّسة دستورياً بيد مجلس الوزراء مجتمعاً لكنها عملياً بيد رئيس الحكومة وحلفائه في الحكومة.

على هذا، فكل طاولات الحوار التي عقدت كانت بمثابة “حوار طرشان”، لأن كل طرف لم يلتزم بما تم التوافق عليه، كما ان العوامل الخارجية فرضت نفسها على لبنان، لا سيما في موضوعي سلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات، كونهما مرتبطين بمسألة الاستراتيجية الدفاعية عن لبنان المختلف عليها وبعملية السلام في المنطقة.

الراعي ومحاذيرالتدويل

بالمقابل، برز طرح البطريرك بشارة الراعي تدويل الازمة والحل في لبنان، وحدد له عناوين واهداف واضحة، لكنه بحسب المقربين منه والمتصلين به لم يتحدث عن استعمال الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة لفرض تدويل حل الازمة. وقد ايدت موقفه وتبنت طروحاته واسبابها قوى سياسية عديدة وفعاليات من المجتمع المدني.

حدد البطريرك الراعي اسباب طرحه بمواضيع كثيرة، منها تعذر تشكيل حكومة بسبب الخلاف بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، ولأن “جميعَ المبادرات والوساطات اللبنانية والعربية والدولية قد استنفذت من دون جدوى، وكأن هناك إصرارًا على إسقاط الدولة بكل ما تمثل من خصوصية وقيم ودستور ونظام وشراكة وطنية”، إضافة إلى الازمة الاقتصادية والمعيشية والمالية وانهيار سعر صرف الليرة، وعدم البدء بلإصلاحات البنيوية الموعودة إقتصادياً وإداريا ومكافحة الفساد وتحقيق إستقلالية السلطة القضائية.

وأوضح الراعي أن الغرض من المؤتمر هو “توفير ضمانات دائمة للوجود اللبنانيّ تمنع التعدّي عليه، والمسّ بشرعيّته، وتضع حدًّا لتعدّديّة ​السلاح​، وتعالج حالة غياب سلطة دستوريّة واضحة تحسم النزاعات، وتسدّ الثغرات الدستوريّة والإجرائيّة، تأمينًا لاستقرار النظام، وتلافيًا لتعطيل آلة الحكم أشهرًا وأشهرًا عند كلّ استحقاق لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة ولتشكيل حكومة”.

وثمة من رأى أن من اسباب دعوة التدويل والحياد الخوف على مصيرالمسيحيين في لبنان والمشرق العربي، بما يعني تغييب دورهم وحضورهم السياسي والثقافي، والذي لا يحمي وجوده سوى قرار دولي. لكن البطريرك كان حريصاً على التوضيح ان دعوته لا تشمل اللجؤ الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، الذي يعني فرض الحل بالقوة على اي بلد.

مقابل هذا الطرح برر الرافضون تدويل الازمة رفضه بلسانهم مباشرة او عبر منابرهم الاعلامية بعدة عوامل ابرزها: “إن الذهاب بالأمر إلى مجلس الأمن يعني أننا نجلب كل دول العالم إلى لبنان لتحقيق مصالحها، وهي تجربة مرّ بها لبنان في اعقاب الاحتلال الاسرائيلي لمناطق واسعة من لبنان عام 1982 وقدوم القوات المتعددة الجنسيات عام 1983 الى لبنان فسببت مشكلات كبيرة امنية وسياسية. وهذا يخالف مصلحة لبنان ويتعارض مع مبدأ السيادة”. والمخاوف من فرض قوانين دولية معينة على لبنان تتعلق بالصراع مع العدوالاسرائيلي او بموضوع سلاح المقاومة، او بسياسة لبنان الخارجية وحتى في شؤونه الاقتصادية والمالية.

وثمة من رأى ان دعوة البطريرك الى الحياد الإيجابي إنما هي، في واقعها ومضمونها، “دعوة للإستقواء  بالدول الغربية الكبرى لإعادة فرض الوصاية على لبنان، لتحقيق الانقلاب السياسي على المعادلة الداخلية”.

خلاصة مواقف رافضي دعوات التدويل والحياد تقوم على انها ادت إلى مزيد من الانقسام الداخلي و”تضع لبنان  على شفير فتنة دموية لا يعرف أحد تداعياتها ونتائجها”.ورأت أوساط اخرى في طرح البطريرك الراعي “إذعاناً لرغبة بعض القوى السياسية الداخلية التي تعمل وفق أجندات مُعدّة سلفاً من الخارج”.

وبين الرأيين، ظهر حسب المعلومات، عدم حماس دولي لفكرة المؤتمر الدولي حول لبنان، نظراً لإختلاف المواقف بشأنه بين الدول المعنية بالشأن اللبناني، ومنها فرنسا بشكل اساسي، عدا روسيا ودول اقليمية اخرى مؤثرة، بسبب إحتمال حصول خلافات بين الدول حول المطلوب من هذا المؤتمر وإمكانية تنفيذ ما يمكن ان يصدرعنه، عدا عمّا يسببه من مشكلات اضافية في الداخل اللبناني.

الحل والتوافق المستحيل

نتيجة هذه التجاذبات والإنقسامات، بقيت كل الحلول مجمّدة، والمقترحات غير قابلة للنقاش، وهو امر عاشه لبنان عملياً منذ تأسيسه قبل مائة سنة بعد إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، وبعد الاستقلال عام 1943، وطالما كانت النار تكمن تحت الرماد، لا سيما وان ما عُرف بالميثاق الوطني الذي صدر بعد الاستقلال لم يؤسس فعلياً لبناء دولة مدنية بل أبقى على حقوق الطوائف متقدمة عل حقوق المواطنية، لذلك كانت بعض الطوائف تشعر بالخوف وبعضها الاخر بالتهميش واخرى تشعر بالغبن، حتى انفجرت الحرب الاهلية وجاء اتفاق الطائف ليوقفها بنصوص ملتبسة وليُقيم نظاماً غير متوافق عليه بشكل تام، ولم تفلح كل المحاولات في تحقيق التوافق على كيفية الخروج من هذه الازمات التي تتوالد كالفطر كل فترة، وتعيد البلاد سنيناً الى الوراء بدل تحقيق التقدم والرفاهية والازدهار كما هي حال دول العالم الطبيعية.

هذا التوافق المستحيل ناتج عن تركيب تحالفات وتوازنات سياسية وطائفية ونفعية مصلحية، تجعل امراء الطوائف والسياسة والمال متحكمين بكل التركيبة وبالتالي بمصير البلاد والعباد، ولامصلحة لهم في تحقيق تغيير ينزع منهم مكتسباتهم. والحل المرتجى بحسب رأي المجتمع المدني والاحزاب غير الطائفية، لا يقوم إلا ببناء الدولة المدنية المعاصرة عبر تطبيق بنود اتفاق الطائف الاساسية المنصوص عنها في الدستور، بإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي ومجلس شيوخ يمثل الطوائف كلها، وتحقيق اللامركزية الادارية (لا السياسية) الموسعة. لكن المشكلة ان الطبقة السياسية المفروض ان تطبيق هذه البنود عبر تشريعات في مجلس النواب وإجراءات تنفيذية من الحكومة، هي التي تمسك بزمام الامور التشريعية والتنفيذية، وكل هذه البنود هي في غير مصلحتها.

العدد 115 / نيسان 2021