التغيير هو وحده الدائم الخالد

ينطبق قول “فيلسوف النار” هيراقليطس: “لا يوجد شيء دائم إلا التغيير”، على عالمنا المعاصر الذي يشهد تحوّلاً ثقافيّاً غير مسبوق، يجرف في تيّاره كل ما هو قديم ليصوغ واقعًا جديدًا بمعالم مختلفة. إنّها ليست مجرّد موجة عابرة، بل زلزال حضاريّ يعيد تشكيل مفاهيم الحياة والتفاعل والإدراك على نطاق كوكبيّ. هذه الثقافة الجديدة، المدفوعة بالرقمنة المتفجّرة، والاتصال اللحظيّ الذي يلغي المسافات، وعولمة متسارعة تمحو الحدود، تتّسم بالسيولة والسرعة والتعدديّة التي لا تعرف التوقف. فتكسر الحواجز الجغرافيّة والزمنيّة، مقدّمةً أنماطًا فكريّة وسلوكيّة لم تكن مألوفة، وتُعيد تعريف الانتماء والمعرفة والتعبير الفني.

يكمن جوهر الفارق بينها وبين الثقافة التقليديّة في جذورها وعمقها، فبينما كانت الثقافة التقليديّة تتّسم بالرسوخ في الأرض، والاعتماد على السرديّات المتوارثة عبر الأجيال، والقيم الجماعيّة المتأصّلة في بوتقة المجتمع المحليّ والقبيلة أو العائلة الممتدة، تأتي الثقافة الجديدة بزخم التحديث والانفتاح على كل ما هو آتٍ. ينصبّ تركيزها المتزايد على الفرديّة والتعبير الشخصي، والتعرّض اللامتناهي للمعلومات الرقميّة، ونماذج استهلاك سريعة ومتغيّرة باستمرار، مدفوعة بمتطلبات السوق وتأثير الإعلانات. إنّها ثقافة الشاشة، تتسرّب إلى الوعي بلمسة زر، وتفرض إيقاعًا متسارعًا يهدّد بفصل الأجيال عن موروثها، أو على الأقل يعيد تعريف علاقتها به بشكل جذريّ، محوّلًا التقاليد من مرجع ملزم إلى خيار شخصي.

يقول “فيلسوف الإرادة” أرثر شوبنهاور “إنّ التغيير هو وحده الدائم الخالد”، ومن هنا يبدأ التحدّي الأكبر الذي يكمن في استحالة مقاومة هذا التيار الجارف، ويفرض كيفيّة استيعابه والتماشي معه بحكمة ورصانة، من دون أن نخسر بوصلتنا القيميّة أو نتخلّى عن جوهر إنسانيّتنا وخصوصيّتنا الثقافيّة. يقتضي ذلك منّا وعيًا عميقًا ودائمًا بما نستقبله من تيّارات فكريّة وسلوكيّة، والقدرة على غربلة كل ما يتعارض مع مكنوناتنا الأصيلة ومع قيمنا الإنسانيّة الخالدة. أن نكون جسر عبور يربط الضفاف، لا جدار صدّ يفصل بينها. نأخذ من الجديد ما يعزّز قدراتنا، ويفتح آفاقنا، ويوسّع مداركنا، مع إعادة تأكيد قِيَمنا الإنسانيّة الراسخة، وهي المرتكزات التي تمنعنا من التّيه في بحر المتغيّرات.

وهنا بيت القصيد، حيث “مقياس الذكاء هو القدرة على التغيير” بتعبير ألبرت أينشتاين. بذلك يمكن تحقيق هذا التوازن الدقيق من خلال مسارات عدّة، أبرزها ترسيخ الهويّة الثقافيّة لدى الأجيال الناشئة، وتقديم الموروث بطرق مبتكرة وجذّابة، وتعزيز الحوار الفعّال والبنّاء بين القديم والجديد، والاستفادة من أدوات العصر نفسها، لتعميق الوعي بالتراث والقيم، وتحويلهما إلى محتوى جذّاب ومؤثر. وربما، بذلك، لا تكون الثقافة الجديدة نقيضاً للقديم، بل تصبح امتدادًا له. فالتغيير ليس نهاية المطاف، إنما هو فرصة متجددة لإعادة اكتشاف الذات في ضوء المتغيّرات المستمرّة، وبناء مستقبل أكثر إنسانيّة وتوازنًا، يجمع بين أصالة الجذور وطموح الأجنحة. إن التكيّف الذكي لا يعني الذوبان، بل هو القدرة على التجدّد مع الاحتفاظ بالجوهر، ليظلّ الإنسان سيد ثقافته لا عبدًا لها.